الحرب على غزة... بين مطرقة أحزاب اليمين السياسي وسندان الهاجس الأمني الإسرائيلي (2-3)

دراسة تحليلية لأسباب الهجوم على غزة من واقع السياسة الداخلية الإسرائيلية وتاريخها

نشر في 18-08-2014
آخر تحديث 18-08-2014 | 00:03
جاء اندلاع الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في 8 يوليو 2014 صدمة لكثير من المراقبين الدوليين، بسبب سرعة تواتر الأحداث التي أسفرت عنها هذه الموجة من الصراع المسلح بين فريقين متخاصمين منذ ما يقارب سبعة عقود.

فعلّل بعض المحللين والمتخصصين سبب الصراع المسلح القائم على أحداث معينة بدأت باختطاف بعض الشبان الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلاً عن إعلان التصالح بين فريقي السلطة الفلسطينية المتخاصمين منذ عدة سنوات، واتخاذ خطوة فعالة لرأب الصدع الفلسطيني تتمثل في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، إلا أن هذه الأسباب لا تضرب العمق التاريخي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إضافة إلى تجاهلها التام لواقع السياسة الداخلية الإسرائيلية التي لها دور محوري في تحديد مسارات هذا النزاع.

وعليه، فإن هدف هذه الدراسة محاولة تبيان الاتساق بين التحولات التاريخية للسياسة الداخلية الإسرائيلية وانعكاساتها على قرارات التهدئة أو السلم من الجانب الإسرائيلي.

وسيتم ذلك من خلال إلقاء الضوء على محورين رئيسيين هما: التاريخ والتطور الأيديولوجي لأحزاب «اليمين» الإسرائيلي، والتي باتت تسيطر على مراكز صنع القرار منذ عام 1977، والعلاقة غير الواضحة ما بين الساسة المدنيين والقوات المسلحة الإسرائيلية.

وقبل الخوض في تفاصيل البحث بجوانبه المتعددة، لابد من تنبيه القارئ إلى ثلاث ركائز أساسية:

أولاً، لقد استندت في هذا البحث إلى دراسات وتقارير منشورة لكتاب إسرائيليين أو يهود أميركيين يتبنون أو ينقلون ما أعتقد أنه يعبر عن وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية وشريحة ليست بالهينة من المجتمع الإسرائيلي، وقد تجاهلت عمداً تلك الأطروحات المناهضة للرأي الدارج في الأوساط الإسرائيلية، لشيوعها بين المفكرين العرب، وتهميشها داخلياً في إسرائيل كرؤى ثانوية. (1)

ثانياً، إن نقلي لتحليلات بعض الكتاب والأكاديميين لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظري، بل عن وجهة نظر المراجع التي استندت إليها وكتّابها، وسيشار إلى تلك المصادر من خلال الأرقام المتسلسلة في أسفل كل صفحة.

ثالثاً، إن مناقشة مجريات السياسة الإسرائيلية وتحولاتها لا تعني اتفاقي معها، بل أجدها ضرورية لفهم واقع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من ناحية، وتأثيرها في المحاولات المتكررة من الرعاة الدوليين (خصوصاً الولايات المتحدة) لإحداث تقدم في عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط من ناحية أخرى.

التحولات المهمة في تكوين الأحزاب اليمينية الإسرائيلية:

كما أشرنا سلفا، فإن الائتلافات الحاكمة في إسرائيل من عام 1948 إلى 1977 كانت تقاد من الأحزاب اليسارية وبزعامة شخصيات تاريخية لعبت دورا أساسيا في التاريخ الإسرائيلي، لا، بل في تاريخ منطقة الشرق الأوسط ككل، مثل ديفيد بن غوريون، وليفي أشكول وغولدا مائير. (15)

خلال فترة حكم اليسار الإسرائيلي، وخاصة خلال السنوات العشر الأولى منذ تأسيس الدولة، تبنى مناحيم بيغن، الثوري السابق في «الأرغون» إحدى الميليشيات المسلحة التي اندمجت لتشكل قوة الدفاع الإسرائيلية، زعامة ما يمكن وصفه «باليمين المتطرف» من خلال حزب «هيروت».

 ومنذ الوهلة الأولى لحرب 1948 وما بعدها، تبنى بيغن وحزبه مبدأ الرفض الكامل لقرار وقف إطلاق النار لعام 1949 مع الدول العربية الذي أقرته كل الأحزاب السياسية الأخرى، كما طالب الحزب باتخاذ خطوات عسكرية جادة لضم الأراضي التي ما زالت بحوزة العرب لأنها تشكل جزءا لا يتجزأ من «إسرائيل الكبرى» (YISRAEL HA-SHALEMA) التي كان يطالب بها عراب الحركة اليمينية، فلاديمير جابوتنسكي، (16) إلا أن هذه المحاولات لم تلق التأييد الكافي من قبل المجتمع الإسرائيلي، لكن حرب حزيران (يونيو) 1967 رفعت من الحظوة السياسية التي يتمتع بها مناحيم بيغن حيث انضم إلى حكومة الوحدة الوطنية ودعم موقفه كأحد السياسيين البارزين في إسرائيل الذين لا يمكن تهميشهم.

ائتلاف حزبي جديد

ولعل أهم التحولات التي أقدم عليها بيغن هو نجاحه المبهر في عام 1973 في تأسيس حزب سياسي جديد كان بمنزلة الائتلاف الحزبي الموسع للأحزاب اليمينية المؤثرة في إسرائيل وعلى رأسها حزبا «هيروت» و«جاهال»، وهو حزب «الليكود» الذي ما زال قائما حتى اليوم، بل هو الحزب الذي يرأس الائتلاف الحاكم في الوقت الحالي.

 كما أن حزب الليكود تبنى دور المدافع عن المكاسب الإسرائيلية ما بعد حرب 1967، من خلال رفضه المطلق للتنازل عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل، خاصة الضفة الغربية وقطاع غزة والتي كان يرفض بيغن تسميتها إلا بأسمائها كما وردت في التوراة وهي «جوديا وسمريا» (JUDEA AND SAMARIA) لكي يؤكد هويتهما اليهودية. (17) هذا الموقف، بجانب تردي الأوضاع الاقتصادية للطبقة الكادحة من اليهود الشرقيين (SEPHARDIC JEWS) والطبقة العاملة من اليهود الأوروبيين (ASHKENAZI JEWS) نتج عنه اكتساح حزب الليكود لانتخابات الكنيست لعام 1977؛ ليصبح بذلك مناحيم بيغن أول رئيس وزراء «يميني» في إسرائيل.

«اليمين» والتحلي بالبراغماتية

ومما لا شك فيه أن تحول «اليمين» الإسرائيلي من صفوف المعارضة إلى سدة الحكم، فرض عليه ضرورة التعامل مع واقع الائتلافات الحزبية، بالإضافة إلى الضغوط الدولية التي تفرض على إسرائيل خصوصاً حول الصراع العربي- الإسرائيلي الموسع.

 ومع ذلك فإن «اليمين» بتشعباته المختلفة (ديني أو علماني، معتدل أو متطرف) استطاع أن يتحلى ببراغماتية عالية خلال العقود الأربعة المنصرمة، دون التنازل عن مبادئه الأساسية، فعلى سبيل المثال، عندما وافق مناحيم بيغن في عام 1981 على التنازل عن سيناء مقابل السلام مع مصر، فهذا يجسد قدرته على التعامل مع الضغوط الخارجية لإحداث تقدم في عملية السلام، لكنه لم يمس موقفه المتزمّت من عدم التنازل عن أراضي «إسرائيل الكبرى» لأن سيناء خارج حدود «أرض الميعاد» التي وردت في التوراة، وبهذا استطاع بيغن بشكل لافت أن يصرف الضغوط الأجنبية دون التنازل عن مواقف اليمين المبدئية.

ويلاحظ الباحث إيلان بيلغ، أحد أشهر الباحثين في مسألة «اليمين» الإسرائيلي، المبادئ المركزية لأحزاب «اليمين» الإسرائيلي بأنها تتلخص في النقاط الست التالية: (18)

1- المطالبة بتوسيع الأراضي الإسرائيلية على أكبر قدر ممكن ضمن إطار «إسرائيل الكبرى».

2- النظر للشعوب غير اليهودية على أنهم معادون لليهود ويتسمون بمعاداتهم للسامية.

3- تقوية الدولة المركزية بشتى أنواعها.

4- تدعيم القوة العسكرية للدولة، باعتبارها اللغة الأساسية في العلاقات الدولية.

5- تصغير منتقدي إسرائيل ووصفهم بالمعادين للإنسانية، وغير مشفقين على وضع اليهود التاريخي الخاص.

6- اتهام اليهود المناهضين لسياسات ومواقف «اليمين» بالخيانة للقضية اليهودية. (19)

اتفاق أوسلو

ومن هذا المنطلق يمكننا فهم مواقف «اليمين» الحالية، وخاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، من عملية السلام مع الدول العربية بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، كما هي حال الأب الروحي لليمين الإسرائيلي، مناحيم بيغن فإن نتنياهو تصدر المشهد السياسي الإسرائيلي في التسعينيات من خلال رفضه التام لعملية «أوسلو» السلمية التي وافق عليها اليسار الإسرائيلي بزعامة رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحاق رابين، حيث صرح نتنياهو برفضه التنازل عن الأراضي المحتلة من عام 1967 لأسباب «استراتيجية»، كما انتقد الاعتراف بالسلطة الفلسطينية (20).

 وعلى هذا الأساس استطاع نتنياهو أن يكتسح انتخابات عام 1996 إلا أن تحالفه سرعان ما انهار في عام 1999 كما كانت حال تحالف مناحيم بيغن في عام 1983، بسبب عجزه عن خلق التوازن المطلوب ما بين الضغوط الدولية لإتمام عملية «أوسلو» السلمية (والتي انهارت هي الأخرى)، والوفاء بوعوده أمام ناخبيه لتخفيف وطأة عملية السلام التي اضطر مرغما على قبولها عام 1994.

الحكومة الإسرائيلية الحالية والتعامل مع الملف الفلسطيني:

إن وصول حزب الليكود إلى سدة الحكم في انتخابات يناير 2013 جاء نتيجة ائتلاف مسبق بين حزب اليمين المعتدل «الليكود» بزعامة بنيامين نتنياهو وحزب اليمين المتطرف «إسرئيل بيتنا» (YISRAEL BEITEINU) بزعامة أفيغدور ليبرمان الذي شغل منصب وزير الخارجية (وما زال) بعد الانتخابات، كما يضم الائتلاف الحاكم الحزب الديني «البيت الإسرائيلي» (HABIYAT HAYEHUDI)، وحزب «الوسط» السياسي وهو «يش إتيد» (YESH ATID)، وحزب الوسط اليساري «هاتنوا» (HATNUAH)، الذي تتزعمه وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة ووزيرة العدل الحالية تسيبي ليفني.

ويمثل هذا التحالف اتجاهات الحكومة الإسرائيلية حيال الوضع الفلسطيني من خلال مرحلة التشكيل الوزاري حيث كانت القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي أدت إلى توزيع الحقائب الوزارية نفسها، حيث اشترطت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، ووزيرة العدل الحالية تسيبي ليفني، أن يوكل إليها مهام التفاوض مع الطرف الفلسطيني كشرط أساسي لانضمام حزبها الى الحكومة، بينما يحتكر وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان ملف العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وملف النووي الإيراني، كما تم تعيين يار لابيد رئيس حزب «ياش إتيد»، ثاني أكبر الأحزاب المنضمة للائتلاف الحاكم، في منصب وزير المالية.

 وبهذا استطاع نتنياهو بشكل موفق أن يجمع رؤساء الأحزاب الأربعة الأساسية المنضمة إلى ائتلافه في مراكز وزارية هامة وحساسة، إلا أن هذا الأمر يسبب إضرابات تصل إلى حد الانقسام داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن مسائل متعددة، منها: وضع المستوطنات وما يسمى «بالتوسع الطبيعي» (NATURAL GROWTH)، وعملية السلام ودور الولايات المتحدة الأميركية، والتعامل مع الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني.

المستوطنات وعملية السلام

ففي موضوع المستوطنات وعملية السلام، تنقسم الحكومة إلى فئتين:

الفريق الأول، يتزعمه نتنياهو وأفيغدور ليبرمان اللذان يرفضان قطعيا وقف التوسع في المستوطنات كشرط لاستمرار مفاوضات السلام مع الجانب الفلسطيني. ويرى الفريق الثاني، بزعامة تسيبي ليفني ويار لابيد ضرورة وقف التوسع عدا توسيع رقعة المستوطنات القائمة، وكان هذا الأمر- ومازال- من القضايا العالقة والشائكة في أروقة الحكومة الإسرائيلية التي كادت أن تؤدي إلى انهيار الحكومة الحالية منذ شهرين (21).

أما الموضوع الثاني فهو عملية السلام ودور الولايات المتحدة الأميركية، فعلى الرغم من أن تسيبي ليفني هي كبيرة المفاوضين من الجانب الإسرائيلي، فإن دور الولايات المتحدة، بصفتها الراعي الدولي الأساسي لعملية السلام في الشرق الأوسط، بيد أفيغدور ليبرمان.

ومن هذا المنطلق يمكن فهم المواقف الحزبية التي لها دور رئيسي في عملية صناعة القرار الإسرائيلي، فبينما يحاول ليبرمان الثبات على مواقف حزبه بعدم التنازل عن المكتسبات الجغرافية الإسرائيلية داخل أراضي السلطة الفلسطينية، فإن تسيبي ليفني تحاول جاهدة إعادة تقديم نفسها وحزبها الجديد كراع لعملية السلام؛ ولهذا السبب كان لا بد لنتنياهو من الرضوخ إلى مطالب أحزاب الائتلاف بتوزيع مهام العلاقات الخارجية بين قادة حزبين متنافسين.

وكما أسلفنا، فإن الأحزاب السياسية الإسرائيلية عامة، وقادة تلك الأحزاب خاصة، لديها قدرة فائقة على التحلي بالبراغماتية والتعامل مع المتغيرات على أرض الواقع. ومن هنا يمكن فهم مواقف كل الأحزاب الإسرائيلية (باستثناء الأحزاب العربية) من مسألة الأمن وآلية صنع القرار العسكري.

*مركز دراسات الديمقراطية والمجتمع المدني - جامعة جورج تاون

back to top