غرفة جدّي

نشر في 05-09-2010
آخر تحديث 05-09-2010 | 00:00
 محمد الحجيري في الغرفة الصغيرة حيث توفي جدي قبل سنوات عجاف، هناك في البيت القديم في البلدة النائية البعيدة، تنام الكتب على الرفوف كأنها ضرائح ثقافية. لم أعد أدري ما هي الكتب التي جمعتها في غرفة جدي، إذ أصبحت الأخيرة مثل غابة لا تعيش فيها إلا الأشباح الثقافية أو العناكب الشعرية، كأن الكتب تموت حين تصبح على رفوف المكتبات.

لسنوات لم ألجأ إلى زيارة مكتبتي، خصوصاً أنني غادرت البلدة ولم أعد اليها إلا في مناسبات اجتماعية، وباتت المكتبة أشبه بمستودع لأبطال رواية يختنقون بين الكلمات والغبار، ولكتب كان لها زمنها قبل دخولها في دائرة التحنيط، كتب أنظر إليها كأني أنظر الى تظاهرة تضمّ ملايين الأشخاص الذين يتشابهون حين يصبحون جمعاً... هكذا الكتب مثل البشر تموت، لكنها قد تحيا في وقت من الأوقات. الآن أنظر الى الكثير منها وأسأل لماذا أشتريتها، بعد أن كنت سابقاً أشعر بجوع لأي كتاب، بل كان البحث عن رواية في بلدة أشبه بالتنقيب عن كنز مفقود.

جدي الذي رأيته في المرة الأخيرة كان يلتقط أنفاسه الأخيرة على فراشه، رأيته من الباب بالصدفة، صورة موته بقيت في ذاكرتي لم تمحها الأيام والسنون، يوم رأيته لم أكن أعرف معنى الموت ولا معنى الحياة، ولا أشعر به. كانت جدتي وأمي تعتنيان به وكانتا تعرفان أنه سيموت، رأيته من الباب يلتقط أنفاسه الأخيرة، فاغراً فمه بلحيته القليلة كأن كل شيء في حياته ترسمه اللحظة الأخيرة. تلك هل الحياة ذلك هو القدر، كان موت جدي أشبه برواية لم تكتب، هو صورة لكلمات في المخيلة.

جدي الذي مات في الثالثة والتسعين، أمضى أيامه الأخيرة متنقلاً في زوايا دار بيتنا، أو ذاهباً ألى كرمه حاملاً إبريق الشاي، فيقضي ساعات بين البستان والصلاة، ويعود أحياناً حاملاً بعض أكواز التين وعناقيد العنب. كان يجلس تحت شجرة التوت أو قبالة الشمس أثناء الغروب، لديه هواية في حياكة قبعات الصوف، لكنني لم أسمعه يوماً يتلو حكاية علينا، لم يكن يحب الأحاديث والاختلاط، أمضى أيامه الأخيرة في حياكة القبعات التي ترك منها بعد موته نحو 80 قبعة، وزعتها أختي على رجال شاركوا في جنازته.

مات جدي وبقيت صورته على جدار الغرفة في بيتنا، تلك الصورة الوحيدة التي وضعها يوماً ما على جواز سفره للذهاب الى الحج في السعودية قبل أن يمر عن طريق فلسطين. مات الجد وبقيت تحركاته في ذاكرتي.

جدتي لا أعرفها، لم أشاهد صورتها، سمعت انها ماتت منذ عقود، حين كان جدي في الخمسين أو الستين من العمر، ماتت وهي قرب النار تحضِّر الطعام لعرس ابن شقيقها، بقيت لسنوات أسمع عبارة «تروح روحة ستي على العرس».

جدي الذي مات في الثالثة والتسعين وأصبحت غرفته مستودعاً لكتبي، أحاول اليوم أن أدون حياته في كتاب ربما يخرج من الغرفة، ربما يخرج من بحر النسيان.

جدي الذي مات قبل ثلاثة عقود لم يعش في زمن النت، لم يدرك أنه في زمن طوفان المعلومات على الشبكة العنكبوتية، وأننا بتنا نقرأ كل كتاب بطريقة سطحية وكأننا لا نقرأ شيئاً.

back to top