كيف تفوق بن لادن على أميركا وحقق مبتغاه؟

نشر في 30-01-2014
آخر تحديث 30-01-2014 | 00:01
 ذي تابلت أخبر الرئيس الأميركي باراك أوباما ديفيد رمنيك في مقابلة نُشرت أخيراً في مجلة New Yorker، محاولاً استبعاد ظهور تنظيم القاعدة مجدداً في الآونة الأخيرة: "إذا ارتدى عدد من الهواة ملابس فريق اللايكرز لكرة السلة، فلا يصبحون بالتأكيد كوبي براينت". قد يكون أوباما محقاً، إن كان يتحدث عن التخطيط لعملية مريعة أخرى شبيهة باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر على الأراضي الأميركية، لكن تشبيه تنظيم القاعدة بلعبة كرة السلة وفرقها يعكس سوء فهم عميق للأهداف الاستراتيجية لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فلم تكن الغاية منها إيجاد ظروف مؤاتية لتنفيذ اعتداءات أكبر على الأراضي الأميركية أو ضمان استمرارية التنظيم، بل إطلاق سلسلة تفاعلات تبدّل التاريخ وتحوّل الشرق الأوسط إلى منطقة لا تعود الولايات المتحدة متحكمة في أي من أحداثها أو تفاصيلها.

بخلاف أوباما الذي هلل لما دُعي الربيع العربي، معتبرا إياه فجر عصر جديد من الديمقراطية في الشرق الأوسط، أو بوش ومستشارته كوندوليزا رايس اللذين تخيلا العراق نموذجا للدول العربية الأخرى، ما كان أسامة بن لادن مهتماً يوماً بالنتائج القصيرة الأمد أو بالديمقراطية الغربية الطراز، فرغم عشقه للخطابات القصيرة المصورة، تمحور تفكيره حول أحداث تاريخية توجهها رؤيته الاستراتيجية، التي أمل أن تؤدي إلى تأسيس خلافة إسلامية.

بالنظر إلى رسالته الخاصة الأخيرة المعروفة التي تعود إلى 25 أبريل 2011، مات بن لادن وهو راضٍ، فبعد مشاهدته سقوط النظامَين العلمانيَّين المدعومَين من الغرب في تونس ومصر على قناة CNN، قبل أن تداهم الفرقة الخاصة الأميركية مجمعه في أبوت أباد بباكستان، كتب بفرح: "يُعتبر ما نشهده اليوم من ثورات متعاقبة حدثاً عظيماً ومجيداً. تسير الأمور بقوة، بفضل الله، نحو خروج المسلمين من تحت سيطرة الولايات المتحدة".

حتى في هذه المرحلة المتأخرة، يصعب على صانعي السياسات الأميركيين فهم كيف أتاح إتقان بن لادن لمنطق الحرب المتناقض بطبيعته (منطق يختلف كل الاختلاف عن نمط التفكير البسيط الذي يعتمد على السبب والنتيجة والذي يوجه الحياة الطبيعية والسياسات الانتخابية على حد سواء) لرجل لا وطن له ولا أسلحة ثقيلة ولا حتى قدرة على ولوج الإنترنت، إعادة صوغ العالم بطريقة تخدم مصالحه. كذلك يشير وضوح بصيرة بن لادن الاستراتيجية، التي تبدو اليوم جلية، إلى أن التفاعلات التي تعمّد إطلاقها ما زالت تعتمل بطرق توقعها قبل موته، طرق ما زالت تهز الشرق الأوسط وستشكل دوماً تهديداً للأميركيين في الولايات المتحدة.

***

لم يتردد بن لادن يوماً في توضيح ما يحدث ولماذا، واللافت للنظر أن تصريحاته العلنية عن منطقه الاستراتيجي وغاياته من استهداف "العدو البعيد" ظلت متناغمة، بدءاً من أول فتوى ضد الولايات المتحدة وصولاً إلى الرسالة الأخيرة التي كتبها قبيل موته. ففي "إعلانه الحرب ضد الأميركيين الذين يحتلون بلاد الحرمَين الشريفَين" عام 1996، بعيد تفجير برجَي الخبر في المملكة العربية السعودية، أوضح أن "من الضروري ضرب العدو الرئيس الذي يقسّم الأمة (العالم الإسلامي) إلى دول صغيرة وقليلة ودفعه خلال العقود الأخيرة إلى حالة من الحيرة".

توقع بن لادن أن رد الولايات المتحدة على اعتداء ما سيكون الانجرار إلى حرب، ولكن عندما تسوء الأمور، يحاول الأميركيون الهرب، وفي ردّ على وزير الدفاع الأميركي آنذاك وليام بيري، الذي نعت مفجري الخبر بالجبناء وتعهد بعدم الاستسلام، سأل بن لادن: "أين كانت هذه الشجاعة الزائفة التي تملكونها عندما حدث تفجير بيروت عام 1983 (1403 هجرية)، فقد تحوّلتم حينذاك إلى إرب وأشلاء مبعثرة، فقد لقي 241 جنديّاً من البحرية مصرعهم".

بدت سخرية بن لادن أكثر حدة عند تناوله سحب إدارة أوباما القوات الأميركية من الصومال عامَي 1993 و1994. ذكر: "قُتل عشرات من جنودكم في معارك صغيرة وجُرّ أحد الطيارين الأميركيين في شوارع مقديشو. غادرتم المنطقة وأنتم تجرون أذيال الخيبة والذل والهزيمة وموتاكم. ظهر كلينتون أمام العالم بأسره مهدداً ومتوعداً بالانتقام. إلا أن هذه التهديدات كانت مجرد استعداد للانسحاب". ثم شرح بن لادن مجدداً استراتيجيته في تصريح صدر باسم الجبهة الإسلامية العالمية ونُشر في صحف عربية في لندن بعد تفجير القاعدة عام 1998 المدمرة يو إس إس كول وقتل 17 بحاراً أميركيّاً.

عاد بن لادن في أحاديثه الخاصة والعلنية عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر إلى المحاور عينها مراراً، ويتضح ذلك على الأقل في ثلاثة أرباع تصريحاته العلنية ورسائله الخاصة لمجاهدين آخرين والتي صودرت من مجمعه في أبوت أباد ونُشرت لاحقاً. أوضح في رسالة يُعتبر محتواها منسجما تماما مع تصريحاته الأخرى: "الهدف إضعاف الولايات المتحدة إلى ألا تعود قادرة على التدخل في شؤون المسلمين. وبعد إنزال الهزيمة بالعدو الأميركي، تقضي الخطوة التالية باستهداف قادة المناطق الذين يشكلّون أعمدة دعم تلك الهيمنة الأميركية".

يشكّل كل هذا برهاناً على إتقان بن لادن منطقاً غير متوَقّع يحفّز أفكاراً استراتيجية، منطق عجز القادة الأميركيين الواضح عن التفكير استراتيجيّا، ومنطق أن رئيسين أميركيين لا رئيسا واحدا أديا دورهما بأمانة في هذا السيناريو الجيو-سياسي: جورج بوش الابن المتشدد مع احتلال العراق المفتوح والمتهور، وباراك أوباما المسالم مع سحبه المتسرع والمبالغ فيه للقوات العسكرية الأميركية والحد من نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكن كان يجب أن يتحلى هذان الرئيسان ومستشاروهما الكثر بوعي أكبر.

لكن المثير للقلق فعلاً أن بن لادن أدرك بسهولة أنهم لن يكونوا أكثر وعياً، لا يعود ذلك إلى الحزب السياسي الذي ينتمون إليه، بل إلى هويتهم الأميركية، فمن المفيد بالتأكيد أن يحكم البلد قادة سياسيون متخرجون من مؤسسات مثل كلية التجارة أو الحقوق في جامعة هارفارد، لا من منظمات ثورية سرية أو بنى أمنية تلطخت أيديها بالدم في الدول المستبدة. إلا أن من الواضح أن السياسة الخارجية مجال لا أهمية فيه للخطابات الجيدة والنوايا الحسنة، فربما كان من الأفضل للولايات المتحدة أن تختار في مجال التفكير الاستراتيجي قادة عاشوا في أكواخ من الطين في أفغانستان وأمضوا أوقات فراغهم في مطالعة الكتب الدينية الإسلامية: بتطبيق منطق أيام السلم البسيط على فترات الحرب التي تتطلب مقاربة جدلية تحفّز التفكير الاستراتيجي، ساهم بوش وأوباما كلاهما في التسبب بكارثة سنشهد عواقبها المريعة على الولايات المتحدة والعالم العربي طوال عقود مقبلة.  هل من بارقة أمل في هذه الكارثة الاستراتيجية الشاملة التي نجح أسامة بن لادن في إلحاقها بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ وفق المنطق المتناقض الذي يميز التفكير الاستراتيجي عن تفكير زمن السلم، يكون الجواب "نعم". ولكن علينا اليوم البحث جاهدين لرؤيتها.

قد يضمن تطور التحالف الأميركي مع إيران أو تحسّن العلاقات بين البلدين فشل مَن خلفوا بن لادن في توحيد المسلمين في خلافة في المستقبل القريب، ورغم ذلك، من الصعب رؤية كيف سيساهم التخلي عن حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين القدماء، مثل مصر والمملكة العربية السعودية، لاسترضاء نظام شيعي ديني بغيض (فجر عملاؤه في لبنان ثكنات جنود البحرية الأميركية في بيروت عام 1983، وعذبوا مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية في بيروت وليام باكلي وأميركيين آخرين حتى الموت، ويشنون اليوم حربا ضد مصالح الولايات المتحدة في العراق وسورية وغيرهما) في استمالة عقل الأكثرية العربية السنية وقلبها. من الصعب أيضا معرفة كيف سيحد التغاضي عن برنامج طهران النووي العسكري من تحوّل الولايات المتحدة إلى هدف محتمل بالنسبة إلى إيران والأجيال المقبلة من المجاهدين الذين سينشؤون في دول فككتها خيانة الأميركيين لحلفائهم السابقين.

لم تؤسَّس خلافة بن لادن بعد، ولكن من الخطأ الاستخفاف بمَن خلفوه أو اعتبار الحرب التي شنناها ضد القاعدة ناجحة، فقد تمكن بن لادن من خداع الأميركيين وجرهم إلى حرب يريدها كان لها عواقب توقعها، ما يعني أنه هو المنتصر، وأن الولايات المتحدة والشعب، الذي ادعينا في الماضي أننا نهتم بخيره اهتماماً عميقاً، خسرا.

David Samuels

back to top