ذات الرداء الأسود

نشر في 06-09-2013
آخر تحديث 06-09-2013 | 00:01
No Image Caption
 صابر ملوكة الصمت يلف أرجاء المنزل

وفي غرفة صغيرة تزيد قليلا على مساحة الشرفة جلست سيدة  ترتدي رداءً أسود

كانت قد وضعت ثوب طفلتها الأبيض على كرسي قريب منها، واحتفظت بزوج من الاحذية الصغيرة بالقرب من قدميها.

يسود صمت غريب يخلو حتى من صوت حركة عقارب الساعة الموجودة على الرف بجوار السرير.

نظرت المرأة الى الساعة وتذكرت موجة الغضب التي انتابتها ذات ليلة قبل ثلاثة أشهر، عندها مدت يدها لتلزم الساعة بالصمت، وظلت صامتة منذ ذلك الحين.

ليست للساعة أي فائدة على أيى حال سوى أن تحصي الساعات، لتذكرنا بعمرنا المسروق.

همست السيدة لنفسها "لا يهمني الآن الزمن، لا يهم أي شيء مادامت طفلتي ذات البشرة البيضاء ترقد تحت التراب الأسود، سأعيش في صمت مطبق حتي يأتيني ملك الموت".

قالت لها صديقة مرة "عليك أن تتجاذبي اطراف الحديث مع أحد، فالحديث إنساني والصمت إلهي ونحن لسنا آلهة".

تململت السيدة في جلستها وفضلت الصمت.

هناك كلام لا يقول شيئا وهناك صمت يقول كل شيء. آثرت الصمت ثم تطلعت نحو الباب المغلق.

وراء الباب كان هناك صبي صغير ذو عيون سوداء واسعة.

أطل برأسه من خلف الباب يريد أن يحادثها... تمنت ألا يدعوها بلفظ أمي.

أتى صوته كهمهمة خافتة ولكن السيدة لم ترد، اعتقدت انه سيمضي إذا لم ترد عليه

وبعد صمت قصير، فتح الباب ببطء... صرير الباب بدا لها صرخة مقيتة.

لم تدعه المرأة للدخول، ولكنه دخل مترددا، ثم همس "مرحبا يا أمي"، ربما كان هذا أسوأ شيء يمكن أن يقوله طفل إلى سيدة متشحة بالسواد، كان تذكيرا أكثر إيلاما من ذلك الثوب الأبيض والحذاء الصغير.

أطلقت المرأة صرخة وغطت وجهها بيديها قائلة "اذهب الآن، أريد أن أكون وحدي"،

هرب البريق من وجه الصبي وأظهرت عيناه شعورا عميقا من الأذى ثم غادر الغرفة. مرت دقائق طويلة، ثم رفعت السيدة رأسها ورأته من خلال النافذة ، كان في الفناء مع والده.

جلسا سويا تحت شجرة التفاح يتوسلان لفتة من السيدة ذات الرداء الأسود. أطلت السيدة عليهما بعيون جادة، وتصلبت زوايا فمها، "هذا الصبي لديه شخص يحبه ويعتني به، بينما ترقد طفلتي وحيدة خلف التلال"، أطلقت صرخة صغيرة ثم نهضت على قدميها، وارتعشت يداها وهي تغطي رأسها بخمارها الأسود.

وسارت بخطوات حازمة إلي الطابق السفلي وخرجت من البيت، واقترب الرجل منها متوسلاً: "عزيزتي ليس مرة أخرى، ذهابك إلي هناك لن يفيد".

قالت المرأة بصوت مخنوق: "لكنها هناك وحدها، لا احد يفكر، لا أحد يعرف كيف أشعر. إن الحياة لا تستحق أن نحياها إذا فقدنا من نحب أو فقدنا الباعث على الإلهام".

قال الرجل بلطف: "ولكن البقاء بجوار القبر لن يستعيد طفلتك. وما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه من ان ينشد أغنية مع القلوب الفرحة. الإصرار على الحزن يولد اليأس. ولماذا اليأس والشمس لا تظلم في ناحية إلا وتضيء في ناحية أخرى".

بكت المرأة  ثم استدارت ومضت في طريقها.

تبعتها عيون قلقة من الرجل، وعيون حزينة للصبي.

لم يكن مكان الدفن بعيدا ولكنها تعثرت في مشيتها حتى وصلت الى شاهد القبر.

رأت هناك امرأة غطى الشيب شعرها تحمل باقة من الورد الوردي والأبيض.

التفتت المرأة ذات الشعر الأشيب اليها وفتحت شفتيها كما لو أنها سوف تتحدث

"إننا لا نعرف شيئا حتى الان عن الحياة فكيف نعرف عن الموت؟". ثم التفتت ببطء وبدأت في ترتيب الزهور على قبر قريب.

رفعت السيدة ذات الرداء الأسود رأسها تتأمل المرأة ذات الشعر الأشيب في صمت

همست: "رأيتك هنا من قبل، هل كان لك أيضا طفلة صغيرة".

هزت المرأة ذات الشعر الأشيب رأسها قائلة: "لا بل هو صبي صغير، أو كان صبياً قبل أربعين عاما".

"أربعون عاماً - وقت طويل كيف يمكن أن تكوني قد عشت أربعين سنة بدونه؟".

"لقد كنت ممرضة الصبي عندما صارت الحادثة ومن يومها لم أفارق الأسرة، لقد رأيت كل شيء منذ البداية".

تعلقت عين المرأة المتشحة بالسواد بالشاهد الذي يحمل اسم طفلتها.

"كانت حادثة مريرة، لقد سقط من فوق الحصان، وهذه كانت بداية النهاية لأمه، التي كان لديها زوج وابنة، فتركت كل شيء، وجلست على الدوام فقط في غرفة الصبي تفحص صوره وتجتر شريط الذكريات، صارت عاشقة للصمت وآثرت الانغلاق على أشعة الشمس، حتى الطيور توقفت عن الغناء في حديقة منزلهم. كان قلبها بركانا، فماتت الأزهار بين يديها؟ لم تعد ترى زوجها و ابنتها كأنها لم تعد تعيش معهم. أكثر الأشياء وجعاً، منزلٌ بلا أم، وحياةً بلا روح، والنتيجة أن زوجها لم يعد يمكث في بيته فترات طويلة، وفي النهاية ذهب بعيدا. عرفت بعد ذلك انه توفي لكن ذلك كان بعد وفاتها، "أما الفتاة فلا يعرف أحد مكانها... ذهبت الى حيث الشمس والزهور والحب. وذات يوم أتت لزيارتي وفي يدها طفل صغير فعادت لي أحلامي وشعرت بدفء الشمس مرة أخرى".

قامت السيدة ذات الرداء الأسود وقد عزمت على ترك القبر وعدم العودة اليه مرة اخرى: "ما أجمل أن تبتسم حين يظن الآخرون أنك سوف تبكى".

أسرعت إلى المنزل وعندما وصلت شعرت بحرارة تدب في أوصالها، رفضت أن تتجمد في الصمت الذي يلف أرجاء المنزل. وفي غرفتها الخاصة سحبت في الظلام الحجاب الذي يغطي وجهها، ثم خلعت رداءها ومسحت دموعها.

وبعد دقائق طويلة، تحركت ببطء إلى أسفل الدرج، ومسحت من عينيها آثار الدموع.

رأت الطفل ووالده ينتظران أسفل الدرج، زحفت على شفتيها ابتسامة.

كانت ترتدي ثوبا أبيض ووضعت وردة بيضاء في شعرها. صعدا الى غرفتها الصغيرة وسمعا صوت دقات الساعة في نهاية الغرفة وتغريد الطيور فوق شجرة التفاح. طبعت قبلة على جبين الطفل ذي العينين السوداوين.

back to top