مخمل

ولكن دعني أحكي لك قصة مختلفة، دعني أحكي لك عن الخوف الحقيقي والجوع الحقيقي والضياع الحقيقي. بين الكويتيين من لا يجد سكناً ولا يجد وظيفة ويعيش على القليل، لكنه يعيش، ثم يأتي الكويتيون "البدون" يا سيدي، هؤلاء خلف حدود الصليبية والجهراء، في منازل من الصفيح تفصلها شوارع من المستنقعات. هناك يا سعادة الوزير شباب في عمر ابني وابنك، لا يملكون... ليس بيتاً ليس حساباً بنكياً ليس تلفوناً أو سيارة أو "آيباد"... هناك شباب لا يملكون حتى الأمل. هناك خلف هذه الحدود، شباب، إذا حالفهم الحظ، أنهوا دراستهم الثانوية، وفي حين تكون تلك بداية الحياة لابنك وابني، هي نهاية الحياة لهؤلاء الشباب، هنا تنتهي رحلتهم ويقف بهم الزمان. هناك خلف هذه الحدود، شابات جميلات متعلمات، لم ولن يجدن حظاً في الزواج وتكوين أسرة، فهن "بدون"، بدون أمل، تقف بهن الحياة في ربيعها لتصبح خريفاً ليس له نهاية. ما أحكيك يا سعادة الوزير؟ لو عاش ابنانا بلا وظيفة طوال عمريهما، عساهما طويلي العمر، للقيا السعادة والهناء وما يكفيهما شر العوز، أما هناك "خلف الحدود" فيخرج الأطفال ليقرفصوا من صباحهم الباكر فوق بسطات "الرقي"، لتأتي دورية لاحقاً فتكسرها فوق رؤوسهم، ليجوبوا بعدها الشوارع محملين بالعطور الرخيصة والألعاب المهترئة، لتلاحقهم الدورية مرة أخرى، وهكذا يكبرون دون أن يشعروا وإذا بهم في الثلاثين، ولا يزالون يجوبون الشوارع ويسابقون شرطتها.أأحكي لك عن هذا الأسير "البدون" وزوجته اللذين ذاقا مر العذاب في الأسر، واللذين يقبعان في بيتهما اليوم مرضى مهزومين مع ثمانية شباب أكبرهم 38 عاماً، لا يملك أي منهم وظيفة أو مصدر دخل أو أي أمل؟ وماذا عن تلك العائلة التي تعيش على بعد أمتار من بيتي في جليب الشيوخ القديمة، ثمانية أفراد في غرفتين، أبناء وبنات بلا تعليم، بلا طعام كاف، بلا هواء نقي، لم يروا "الأفينيوز" في يوم، لم يتجولوا على شارع الخليج قط، لا يعرفون للسينما طريقاً أو شكلاً. هل تتخيل يا سعادة الوزير؟ ليس أن يحرم ابنك وظيفة، بل أن يحرم دخول سوق يمرح فيه الصغار، زيارة سينما، أو "سندويتشة ماكدونالدز" يشتهيها؟ أنا لا أستطيع أن أتخيل، أنا لا أقدر على التحمل، ولو وضعني الحظ في مكان هؤلاء الآباء والأمهات، لسرقت ونصبت ودجَّلت لأطعم أبنائي وأكفيهم الذل وأحوط على قلوبهم، ولكن، لا يفعل "البدون" الكويتيون ذلك، بل يجلسون منتظرين حلولاً من حكومتك يا سيدي، ينفخون في أمل تخبو جذوته وفي قربة تتقطع أوصالها. قد لا يعلو المنطق ولا ينتصر الحق، قد لا ترقّ القلوب ولا تحيا الضمائر، قد لا تصحو الإنسانية بعد أن طال إغماؤها من طول استنشاق روائح النفط العليلة، لكن على الأقل، دعنا، ونحن في غفوتنا، نرحمهم من الحديث عن أحلامنا "الشيك" وقلقنا المخملي الأنيق اللذين يستخدمان للتلميع السياسي أكثر منهما للتعبير عن مخاوف حقة، فكل مخاوفنا وأحلامنا المزعجة لا تأتي شيئاً أمام حقائق ووقائع حياتهم اليومية.بلغك الله وإيانا بالأبناء، ولكن لكي يتوفقوا ويسعدوا فإن علينا أن نقص الحق من أنفسنا حتى يوفقهم الخالق ويرأف بهم القدر ولا يقتص منهم بسبب إهمالنا. ادفع بحكومتك يا سعادة الوزير لتحل القضية، ولا تقلق، ابني وابنك سيحصلان على وظيفة.