عالم الأحياء التطوّرية ريتشارد دوكينز: لنعلّم الناس الفضول والتشكيك

نشر في 15-09-2015
آخر تحديث 15-09-2015 | 00:01
قد يكون العالِم الحي الأكثر شهرة في العالَم الناطق باللغة الإنكليزية. ذاع صيته أخيراً بسبب كتابه المثير للجدل The God Delusion، الذي وضعه في فئة الراحل كريستوفر هيتشنز بصفته الرجل الذي يمقته مؤيدو رواية الخلف. فهو في المقام الأول من أنصار داروين وعدو التفكير اللامنطقي. انتشر اسمه بادئ الأمر عام 1976 مع إنجازه العظيم The Selfish Gene، كتاب فكك بنى الحمض النووي وحلل دورها في النظام التطوري بطريقة سمحت لعامة الناس بفهمها. وبعد أن تخطى دوكينز الجريء اليوم السبعين من عمره، أعد هذا العالم الذي أوحى مظهره سابقاً أنه أصغر من أن يقدّم أفكاره على شاشة التلفزيون، مذكرات من جزأين: الأول بعنوان An Appetite for Wonder (2013) والثاني صدر أخيراً بعنوان Brief Candle in the Dark. تحدث دوكينز مع {غود ريدز} عن قيم حفظ الشعر غيباً، مستقبل البشرية، محاربة المنطق السيئ، وإرثه كرجل فكر.
ما أهم الذكريات المحببة إلى قلبك؟ عندما جلست لتدون كتابك هذا، هل فكرت في مذكرات محددة أردت أن تكون نموذجاً تتبعه في مذكراتك؟

تتألق مذكراتي من كتابين: يشكل الأولAn Appetite for Wonder سرداً زمنياً، وأعتقد أن النموذج المتبع في هذا الكتاب كان سيرة برتران روسيل الذاتية. أما في الكتاب الثاني، Brief Candle in the Dark، فأردت الابتعاد عن السرد الزمني، وأعتقد أنني اتبعت أسلوب كينغسلي آميس، روائي إنكليزي كتب مذكراته وفق محاور محددة. فقد خصص فصولاً لأناس مختلفين عرفهم، فصولاً للتعليم، وواحداً للجاز. لذلك أظن أن كينغسلي كان على الأرجح نموذجي فيBrief Candle in the Dark. خططت في البداية لإعداد كتاب واحد. ولكن عندما بلغت منتصف السرد الزمني، قررت أنني أود أن أقسم هذا العمل إلى قسمين. لاحظت أن السرد الزمني يلائم النصف الأول من حياتي. لكنني رغبت في الابتعاد عن هذا النحو من السرد في النصف الثاني لأنني أردته أن يكون أقل خصوصية وأكثر احترافاً. ولو اتبعت السرد، لأرغمني ذلك على تحديد ما حصل تالياً. لم أشأ أن يستمر القارئ في التفكير في ما سيحدث بعد ذلك.

تضيف الكثير من المراجع الأدبية إلى كتاباتك. أما زال الشعر والأدب يشكلان جزءاً مهماً من حياتك؟ وهل تظن أن الثقافة الأدبية مهمة بقدر الثقافة العلمية؟

الشعر مهم جداً في حياتي. لا أعتقد أنني أتعلم الكثير من الشعر الجديد. أظن أن الشعر الذي أعرفه يعود إلى الفترة التي كنت فيها شاباً. لكنني ما زلت أحب الشعر. أواجه صعوبة في قراءته بصوت عالٍ من دون أن أشعر بغصة، يؤسفني هذا الأمر وأتأثر كثيراً به. لكنني لا أميل إلى مطالعة الكثير من الشعر الجديد. أفضل العودة إلى ما أحببته في طفولتي.

أعلم أنك أثنيت على The Sixth Extinction، كتاب إليزابيث كولبرت عن تأثير الجنس البشري على الكوكب. فهل تعتقد أن الدين يمنعنا من حل بعض هذه المشاكل العالمية؟

أعتقد أن إحدى صفات الدين المدمرة أنه يعلمنا قبول ما لا يمكن تفسيره عموماً، بدل أن يحثنا على التمتع بفضول دائم والسعي باستمرار لحل المشاكل. لذلك يشكل The Sixth Extinction مثالاً، ومثالاً مهماً. لكني أعتقد أن الدين يكبل العلم. إلا أننا لا ننكر أن الكثير من العلماء العظماء في الماضي كانوا متدينين. حتى إن الدين كان له في بعض المراحل التاريخية تأثير إيجابي في العلم. لكن الوضع لم يعد كذلك اليوم، وأود لو يصبح الدين جزءاً من التاريخ.

يقول بعض النقاد إنك تتجاهل مَن يوجهون لك الانتقادات. وتتناول هذه المسألة في كتابك هذا. هل تعتقد أن من المهم التفاعل مع وجهات نظر الآخرين حتى لو كنت تعلم أنها خاطئة؟

آمل أن أكون لبقاً دوماً ومهذباً. لكنني أرغب في الوقت عينه بتسمية المسائل بأسمائها. أود بكل بساطة الدفاع عما تؤيده الأدلة. وإن لم تدعم الأدلة وجهة نظر ما، فلا أحترمها، مع أنني أحترم الإنسان كإنسان، بيد أنني لا أحترم وجهة نظره إن لم تؤيدها الأدلة.

تشكل التكنولوجيا جزءاً من مشكلة التغيرات المناخية. فهل تعتقد أننا سنتمكَّن يوماً من استخدام التكنولوجيا لإنقاذ نفسنا؟

نعم، تشكل التكنولوجيا جزءاً من المشكلة منذ الثورة الصناعية، حين بدأ الناس يستخدمون الفحم الحجري، ثم النفط. لا شك في أن هذه مشكلة كبيرة. أود أن أفكر أن التكنولوجيا في المستقبل ستحل هذه المشكلة باكتشافها استخدامات عملية مفيدة اقتصادياً لأنواع الوقود الأنظف.

صدم ستيفن بنكر الكثير من المشككين وأنصار الحركة الإنسانية بطرحه المثبت بأدلة عن أن عنف الجنس البشري يشهد تراجعاً على الأمد الطويل. على نحو مماثل، هل ترى أن العلم يفوز خلال الفترات التاريخية الطويلة في معركته ضد الخرافات والجهل؟

هذا سؤال مثير للاهتمام. تشير إلى كتابThe Better Angels of Our Nature. أكن إعجاباً كبيراً لستيفن بنكر. وأعتقد أنه كاتب مميز ومتنوع جداً. فمن المذهل ملاحظة الكم الكبير من المواضيع التي تمكن من تناولها بإتقان في كتبه المختلفة. يحتوي The Better Angels of Our Nature على طرح مفاجئ إلى حد ما عن أننا نزداد لطفاً ونسير نحو الأفضل. تكشف نظرة عامة إلى التاريخ أننا نصبح أقل وحشية. أقنعني طرحه هذا. لكن هذا التغيير لا يسير بالتأكيد وفق وتيرة واحدة، بل يشبه أسنان المنشار المتعرجة، مع أن الميل العام يسير نحو التحسن. لكننا قد نشهد في عقد واحد انقلاباً لهذا الميل. وأعتقد أن هذا ينطبق أيضاً على تقدم التعليم العلمي. صحيح أننا نحقق عموماً الفوز خلال الفترات التاريخية الطويلة، إلا أننا قد نشهد نكسة ما على الأمد القصير، تماماً مثل أسنان المنشار.

أي مثال عن التطور يمكنني أن أستخدم لأقنع صديقاً أن التطور قد حصل فعلاً؟ من الأفضل أن يكون بالتأكيد مثالاً يستطيع أن يفهمه أي إنسان عادي ولا يقتصر على الخبراء المتخصصين.

نعم، ثمة أمثلة كثيرة. نملك فيضاً من الأدلة التي تأتي من مصادر مختلفة. ولعل الأكثر إقناعاً بينها يرتبط بالجزيئات. قد لا تظن أن هذا مثال بسيط يستطيع الإنسان العادي فهمه، إلا أنه في الواقع نسخة عصرية عمّا استعمله داروين نفسه في التشريح المقارن. على سبيل المثال، تأمل داروين هيكل الفقريات العظمي، ثم قارن هياكل الفقريات العظمية من أنواع مختلفة، مظهراً أن العظام ذاتها كلها موجودة، إلا أنها تختلف بحجمها. وهكذا يسهل رؤية أنها كلها تتحدر من سلف واحد. فليد الإنسان، جناح الخفاش، وزعنفة الدلفين العظام ذاتها. إلا أنها تختلف من حيث حجمها بغية أداء وظائف مختلفة.

أعتقد أن النسخة العصرية من هذا الطرح تكون العلوم الجينية الجزيئية، حيث يمكنك أن تشير إلى جينات محددة أو بروتينات معينة تنتجها الجينات، وحيث يكون تسلسل قاعدة كيماوية متطابقاً بدقة في مختلفة الأنواع مع اختلافات طفيفة. يشبه هذا مقارنة نصوص وثائق قديمة، لنقل مثلاً وثائق مختلفة والإنجيل. يمكنك في الواقع إحصاء عدد من الاختلافات بين الجرذان والفئران، وستعثر على عدد لا بأس به من الاختلافات. ومن ثم عدّ الاختلافات في أحرف الحمض النووي بين الجرذان والخلد، وستعثر على فارق كبير، ثم بين الجرذان والكنغر، وستكون الاختلافات أكثر. يمكنك أن تعد الاختلافات، وهذا ينطبق على كل الجينات. عندما تقوم بأمر مماثل، تلاحظ أن الحيوانات والنباتات والبكتيريا وسائر الأشياء تندرج كلها في خطة هرمية متفرعة لا يمكن أن تكون إلا سلسلة نسب. لا يُعقل أن تكون أي أمر آخر. ويشكل هذا دليلاً أكيداً وحاسماً على بنى النسب الهرمية. أعتقد أن هذا أكثر إقناعاً من الأدلة الأحفورية، مع أن هذه الأدلة تمثل أيضاً دليلاً مقنعاً.

منذ The Selfish Gene، اتخذ عملك وشخصيتك العامة منحى أكثر ميلاً نحو السياسة. ما هو برأيك الدور السياسي المناسب لشخصية فكرية عامة مثلك؟ وأي إرث تود أن تخلفه؟

أعتقد أن هذا مهم بالنسبة إلى الناس، بما أننا نعيش في عالم وفي مجتمع. لذلك لا يمكننا أن نتجاهل السياسة والوضع السياسي الذي نعيش فيه. ولهذا السبب أقدمت على خطوة مماثلة. لكن هذا الميل لا يدوم طويلاً عادةً. أما إذا كنت تتساءل عن إرثي، فآمل أن يكون إرثي الطويل الأمد، إن حظيت بواحد، علمياً ويقوم على ما حققته على الأرجح في تبديل عقول الناس ونظرتهم إلى العلم وفي تثقيفهم حول نوع العلم الذي أتقنه: علم الأحياء التطورية.

في هذا الكتاب، تتحدَّث عن أسلوبك في إجراء مقابلات الدخول مع طلاب الجامعات. ما نوع التفكير الذي تود أن يتحلى به مَن يدخلون عالم العلوم؟ ما طريقة التفكير التي ترغب في أن يتبناها الشبان؟ وأي نوع من العقول تود أن يمتلكون إن كانوا سيحلون المشاكل الكبيرة التي تواجهنا اليوم وفي المستقبل؟

أؤمن كثيراً في ما تحول اليوم إلى عبارة مستهلكة: تعلم الناس كيفية التفكير لا الأفكار. علمهم الفضول والتشكيك. أؤيد هذه الفكرة بشدة. من الواضح أن على الإنسان تعلم حقائق كثيرة، فضلاً عن تعلم الشعر وتعلم أمور نعرف اليوم يقيناً أنها حقيقية. يجب ألا نهمل ذلك. لذلك أعتبر في كتابي، بطريقة مرحة إلى حد ما، اختبار الثقافة العامة إحدى الطرق الجيدة لتقييم ما إذا كان عقل الطالب قابلاً للتعلم. فإن كان تلميذ المدرسة يعرف كماً كبيراً من المعلومات عن مسائل كثيرة، لا تُعتبر معارفه بحد ذاتها المهمة، بل يشكل هذا نوعاً من الاختبار أو مؤشراً إلى أن الولد يجيد التعلم على الأرجح، يبرع في اكتشاف المسائل، ويتقن التعلم القائم على الفضول. لذلك أعتقد أن علينا الجمع بين اختبار المعارف واختبار الذكاء. سمعت عن طلاب في سن الثامنة عشرة لا يستطيعون العثور على أفريقيا على خريطة العالم. لا يشير هذا إلى الجهل المطبق فحسب، بل إلى غياب الفضول أيضاً. وقد تترافق هاتان المشكلتان معاً. وهكذا يكون اختبار المعلومات وسيلة لاختبار مدى فصول الإنسان.

ماذا تطالع راهناً؟

أقرأ The Anatomy of Love لهيلن فيشر. إنها زميلة وهي متخصصة في علم الأنثروبولوجيا. هذه الطبعة الثانية من كتابها  The Anatomy of Love. لا تدرس الجنس فحسب، بل أيضاً الحب أو الحب الجنسي بطريقة متميزة. صحيح أنها تلجأ إلى المعارف البيولوجية، إلا أنها تقدمها من منظار مختلف. كذلك أعتقد أن مات ريدلي كاتب علمي مميز. وله كتاب جديد لم يُنشر بعد بعنوان The Evolution of Everything.

ما مشروعك التالي؟

أناقش احتمال إعداد مجموعة من المقالات.

back to top