سند عبدالفتاح: فتّش عن اليهود في فتن ماضي الإسلام وحاضره

نشر في 09-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-07-2014 | 00:02
أكد أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة {عين شمس} الدكتور سند عبدالفتاح أنه لا بد من التفتيش عن أثر اليهود في إشعال الفتن التي ظهرت على مدار التاريخ الإسلامي، وساعدت على بث الفرقة بين المسلمين. وأشار، في حواره مع {الجريدة}، إلى أن الفتنة الكبرى باعتبارها إحدى العلامات البارزة كانت فترة مظلمة ووبالاً على مجرى التاريخ العام للمسلمين، محذراً من أطماع الغرب الذي استغل الربيع العربي لإشعال الفتنة وجر مجتمعاتنا إلى مرحلة الاقتتال الداخلي. في ما يلي نص الحوار.
كيف تعامل الفكر الإسلامي مع مفهوم الفتنة؟

وضع مفكرو الإسلام قاعدة ثابتة بأن أي إشكالية أو مشكلة تحدث في التاريخ الإسلامي تترتب عليها إراقة الدماء بين المسلمين أنفسهم، تُعتبر فتنة. كذلك المضايقات بين المسلمين وبين أهل الذمة، سواء من النصارى أو اليهود، التي تؤدي إلى إراقة الدماء، هي أيضاً أحد أشكال الفتنة في الدولة الإسلامية. والمضايقات بين المسلمين التي تؤدي إلى هدم منجزات الآخر فتنة أيضاً، تماماً كالنزاعات بين السنة وبين الشيعة والتي تسببت بدمار كثير من المؤلفات ومن التراث الإسلامي لدى الفريقين.

متى ظهرت الفتنة في التاريخ الإسلامي؟

ظهرت الفتنة بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، من بعد خلو الدولة الإسلامية (إن جاز التعبير) من القائد الأعلى لها، وهو ما أدى إلى ضرورة ظهور قائد يتولى إدارة الدولة الإسلامية ويكون خليفة رسول الله، خصوصاً أن الأخير لم يختر من يخلفه في قيادة المسلمين، تاركاً الأمر شورى بينهم. ولكن بعد وفاة الرسول مباشرة بدأت بوادر الانشقاق والفتنة بين المسلمين والصراع حول كرسي الخلافة في الدولة الإسلامية الناشئة آنذاك، لتبدأ الفتنة تطل برأسها منذ ذاك الوقت، وزادت حدتها حتى حدث الانشقاق الكبير الذي ضرب العالم الإسلامي بالفتنة الكبرى في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، ما أدى إلى مقتله. ثم تفاقمت الفتنة بعده، لنصل إلى فترة الصراع بين علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان، والذي انتهى أيضاً بمقتل الإمام علي، ودخول الدولة الإسلامية في نفق مظلم من الفرقة بظهور مذاهب إسلامية عدة؛ الخوارج والشيعة والسنة.

ما حجم تأثير الفتنة الكبرى على مسار التاريخ الإسلامي؟

لا شك في أن فترة الفتنة الكبرى مظلمة لما تركته من تجليات على واقع المجتمع الإسلامي، فما جرى للدولة الإسلامية كان وبالاً عليها، وعلى أثره دخلت الأمة الإسلامية نفقاً مظلماً. ومن الصعب أن تعطي في هذه الفتنة رأياً قاطعاً، لأن المصادر التاريخية الواردة إلينا حول تلك الفترة هي مصادر متأخرة نسبياً كتبت بعد نحو قرنين من الأحداث، لذا رؤيتنا ضبابية حول ما جرى في القرنين الأولين من تاريخ المسلمين (عصر الدولة الأموية وعصر الدولة العباسية) من مذابح متعددة جراء الصراع حول الحكم، كنتيجة لرواسب الفتنة الكبرى التي ضربت العالم الإسلامي.

أنتجت الفتنة الكبرى المذاهب والفرق الإسلامية. يرى البعض أن التعددية المذهبية سمحت لمزيد من الفرقة بين المسلمين، هل هذا صحيح؟

أتفق مع هذا الرأي تماماً، فالتعدد في المذاهب والفرق يولد التعصب، خصوصاً ونحن نتحدث في فترة التاريخ الإسلامي عن العرب، وإذا تحدثنا عن العرب فسنرجع إلى مقولات ابن خلدون عن خطر العصبية. وثمة فرق كبير بين التعصب القبلي لدى العرب، الذي عمل رسول الله على استيعابه عقب هجرته من مكة إلى المدينة، وبين التعصب السياسي والمذهبي المنتشر راهناً. ولكن ظهر بعد وفاة الرسول التعصب للفرق والمذاهب بعد أحداث الفتنة الكبرى مع ظهور الخوارج، التي سرعان ما انقسمت على نفسها في صورة جماعات عدة، ثم انطلقت فرقتا الشيعة والسنة، اللتان بدورهما أخرجتا فرقاً وجماعات عدة. مثلاً، نجد الفرقة الشيعية تضم تحت جناحيها مذاهب مختلفة عدة، بعضها أقرب ما يكون إلى فكر أهل السنة مثل المذهب الزيدي، ومنها ما يصل إلى مكان بعيد في الغلو كالباطنية، وبعضها لديه موقف وسطي بينهما مثل الشيعة الاثني عشرية.

من المتسبب في هذه الفتنة التي ما زلنا نعيش في أصدائها حتى الآن؟

    

تنسب أسباب إشعال الفتنة الكبرى الظاهرية إلى شخص كان يهودياً وأسلم، يدعى عبدالله بن سبأ ويلقب بـ»ابن السوداء». أما الأسباب العميقة فتختلف، حيث إن ما جرى في الفتنة الكبرى في عهد عثمان بغرض خلعه من كرسي الخلافة، كان السبب المباشر في إشعال فتيل الفتنة. إلا أن البعض كان يرى أن سياسات الخليفة عثمان بتولية المناصب الإدارية في الإمبراطورية الإسلامية إلى أقربائه من بني أمية، ما أدى إلى ثورة غضب بين النخبة الإسلامية في المدينة المنورة والحواضر الإسلامية الرئيسة في الفسطاط والكوفة والبصرة، ما أدى إلى تفجر الفتنة.

للفتنة معان كثيرة، كيف تعامل الفكر الإسلامي معها؟

التعامل مع الفتن سابقاً كان قمعياً وأمنياً من السلطة في المقام الأول، وقد يختلف المسمى على سبيل المثال من فتنة إلى ثورة. شهد تاريخ الأندلس ثورة سميت بثورة «الربض»، ضد الأمير الحكم بن هشام الأموي. وللثورة أسبابها الاجتماعية كما ورد في المصادر الإسلامية، وفجرها قيام الحاكم الأموي بإصدار أوامره بالقبض على مجموعة من أرباب الحرف والصناعات، ما أدى إلى تفجر الوضع في العاصمة الأموية؛ قرطبة، وخرج الأهالي وحاصروا قصر الإمارة الأموية، ثم تطور الأمر بأن أحرق الحاكم بيوتهم ففرقهم من حول القصر، ثم خاطبهم بغرور وتعال بدلاً من أن يلجأ إلى حل المشكلة من الجذور.

هذا المثال نموذج لتعامل الحاكم في التاريخ الإسلامي الذي يفضل التعامل الأمني على ما سواه من حلول، وندر أن نجد حاكماً في التاريخ الإسلامي يتعامل برحمة ومسؤولية مع رعاياه، فكل الحكام عبر العصور اهتموا بمنطق كرسي السلطنة. حين جلس العباسيون على كرسي الحكم دبروا مذبحة نهر {أبي فطرس}، فجمعوا كل أفراد البيت الأموي وذبحوهم، وذهبوا إلى قبورهم ونبشوا رفات خلفاء بني أمية. والقصور التي كانت موجودة في عصر بني أمية دمرتها الدولة العباسية كي لا تبقى على تراث خصومها بني أمية.

هل الفتنة في مجتمعاتنا العربية صناعة عربية أم غربية؟

ثمة نسبة كبيرة جداً من الفتن بتخطيط غربي وصهيوني هدفها إحداث الفرقة بين المسلمين. وحينما تنتشر فتنة معينة في المجتمع فأبحث دائماً عن اليهود بمسمياتهم عبر العصور، من العصر الوسيط إلى اليوم. فتش عن اليهود دوماً في فتن التاريخ الإسلامي وحاضره، فقديماً كان لهم دور في موت أبي بكر الصديق، الذي توفي مسموماً بتدبير منهم، وكان لهم أيضاً دور في مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، والخليفة الثالث عثمان بن عفان. أما في التاريخ الإسلامي فمصطلح الفتنة بين المسلمين والمسيحيين غير موجود. ثمة مضايقات قليلة بين الجهتين، وما إن تحدث الشرارة بينهما حتى يظهر ما يسمى بالدستور أو الوثيقة مثل العهدة العمرية، فعند نشوب الفتنة تطبق شروط العهدة إلى أن ترجع الأمور إلى مجراها الطبيعي.

كيف يستخدم الغرب الفتنة في تقسيم المسلمين والمجتمعات الإسلامية؟

العالم العربي عموماً يعد مطمعاً منذ أقدم العصور، لا سيما مصر. ومن يتطلع إلى التاريخ سيجد الغزو الفارسي إبان الدولة الفرعونية، ثم توالى على مصر الفرس ثم اليونان فالرومان لتصبح ولاية رومانية. ثم جاءت الحملات الصليبية في العصر الإسلامي، وكلها لدوافع اقتصادية. فمصر بقعة حباها الله بالمقدرات الاقتصادية كافة منذ القدم، من قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين. وستجد أن العرب كانوا يقومون بما يسمى الوساطة التجارية فيتحكمون بطريق التجارة بين الشرق الأقصى والغرب الأوروبي. والغرب منذ قديم الأزل لا تعجبه سيطرة العرب على الوساطة التجارية وكان الحل الأمثل بالنسبة إليه أن يحتل المنطقة كلها، حيث جاء الصليبيون إلى مصر للسيطرة على الثروات والخيرات، لأنهم على يقين بأنها قلب العالم الإسلامي.

ركَّز بعض المستشرقين في دراستهم على الفتنة في الإسلام، كيف ترى ذلك؟    

ثمة تيار من المستشرقين موضوعي في تناوله الدراسات الإسلامية، ويعترف بفضل العرب على الغرب. على سبيل المثال، المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، وعنوان كتابها واضح الدلالة «شمس العرب تسطع على الغرب»، في تبيان مدى استفادة الغرب الأوروبي من العرب والمسلمين. لكن ثمة في المقابل مجموعة من المستشرقين غلب عليها التعصب فضخمت من سلبيات الحضارة العربية الإسلامية. مثلاً، قطعوا كلمات المؤرخ ابن خلدون من سياقها، عند حديثه عن العرب بمعنى البدو في عصره ليعمموها على جميع العرب في الأزمان كافة، فهو يحكي عن المجتمع المدني في الفترة المبكرة في الإسلام فيقول إن العرب أقرب ما يكونون إلى البداوة وأبعد ما يكونون عن الحضارة، فأخذها المستشرقون للحديث بأن العرب ما هم إلا مجموعة من البدو.

إذا انتقلنا من التاريخ إلى الحاضر، ما تقييمك لأحداث الربيع العربي؟

لا أستطيع أن أعطي رأياً قاطعاً في هذا الأمر. ربما لدى الحكام عدم فطنة في بعض الأمور، ولكني أرى أن ثمة بعداً بين الحاكم وبين الرعية، وما يحدث الآن في سورية على سبيل المثال مشتبك، نظراً إلى دخول التيار الإسلامي أو ما يطلق عليه «داعش» في الصراع، وهذا أمر غير مقبول لأننا نحارب أنفسنا في النهاية. ثمة كتب في علم السياسة تبين واجبات الرعية تجاه الملك وواجبات الحاكم تجاه الرعية، فإذا تم الالتزام بهذا الأمر سنرى مجتمعاً مثالياً.

هل للغرب دور في انحراف مسار ثورات الربيع العربي؟

أكيد، لأن الثورات كافة التي حدثت في العالم العربي ستجد وراءها المخطط الخارجي، والغرب يساعد في إشعال الثورات وبث الفتنة فيها لتحقيق مصالحه، إما طمعاً بالثروات وإما لاحتلال هذه البقعة. والعالم العربي يدخل مرحلة الاقتتال الداخلي، وأصبحنا أشداء على أنفسنا ورحماء بعدونا. أؤكد أن المجتمعات العربية والإسلامية لم تكن يوماً طائفية أو مذهبية بقدرها الآن.

لكن ثمة حديثاً عن أن المجتمعات العربية طائفية بطبعها.

غير صحيح. لم يشهد التاريخ الإسلامي تقسيمات طائفية داخل المجتمعات الإسلامية، وفي العصر الإسلامي كان المسلم يعيش إلى جانب المسيحي واليهودي في بوتقة واحدة بلا تفرقة، حيث يسمح للمسيحيين واليهود بتولي المناصب المختلفة في الدولة. فالطبيب الأول للسلطان صلاح الدين الأيوبي، كان المفكر اليهودي الكبير موسى بن ميمون. وأبو جعفر المنصور؛ مؤسس الخلافة العباسية، كان طبيبه الخاص جرجس بن بختيشوع النصراني. وفي عصر الدولة الأموية عندما بدأت بواكير حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية، أشرف عليها رهبان الإسكندرية. كان التعايش آنذاك من دون مضايقات، وهي إن حدثت فكانت وقتية. مصطلح الفتن الطائفية في الدولة الإسلامية غير وارد لأن الناس آنذاك كانوا يعيشون في كنف واحد تحت حاكم مسلم في أمان وسلام.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً لا يعرف الفتنة؟

يعود بنا السؤال إلى حديث ابن خلدون عن العصبية القبلية، وهذا ما نجح في محاربته رسول الله (ص) عندما بنى مجتمعاً إسلامياً مثالياً تلاشت فيه العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب لتحل محلها صلة الإخوة في الدين فحسب. والدليل على ذلك، عندما خلد الله سبحانه وتعالى موقف الأنصار في القرآن الكريم، حينما ذهب إليهم المهاجرون في المدينة المنورة، واقتسموا معهم ما يملكون فقال سبحانه وتعالى: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»، وكفل الرسول لليهود الحرية. فحينما تزال العصبية القبلية ستجد مجتمعاً مثالياً خالياً من الفتنة، ولكن هذا من الصعب جداً داخل المجتمعات العربية لأن الشخص العربي من طبعه دائماً العصبية. وكي يخلو المجتمع العربي من الفتنة، نحتاج إلى جهد كبير، وإلى التمسك بأخلاقيات رسول الله. فقد أطلق اليهود على الرسول أبشع الصفات والشتائم وتطاولوا على الله أمام الرسول، ورغم ذلك تعامل معهم الرسول بحنكة وحكمة. ولا بد من إدراك أهمية الحوار.

يشهد العالم العربي اليوم جدلاً مذموماً فكل شخص له رأيه المقتنع به، وليست لديه القدرة على تقبل الآخر. وذلك يعد من الخصومة التي تصل إلى إراقة الدم، وما يحدث في العالم العربي من إراقة للدماء يعد بعداً عن حرمة الدم في الإسلام.

في سطور

ولد الدكتور سند أحمد عبد الفتاح، أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد في جامعة عين شمس، في يوليو 1973، حصل على الليسانس عام 1996، وبعد حصوله على الدكتوراه بدأ في تدريس التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في كلية الآداب في جامعة عين شمس، بالتوازي مع مشاركته بأوراق بحثية في مؤتمرات علمية عدة.

ولعبدالفتاح دراسات عدة في مجال تخصصه الدقيق، عصر دولة سلاطين المماليك، والمنشورة في كتب كثيرة، من بينها: دراسته المهمة عن «عزالدين بن شداد... مؤرخًا»، «البريد في عصر دولة المماليك البحرية»، «العلوم العقلية في الحضارة الإسلامية»، «فضل العرب على أوروبا في ضوء يوميات فاسكو داجاما».

 فضلاً عن أبحاث عدة من بينها: «دور شيخ الإسلام ابن تيمية في تعزيز مبدأ الوسطية في الإسلام»، وبحث عن «الحسبة والنصيحة... المشترك والمفترض»، وبحث عن «دور مناجية الشيخ المخللاتي في رسم المصحف الشريف»، و»الطيور الداجنة في مصر المملوكية».

back to top