حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (3 - 15)

«ابن النكتة» وملك «القفشات»

نشر في 08-06-2016
آخر تحديث 08-06-2016 | 00:05
«كان نجيب يصحبنا في رمضان إلى مقهى «الفيشاوي» القديم، في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، حيث كان أساطين النكت و«التريقة» على خلق الله. كانوا محترفين، يتصايحون بالنكت الجنسية السافرة، ويا ويل من يستلمون «قافيته». وكان نجيب يتصدى لهم بمقدرة غريبة على توليد الأفكار وتحويلها إلى نكت، فيجعلهم أضحوكة الجميع، وكان صوته جهورياً، وكان خارقاً في سرعة ابتداع الفكرة. حتى وصل به الأمر إلى أنه كان يتصدى بمفرده لعشرين شخصاً دفعة واحدة، وكان ينطلق بالنكتة تلو النكتة من دون أن يتوقف حتى يسكتهم جميعاً. وكنا نحن رفاق صباه ننقلب إلى «مطيباتية» له، فإذا بخصومه ينضمون إلينا ويصبحون من جوقة «المطيباتية» أيضاً. كان رجلاً جباراً في النكتة إلى حد أنه كان يضحك خصومه على أنفسهم».
هذه شهادة الدكتور أدهم رجب صديق شباب نجيب محفوظ عن هذا الجانب في شخصيته الذي يجمع عليه كل الذين احتكوا به مباشرة ولو لمرة، كلهم يؤكدون روحه المرحة، وقدرته الفذة على توليد النكتة وسبك «القفشة» التي تتميز بخفة الدم والعمق في الوقت نفسه.
«القفشة» هي النكتة، وهي المداعبة، وهي موقف تلقائيّ يستغلّه الإنسان المَرِح ليصنع منه «نكتة» ويُضحك الحاضرين عليها. وحسب هذا التعريف وطبقاً لشهادات كل الذين احتكوا مباشرة بنجيب محفوظ فهو «ملك القفشات»، وصاروخ «الإفيهات» كما كان يطلق عليه «الحرافيش»، ولا تخلو المجالس المحفوظية من قفشة مفاجئة مباغتة لا يتوقعها الجالسون تُخرِج ضحكاتهم من الأعماق طازجة وبريئة وسخية بمشاعر المرح. والقفشة فن مصري أصيل ينتمي إلى زمن جميل، المشاكل العامة فيه كانت أخف وطأة، الأوقات الجميلة فيه كانت تمضي مسرعة مع الصحبة المقرّبة والقلوب الصافية. 

نجيب محفوظ بالتعبير الشعبي «ابن نكتة قراري»، وهذا جانب أصيل في تركيبته الشخصية، روحه الساخرة لم تتخل عنه حتى في أحلك المواقف ولا في أصعب اللحظات، عندما زاره الأديب ثروت أباظة في المستشفى عقب محاولة اغتياله الفاشلة، وكان ثروت معروفاً بضخامة بنيته الجسدية، وظل يبكي ويهتز جسده تأثراً من البكاء، ومحفوظ ممدد على سريره ويكاد لا يستطيع الكلام، ورغم ذلك انطلقت روحه المرحة ليقول له:» إيه يا ثروت هو أنت اللي انضربت ولا أنا››.

في حضرة نجيب محفوظ، تتعلم آداب الخلاف قبل آداب الحوار، وتسعد بروحه المرحة، ونكاته الرائقة. شاركت في لقاءاته، سواء التي انعقدت على مدار سنوات في أكثر من مكان بالقاهرة طول السنة وفي الإسكندرية أشهر الصيف، مجموعة متباينة الميول والأفكار، ومتناقضة الاتجاهات من دون أن يعلو صوت أو تنطلق كلمة سباب أو يجري تبادل الاتهامات. كانت جلساته تجمع الشامي والمغربي والشباب والشيوخ والمسلمين والمسيحيين والمتحررين والمتعصبين ومن لا لون لهم، بينهم كتاب وصحافيون ورجال قانون وأصدقاء قدامى، وأحياناً لا تخلو تلك الخلوات المحفوظية من متطفلين. كانت الحوارات حقيقية ومعمقة خلاقة ومتجددة، ولم يكن يحتكر الحديث وحده كمجالس الآخرين. كانوا هم نجوم كل «قعدة» وأصحاب المجلس، يتحدثون في المتواجدين، ولكنه وحده كان يطلق عنان الحوار لكل صاحب رأي، ولو اختلف معه، يناقشون كل شيء يتعلق بالفكر والدين والفن والثقافة والسياسة وكانت النكات والقفشات المحفوظية غالباً تطرز تلك اللقاءات بحبال المودة والانسجام.

جمال الغيطاني أحد أقرب مريدي نجيب محفوظ إلى نفسه، يقول: «مجرد استعادة هيئة الأستاذ لحظة إلقائه النكتة أو توليدها أو نطقه القفشة يجعلني أبتسم». ويجمع مجالسوه على أن النكتة المحفوظية تتميز بالذكاء والثقافة والدقة وشحنة السخرية العالية، وكانت دعاباته غالباً ساخرة وموحية ونافذة وموجعة أحياناً. وفي هذا يرون أنه في الوقت الذي كانت الأخبار تتوالى عن الذين يهربون بأموال البنوك وقروض المودعين إلى الخارج، وكان بعض هذه القروض يقدر بالمليارات، وكلها مقترضة من البنوك العامة بضمانات واهية، وسط هذه الأنباء تسلم نجيب محفوظ «شيك مليوني» من ناشره إبراهيم المعلم، صمت قليلاً وهو يضع الشيك في محفظته ثم قال: تعرفوا أنا بأفكر في إيه دلوقتي؟ تطلع إليه الحضور منتبهين، فقال: «بأفكر أسيب البلد وأهرب»، وانفجروا جميعاً في ضحكٍ كالبكاء.

 

المدافع في الجنينة

نجيب محفوظ  كابن بلد حقيقي محب للحياة، كان يستعين بالنكتة على المصاعب، وهكذا المصري تجري النكتة في دمه، يخفف بها ما يلقاه من منغصات وإحباطات، هو نفسه يقول: «روح الفكاهة إحدى الخصائص الأساسية للشخصية المصرية، فلا شك في أن الإنسان الذي لديه صبر الانتظار فإن روحه تكون سمحة تميل إلى الدعابة، وقد وجد الكاريكاتير على جدران بعض المقابر القديمة ليؤكد لنا أن روح الدعابة التي يتمتع بها المصري الآن تعود إلى أجداده القدامى». وهو كان يرى أن المصري يستعين على المُلمات بالفكاهة والدعابة، وتنتشر النكتة السياسية بشكل غير عادي في عصور القهر، لأنها وسيلة المصري السلمية لمقاومة ظلم الحاكم، كذلك تساعده الفكاهة في تحمل بعض متاعبه الشخصية مثل محدودية الرزق وباقي مشاق الحياة اليومية.

لا شك في أن الروح المرحة ساعدت نجيب محفوظ في صناعة التوازن في شخصيته، بين الجدية والصرامة وبين السخرية والفكاهة، كان في شبابه صاحب نكتة مجلجلة وضحكة صاخبة ظلت مصاحبة له حتى في شيخوخته مع ما كسته الأيام من أحزان، إلا أنه ظل حسب شهادة الأديب يوسف القعيد حريصاً على أن يسمع من جلسائه آخر نكتة في البلد. كان يتابع النكت كما يتابع الأخبار أولاً بأول، وبقيت قدرته على توليد النكتة في ذروتها حتى قبيل رحيله، وظل طول الوقت قادراً على انتزاع الضحكات من الأعماق.

وأحد المواقف المضحكة المبكية ويعبّر عن قوة الشعور الوطني عند وفاة الزعيم سعد زغلول ولا يخلو من روح الدعابة، ما يذكره نجيب محفوظ عن صديقه القبطي الذي كان زفاف أخته بعد وفاة زغلول فتكللت بطاقات الدعوة بالسواد وكّتب في نهايتها {البقية في حياتكم لموت زعيم الأمة}.

لم يتكرر كثيراً هذا النموذج الفذ الذي تجسده شخصية نجيب محفوظ، التي تجمع في تناسق وتزاوج غريب بين الجدية والانضباط في الحياة، وبين الصعلكة وخفة الدم. يحكي الأديب والكاتب الساخر محمد عفيفي، أحد أمناء سر شلة {الحرافيش} أنه لاحظ أن نجيب محفوظ كان يخرج من جيب السروال ساعته الكبيرة وينظر فيها تمهيداً لأن يخرج من جيب السترة علبة السجاير ليدخن سيجارة. يقول عفيفي: {كنت أظن أن لا علاقة بين الأمرين، واحتجت إلى أسابيع عدة قبل أن أكتشف أنها عملية منظمة وخطة مرسومة}، فقد كان الكاتب الكبير يرفض أن يدخن السيجارة إلا بعد أن يتأكد من أنه قد مرت على سابقتها ساعة كاملة، في الوقت الذي كان فيه عفيفي قد حرق نصف علبة سجائر. وأحد المواقف الغريبة في هذه القصة، أنه إذا ما قالت له ساعته التي استشارها أن الستين دقيقة تنقصها دقيقتان، فإنه يضع علبة السجائر وينتظر مرور الدقيقتين.

استطاع جيران نجيب محفوظ أن يضبطوا ساعاتهم على مواعيد نشاطاته المختلفة مرة في الصباح لحظة خروجه من البيت لعمله، ومرة في المساء لحظة يضاء فيها النور في حجرة مكتبه. ورغم هذا الانضباط ، كان الأديب منطلقاً على سجيته، خفيف الظل، حاضر النكتة سريع البديهة. وعلى جانب آخر من شخصيته كان محفوظ يخاف بشدة، حسب شهادة الأديب الساخر محمد عفيفي. يحكي الأخير أنه أثناء الحرب العالمية الأولى هرب محفوظ من حي العباسية، حيث مسكنه إلى الأزهر توجساً من الغارات: {كانت أسنانه تصطك من الفزع حقيقة لا مجازاً، وكان أحياناً يمضي الليل منذ الغروب في المخبأ، وهو الذي قال العبارة المأثورة {يا نينة... المدافع في الجنينة}.

في التفاصيل، أن الأديب أوى إلى مخبأ في إحدى الحدائق فإذا بالقنابل تدوي حوله إلى الحد الذي خاف أن ينهار المخبأ عليه، فهرب منه وصاحت والدته تحاول إقناعه بالعودة فإذا به يقول لها صارخاً: {يا نينة المدافع في الجنينة».

فلسفة الضحك

يروي زكي سالم في كتابه «صداقة ممتدة» حين تقدم نجيب محفوظ في سنة 1930 للدراسة في كلية الآداب، واختار قسم الفلسفة، كان الدكتور طه حسين عميد الكلية، وكان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ليتأكد من خلال الحوار معهم، أنهم أحسنوا اختيار الدراسة في أقسام الكلية المناسبة لهم. وحين سأل العميد الطالب نجيب محفوظ عن سبب اختياره دراسة الفلسفة دون غيرها، عبَّر محفوظ عن رأيه، وأفاض في القول، حتى أوقفه الدكتور طه حسين مداعباً وهو يقول له: «إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم».

ومن الحكايات التي ذكرها سالم أيضاً أن الدكتور جلال أمين، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية حضر ندوة، وكان متحمساً تجاه أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه التلفزيون في حياة الناس، وقال: «إنه إذا عُهد إليه بقيادة العمل في هذا الجهاز الخطير، فإنه يمكن أن يغير مصر كلها»، وكان تعليق نجيب محفوظ صادماً وساخراً وحقيقياً، علق الأستاذ ضاحكاً: «نعم يمكن أن تغير مصر كلها من خلال التلفزيون إذا كنت تبث ساندويتشات».

ويحكي جمال الغيطاني أنه أثناء إشرافه على سلسلة  «الذخائر» التي كانت تصدر عن هيئة قصور الثقافة، ومعروف أنها سلسلة كتب تقدم فيها نصوص مختارة ومهمة من التراث العربي، تشعب الحديث في حضور نجيب محفوظ حتى وصل إلى الأنباء التي ترددت عن راقصة شرقية شهيرة أعلنت عن نيتها التقاعد وكتابة مذكراتها، فالتفت محفوظ إلى الغيطاني وهو يقول بجدية شديدة: {ابقى طلعها في الذخائر}.

برلنتي عبد الحميد الممثلة المشهورة كانت تسكن الطابق العلوي من العمارة نفسها التي كان يسكنها محفوظ. وفي سنة 1992، ضرب مصر زلزال كبير استمر لمدة نصف دقيقة تقريباً، ما أصاب معظم البيوت، خصوصاً القديمة منها بتصدعات وبعضها تهدم. وعندما سأله {الحرافيش} في جلستهم الأسبوعية عن إحساسه لحظة الزلزال قال: {كنت أجلس في الصالة، شعرت بقوة الزلزال، وتطلعت إلى السقف منتظراً سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري}.

ومن نوادره مع توفيق الحكيم يروي أنه أول يوم ذهب فيه إلى مقهى {بيترو} في الإسكندرية لملاقاة الحكيم، استقبله بما عرف عنه من لطف، وكمن أراد أن يؤكد لضيفه ما أشيع عنه من اتصافه بالبخل، قال له: {ممكن أطلب لك فنجان قهوة على حسابي وستضطر إلى أن تطلب لي غداً فنجاناً على حسابك، فبدلاً من التعب فليدفع كل منا حسابه بنفسه}. رد عليه نجيب محفوظ: {إذا كان ما يمنعك هو خوفك من أن أضطر إلى أن أطلب فنجان قهوة غداً، فإني أعدك ألا أطلبه، وممكن تطلب لي الفنجان وأنت مرتاح}. ولكن الحكيم ضحك وقال لمحفوظ: {وهل يعقل هذا وأنت باين عليك طيب وابن حلال، اطلب القهوة على حسابك اطلب}.

أفواه المساطيل

السخرية من الواقع في حياة نجيب محفوظ لم تقتصر على جلسات الأصدقاء، بل امتدت لتشمل رواياته، فكثير من شخصياتها وأبطالها كانوا ساخرين. مثلاً، شخصية محجوب عبد الدايم الشهيرة في رواية «القاهرة الجديدة» أحد أهم ملامحها جملته الساخرة والرنانة «طظ». كذلك كانت تتخلل الرواية تعبيرات أخرى ساخرة من الواقع الفاسد على لسان شخصية محجوب مثل «الشهاده بغير شفاعة أرخص من ورق اللحمة». ومن خلال هذه الجمل العبقرية التي تحمل من الدعابة والمرارة الكثير، عبّر نجيب محفوظ عن «محجوب»، هذه الشخصية التي فقدت الإيمان بأي قيم وتحولت إلى شخص انتهازي.

روايته الشهيرة «ثرثرة فوق النيل» متمردة على الواقع الممتلئ بالكذب والخداع ومليئة بالسخرية، سواء من المواقف أو الحوارات، ويتجلى ذلك في شخصية «أنيس زكي» وتعاملها مع المحيطين بها. والرواية مزدحمة بالجمل الساخرة: «والحق أن الجوزة تدور لأن كل شيء يدور، ولو كانت الأفلاك تسير في خط مستقيم لتغير نظام الغرزة»، و»ليلة أمس اقتنعت تماماً بالخلود، ولكنى نسيت الأسباب وأنا ذاهب للأرشيف»، «ما دامت الجوزة دائرة، فماذا يهمكم؟!»، «خذوا الحكمة من أفواه المساطيل».

وإحدى طرائف محفوظ، أنه عندما صدرت رواية «ثرثرة فوق النيل» وأثارت ضجة لانتقادها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الستينيات، قابله أحد المسؤولين، ليسأله عن المغزى الذي قصده في روايته على لسان بعض الشخصيات، فأجاب محفوظ: «ده كلام حشاشين».

في مسألة فوزه بجائزة نوبل العالمية، كانت له {قفشات محفوظية} عدة، وهو من البداية يعترف: {لم يذهب عقلي بمنتهى الصراحة نحوها أبداً، وجلست قبلها بأسبوع أتناقش مع مجموعة من الأصدقاء حول من سيأخذها من الكتّاب العرب، إذا رشحوا عربياً لها. ولم أكن من بين هؤلاء. الحقيقة أنها كانت مفاجأة. رغم أنني رشحت كثيراً لها، ولكني كنت أعتبر ذلك نوعاً من التشجيع والتكريم. فوجئت تماماً عندما أعلنت الجائزة}.

{صباح يوم الخميس 13 أكتوبر سنة 1988، وصلت إلى مكتبي في جريدة {الأهرام}. بدأ زملائي يتوافدون على مكتبي، جرى الحديث وقال أحد الزملاء اليوم ننتظر إعلان جائزة نوبل في الأدب، ورد زميل آخر أرى أن القائمين على أمرها ما زالوا يتجاهلون أدباء العالم الثالث، فقلت له: أعتقد أن حركة الترجمة تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فكيف يصل إنتاجنا إلى هؤلاء، وهو محبوس داخل لغة لا يفهمونها. وبعدها انفضت الجلسة، فذهبت إلى البيت وتناولت غذائي، وذهبت إلى النوم، جاءت زوجتي على غير عادتها توقظني في لهفة وهي تقول:

{انهض يا نجيب. {الأهرام} اتصلوا يقولون إنك حصلت على نوبل}. كانت دهشتي بالغة، أولاً لأنني لم أكن أعرف أنني مرشح، وثانياً لم تفاتحني أية جهة أدبية سواء في مصر أو في خارجها في أمر هذا الترشيح}.

مستر نوبل

قال محفوظ: «لم تكن جائزة نوبل متوقعة وظللت أقول لزوجتي التي أخبرتني نبأها كفي عن المزاح». تقول زوجته حين أيقظته قال لي: «إحنا في أكتوبر خليها لأبريل». يقصد أنها «كذبة أبريل».

يوضح محفوظ: «فجأة رن جرس الهاتف، وكان المتحدث الصحافي محمد باشا مدير تحرير الأهرام الذي بادرني بالتهنئة:

ـ مبروك عليك الجائزة.

جلست ما بين مصدق ومكذب، فهل فزت حقاً بجائزة نوبل، وقبل أن ألتقط أنفاسي رن جرس الباب، ودخل عليَّ خواجه ضخم وزوجته، فقلت له: من أنت؟ فقال أنا سفير السويد. عندئذٍ أدركت أنها حقيقة، جاءا ليقدما لي هدية عبارة عن قدح فاخر من البللور السويدي، ولكني لا أعرف فعلاً كيف قابلت السفير السويدي بالبيجاما، كذلك كنت أكلت مع الطعام بصلاً، لأنك يا توفيق (يقصد المخرج توفيق صالح) أخبرتني إنه يخفض السكر. هل كان من الضروري في أسبوع جائزة نوبل أن تقول هذه النصيحة؟».

ولأن الجائزة كانت سبباً لانتهاك حرية نجيب محفوظ الشخصية، على حدِّ تعبيره، خصوصاً أن أجهزة الإعلام المصرية والعربية والعالمية هجمت عليه، وظلت تلاحقه من كل ناحية، لإجراء حوارات صحافية معه، ولا تسمح له بالعودة إلى الحياة الهادئة التي ظل يحافظ عليها طول الوقت، كان يسخر من الأمر أمام من تبقى من «الحرافيش» ويقول: «في النهاية، أصبحت موظفاً لدى مستر نوبل»!

وفي هوجة «نوبل»، احتفت جهات عدة بمحفوظ بإقامة تماثيل له في بعض الميادين، وفي المرة الوحيدة التي ذهب فيها لمشاهدة تمثال أقيم له في ميدان «سفنكس» في حي المهندسين، فوجئ بأن النسب والمقاييس غير دقيقة وأن التمثال لا يعكس شكله، فعلق مازحاً: «يظهر أن الفنان الذي صمم التمثال ده لم يقرأ لي سوى رواية «الشحاذ».

كثير من الظرفاء تنسب إليهم نكت ونوادر لبعضهم البعض‏،‏ فكامل الشناوي الصحافي والشاعر كانت له قفشات ونكاته ونوادره، وقد نسبت إليه نكت كثيرة لم يقلها‏،‏ لكن أصحاب النوادر كي يجعلوا الناس يضحكون أكثر‏،‏ فإنهم ينسبونها إلى كامل الشناوي، حدث هذا مع نجيب محفوظ أيضاً، فقد نسب البعض إحدى قفشات أنيس منصور النادرة، كان قد كتبها قال: وقفت في إشارة مرور‏، وكانت نجوى فؤاد في سيارة أكبر إلى جواري،‏ وقالت لي‏:‏ إزيك؟ قلت‏:‏ الله يسلمك، ثم عادت تقول‏:‏ بذمتك مش الرقص أحسن؟ (تقصد أن الرقص أركبها سيارة أكبر وأفخم‏)، فقلت لها‏:‏ والله معك حق‏،‏ فهز الوسط أحسن من هز القلم».

وفي فترة من حياته، عمل نجيب محفوظ رقيباً على المصنفات الفنية. كان يوافق على القبلات بأنواعها كافة، ما عدا واحدة، تلك التي تستقر على العنق، خصوصاً لو طال زمنها على الشاشة أكثر من دقيقة. وسألوه في حوار صحافي: هذا عن الشاشة ماذا عن الواقع، ماذا تفعل كنجيب محفوظ الإنسان لو رأيت شاباً وفتاة يختلسان قبلة في الشارع؟ أجابهم: «أبداً أبعد وجهي الناحية الأخرى، وأبتسم وأقول: أوعدنا يا رب».

back to top