حجر

في بلدنا، شرط الموظف الحكومي رفيع المستوى والناشط السياسي خطير المحتوى أن يقرأ ويكتب، والأهم أن يكون يعرف "الناس الصح"، أما أن يجهل جلال الدين الرومي أو أن لا يعرف شيئاً عن أحمد شوقي أو أن لا يكون قد سمع قط اسم أفلاطون أو أرسطو، فتلك نواقص جانبية، ولربما هي في الواقع مزايا تخلي في العقل مساحة للمزيد من التعنصر والطائفية وتفرش في النفس وسائد السمع والطاعة، وتفسح في القلب مكاناً للأقربين الأولى بالمعروف، ولتذهب مبادئ القيم الإنسانية والديمقراطية والمدنية الحديثة إلى غياهب الجحيم.لهذا نحن نعاني، نعم حكومات باردة ومشاريع فاسدة وأموال سائبة، نعم مجالس خربة ونواب متعنصرون وتقنين متطرف، إلا أن هذا كله لا يتأتى سوى من بنية نفسية ركيكة، حرمت الفن والثقافة، ومنعت من كل ما يرقق القلب ويطهر النفس ويربط البشر ببعضهم بعضا. الموسيقى والفن لغات عالمية، لا تحتاج الألمانية لتفهم موسيقى بيتهوفن مثلاً، ولا تحتاج الإسبانية لتستمتع بلوحة لبيكاسو، وعندما تعيش في مجتمع يتأفف من هذه الفنون، نوابه يحاربونها وحكوماته تتجنبها، فأنت تعيش في مجتمع لا يتحاور بلغات عالمية، لا يريد أن يعرف الآخر المختلف ولا يرغب في مد جسور الوصال البشرية. أنت تعيش منغلقاً متقوقعاً، مع عاداتك وتقاليدك ولغتك وعقيدتك ومفاهيمك وأهلك وبيت الجيران، ومن يدخل حينا "نطخه"، حتى لو كان جلال الدين الرومي، الذي فارق هذه الدنيا منذ ما يزيد على سبعمئة سنة. نعم، غياب الفن والثقافة هو سبب رئيس في فساد النفوس وفساد الأخلاق وبالتالي فساد السياسة والإدارة. لكي تصبح إدارياً ناجحاً وسياسياً صالحاً يجب أولاً أن تفهم الناس، وثانياً أن تقرأ المستقبل البعيد وليس القريب فقط، وتعرف كيف تجد نفسك فيه وكيف تتشابك مصالحك في أيامه مع مصالح غيرك، يجب أن تحسن الوصال وترقق النفس وتقبل الناس وتحترم اختلافها. دون كل ذلك أنت حجر سيصطدم بك من يتعامل معك، يكسرك أو يتكسر عند حوافك، فتخسر نفسك أو تخسره ولا يتغير شيء، في مكانك سر، وهو وضعنا منذ عشرات السنوات وإلى الآن. الموضوع أخطر من مزحة نائب يجهل جلال الدين الرومي، الموضوع موضوع أجيال مثلها لنا هذا النائب بضياعها وانغلاقها وتحجر فكرها، وهذه بالتأكيد ليست مزحة، وهي بكل تأكيد تستدعي رد فعل آخر أبعد ما يكون عن الضحك.«آخر شي»:يقال إن وزارتي الداخلية والإعلام انتصرتا للنائب الجبري ضد "مولانا" ابن الرومي فمنعتا الأمسية، طبعاً، أكيد الوزارتان اكتشفتا وفاة الرجل قبل المنع، وأكيد لشعره وتصوفه يد في هذا المنع. الموضوع مثل الدجاجة والبيضة، الانغلاق يدفع لهذا المنع أم المنع يتسبب في هذا الانغلاق؟ في كلتا الحالتين، انتصر ابن الجبري على ابن الرومي، فهنيئاً لنا سيفه البتار في محاربة الأشرار... المتوفين منذ أكثر من سبعمئة سنة.