إنه حقاً عالم بوتين

نشر في 03-04-2014
آخر تحديث 03-04-2014 | 00:01
 يال غلوبل يقال إن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل أبلغت الرئيس الأميركي أوباما خلال محادثة جرت أخيراً حول الأزمة في أوكرانيا إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "يعيش في عالم آخر"، وكانت تسعى إلى توضيح تصرفات بوتين الطائشة. معلقون آخرون اعتبروه غير عقلاني بل شخصية مهووسة، وعلى الرغم من ذلك كان بوتين خلال الأسابيع القليلة الماضية سيد اللعبة، ويطلق المفاجآت ويخلق وقائع على الأرض، متحدياً العقوبات الغربية ويذهل الكل بجرأة طموحاته، وعلى العكس من مضاعفات تعليقات ميركل يتعين علينا العمل ضمن عالمه، وقد يتعين علينا بذل جهد من أجل فهمه.

وفي حقيقة الأمر فإن ذلك ليس غريباً، وقد درج قادة الغرب على التعايش معه حتى عقود قليلة، كما أن زعماء آسيا لا يزالون يلعبون وفقاً لقواعده.

إنه العالم الجيوسياسي الذي يتسم بمنافسة القوة العظمى والمصمم وفقاً لظروف روسيا الغريبة، والأكثر من ذلك أن بوتين بالنسبة إلى طلبة التاريخ الروسي شخصية مألوفة، وهو وريث تقليد طويل من التفكير الاستراتيجي الروسي، وما يطلق الروس عليه "مدرسة القوة العظمى" للعلاقات الدولية، وهو يتمحور حول 4 أفكار رئيسة:

* الدول ذات السيادة هي اللاعب المركزي في شؤون العالم، كما كان شأنها منذ معاهدة وستفاليا لسنة 1648. والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية، والكيانات غير الرسمية الأخرى ليست لاعبة مستقلة تتبع مصالحها الضيقة، بل مجرد أدوات لقوة الدولة.

* النزاع محتم لأن الدول ذات السيادة تسعى بطبيعتها الى تحسين قوتها ومكانتها عبر المنافسة في ما بينها.

* القوة العملية هي عملة عالم النزاع وعدم الانسجام.

* القوى العظمى فقط تستطيع حقاً متابعة سياسة خارجية مستقلة. وهي، بالتحديد، الدول القليلة التي تقرر بنية الشؤون العالمية وجوهرها واتجاهها.

استعادة دور روسيا

وتمشياً مع هذا التفكير، كرس بوتين نفسه، منذ وصوله إلى السلطة قبل 14 سنة، من أجل استعادة دور روسيا كقوة عظمى في أعقاب المهانة الوطنية في حقبة التسعينيات من القرن الماضي. وقد كتب بوتين لدى تسلمه الحكم لأول مرة "خلال السنوات الـ200 – 300 الماضية واجهت روسيا خطراً حقيقياً في التراجع الى المرتبة الثانية، وربما الثالثة حتى، في ترتيب دول العالم. والوقت ينفد منا من أجل التصدي لذلك الخطر، ويتعين علينا تجنيد كل القوى الثقافية والمادية والمعنوية من أجل القيام بذلك". وحسب تفكيره فإن المسار نحو استعادة العظمة يكمن في الفكرة الروسية وهي خليط من الوطنية القومية والقوة والدولة والتضامن الاجتماعي.  خلال الفترتين الأوليين من رئاسته قام بوتين ببناء دولة مركزية وحقق تعافياً اقتصادياً. وطوال السنوات العديدة الماضية ركز على اعادة توليد قوة روسيا المادية من خلال زيادة ثابتة في الانفاق الدفاعي وتحديث الجيش. ومع ضم شبه جزيرة القرم أعلن بوتين نهاية 35 سنة من التقهقر الجيوسياسي الذي بدأ عبر غزو أفغانستان العاثر في عهد بريجنيف. لم يكن ثمة سمة غير عقلانية في هذا الأسلوب ولا جهود ترمي الى إخفاء الأهداف، ويجب ألا يفاجأ أحد بتقدم بوتين خطوة فخطوة نحو تحقيق مهمته، حتى مع أن نجاحه أكبر مما يتوقعه أي إنسان في سنة 2000.

السؤال بالنسبة إلى الغرب

ويتمثل السؤال بالنسبة الى الغرب في المدى الذي ينوي بوتين المضي اليه في تقدم روسيا على الصعيد الجيوسياسي: هل من حدود جغرافية تتعلق بفكرة بوتين إزاء عظمة روسيا؟ هنا، أيضاً، تطرح التقاليد الروسية البعض من الخيوط.

تقع روسيا على السهل الأوراسي الكبير الذي لا حدود له على وجه التقريب. وهو مساحة تمتد من أوروبا الشرقية الى المحيط الهادئ، وكان العمق الاستراتيجي حيوياً بالنسبة الى الأمن، وبناء على ذلك عمد القادة الروس الى إبعاد الحدود ما أمكن عن الداخل الروسي حول موسكو، ولم يتوقف توسع روسيا كثيراً عندما اصطدمت بحدود دفاعية كما كانت الحال لدى مواجهة قوى من ألمانيا والنمسا ثم ألمانيا موحدة في الغرب، والصين في الشرق وقوى أنغلو ساكسونية تمثلت ببريطانيا العظمى أولاً ثم بالولايات المتحدة في الجنوب، وقد حددت تلك القوى المجال الاستراتيجي الروسي.

المجال السوفياتي السابق في الوقت الراهن، وباستثناء دول البلطيق وروسيا نفسها، منطقة دول هشة تزخر بنخبة فاسدة وفقر مفسد يوفر القليل من المقاومة لروسيا الديناميكية، ولم تكن تلك هي الحال قبل وقت طويل، وفي السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي كانت موسكو تراقب بقلق شديد قيام قوى خارجية– الولايات المتحدة في المقام الأول ثم قوى غير رسمية، وخاصة المجموعات الإسلامية الراديكالية، بالتغلغل في المنطقة لإضعاف وجود روسيا وتهديد أمنها، وإلى أن بدأ بوتين عملية إعادة بناء الدولة لم تكن لدى موسكو وسيلة للمقاومة.   

وقع حدثان في سنة 2004– الهجوم الإرهابي الشيشاني على مدرسة في بسلان في شمال القوقاز والثورة البرتقالية في أوكرانيا– وأسهما في ربط التهديدات المتعددة في ذهن بوتين وإبراز عوامل وأبعاد التحدي.

وقد أقنعه هجوم بسلان بأن الولايات المتحدة كانت تستخدم الإرهاب المضاد على شكل سحابة دخان لتحقيق تقدم جيوسياسي لأنها لم تكن بعيدة عن استخدام ما اعتبره الإرهابيين الشيشان من أجل "قضم قطعة مهمة من روسيا" بحسب وصفه. وحققت الثورة البرتقالية الصلة في تفكيره بين تحسين ديمقراطية أميركا واندفاعها الجيوسياسي داخل المجال الروسي الاستراتيجي. وفي حقيقة الأمر، فكر بوتين في أن ذلك الحدث هو تجربة لخطط واشنطن بالنسبة إلى روسيا نفسها، ورداً على ذلك عمد الرئيس الروسي إلى الشروع في وضع سياسة محكمة تجمع بين الجيش والاقتصاد وأدوات القوة الناعمة من أجل مواجهة الولايات المتحدة وتأكيد تفوق روسيا في شتى أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق. وأعقب ذلك منافسة أكثر حدة، ولكنها سرية الى حد كبير، في آسيا الوسطى، على شكل حروب غاز ضد أوكرانيا وجورجيا، والاستيلاء على أبخازيا وأوسيتا الجنوبية من جورجيا في سنة 2008 ثم ضم القرم.

وفي سنة 2011 أعلن بوتين طموحه الطويل الأجل والمتمثل بجذب كل الدول السابقة في الاتحاد السوفياتي إلى اتحاد أوراسي تهيمن روسيا عليه، وتشكل أوكرانيا اليوم ساحة المعركة المركزية والأساسية في هذه الرؤية لأنه من دون أوكرانيا لا يشكل ذلك الاتحاد خطة منطقية سواء من الناحية الاقتصادية أو الاستراتيجية، وذلك نظراً لإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة وموقعها الاستراتيجي المركزي بين روسيا وأوروبا.

إن طريقة إحباط التوسع الروسي لا تتم من خلال منع تأشيرات دخول وتجميد أرصدة خاصة بمسؤولين روس وشركائهم التجاريين، وهو الأسلوب الغربي الحالي، كما أن العقوبات على القطاعات الاقتصادية كلها، كما يهدد الغرب اليوم، لن تنجح على الأرجح. ويطرح الأمن القومي على الدوام الوضع الاقتصادي الجيد في عالم موسكو وبوتين، ويشير التاريخ إلى أن طريقة وضع حد لروسيا تكمن في تنظيم المناطق على حدودها، وقد فعل الغرب ذلك في أوروبا الشرقية ودول البلطيق، وهي تقبع بأمان اليوم في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، على الرغم من أن الدول هناك في حاجة إلى تطمينات ودعم مستمر من أجل تعميق اندماجها في المؤسسات الأوروبية.

ولكن أوكرانيا تميل، مثل مولدوفا ودول القوقاز، نحو التحول الى دولة فاشلة، وتعزيز أوكرانيا على شكل دولة عصرية يمثل هدفاً كبيراً يتطلب عملية استبدال كاملة للنخبة الضارية التي خربت التنمية الاقتصادية، وبحسب صندوق النقد الدولي فإن اقتصاد أوكرانيا نما بنسبة الربع تقريباً منذ سنة 1992، في حين حققت روسيا أكثر من الضعف، مع مليارات الدولارات لجسر الهوة المالية في الأجل القصير والمزيد من المليارات لبناء اقتصاد عصري منافس. ويراهن بوتين على أن الغرب يفتقر الى الموارد والرؤى والصبر من أجل المساعدة على تعضيد أوكرانيا، وهو يعتقد أن التاريخ الى جانبه وأن عالمه هو الحقيقي، ولايزال على الغرب أن يبرهن على أن بوتين مخطىء.

توماس غراهام

back to top