اليقين

نشر في 15-06-2009
آخر تحديث 15-06-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي اليقين والظن لفظان قرينان في القرآن الكريم، وهما مقولتان معرفيتان ومنطقيتان، ويغلب اليقين على الفكر العربي المعاصر، وتحول إلى اعتقاد وقطعية، وتوارى الظن بمعنى الشك، وفي تاريخ الفكر الإنساني ارتبط الشك باليقين خاصة عند الغزالي وديكارت، الشك مقدمة لليقين.

وقد ورد اللفظ «يقن» في القرآن ثماني وعشرين مرة، نصفها أسماء، والنصف الآخر أفعال. فاليقين ذات وموضوع، فعل وشيء. وتدور معاني الآيات حول خمسة محاور: الأول موضوع اليقين، يقين بماذا؟ الآيات أي الشواهد والأدلة على وجود الله والقيامة، «قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ». فالآية دليل ومؤشر وعلامة. ليست فقط نصا مثل آية القرآن بل مؤشر طبيعي «وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ»، الخلق آية، نبات وحيوان وإنسان «وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ». الأرض مملوءة بالآيات للموقنين، فالآية توحى إلى الموقن، والموقن يستقبل دلالة الآية «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ»، وتدل الآيات على مدلولاتها ومنها القيامة والبعث والنشور ولقاء الله أي المعاد بعد الخلق، «وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»، ولا فرق بين إيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة «وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ». ولا فرق بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة. فالعبادات وسائل للمعاد «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»، فالله يدبر الأمر ويفصل الآيات حتى يوقن الناس بلقائه «يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ»، وهو رب السموات والأرض عند الموقن «رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ».

أما الموقن فهم الناس والأقوام والبشر «قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»، فالموقنون هم الجماعة «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»، وهو ما لا ينفي اليقين الفردي، وفي الخلق ومظاهر الحياة آيات لقوم يوقنون «وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»، والإيقان بشرط البصيرة وإدراك الدلالة والهدى بعدها، «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ». والموقن أيضا هم نحن أي المتكلم «رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ». الإيقان في الدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، وليس في الآخرة بعد أن ينتهي زمن العمل الصالح. والإيقان أيضا للمخاطب الذي يدرك رب السموات والأرض من خلال الإيقان «رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ». والنفس توقن حتى ولو جحد العقل «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا»، فالجحود ظلم واستكبار. نموذج الموقن هو إبراهيم الذي كان يستدل على وجود الله من الكبير إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس، ومن الكم إلى الكيف، من الشمس إلى قوة وراء الشمس وكما حدث لآمون في مصر القديمة «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ». وعلى الذين أوتوا الكتاب اتباع طريق إبراهيم في الانتقال من الشك إلى اليقين «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ».

واليقين على درجات، هناك اليقين في النبأ، الخبر اليقين «أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ»، وهو اليقين التاريخي الذي من أجله وضع القدماء على مصطلح الحديث ومناهج الرواية وتمييزهم بين التواتر والآحاد ووضع علم الجرح والتعديل لضبط شعور الراوي. وهناك اليقين ذاته الذي يأتي بعد العبادة، يقين الفتح والإشراق «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ». فاليقين يأتي بعد الشك والتكذيب «وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ». وهو يقين كشفي لا تاريخي، يقين ذاتي باطني وليس يقينا موضوعيا تاريخيا. وهو اليقين الذي دافع عنه الصوفية في مقابل اليقين التاريخي عند الفقهاء. وهناك التمييز بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين كما فعل الصوفية. أولا علم اليقين هو الوحي الصادق المنقول نقلا صحيحا «كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ». ثانيا حق اليقين هو يقين اليقين، ومعرفة أن هذا اليقين يقين «إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ»، ومرة أخرى «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ». ثالثا عين اليقين هو يقين يقين اليقين أي مشاهدة اليقين والتعرف عليه «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ».

والظن في مقابل اليقين، درجة أدنى في المعرفة، معرفة احتمالية ترجيحية، «مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا». الظن علم ينقصه البرهان اليقينى التاريخي أو الذاتي أو الكشفي، والعالم الحق يعترف بالفرق بين الظن واليقين «إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

ومع ذلك من حق الإنسان ألا يوقن بالرغم من كل الآيات والشواهد الذاتية والموضوعية. فاليقين فعل حر «أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ». فاليقين طبيعي، وعدم اليقين طبيعي أيضا، المهم أن ينحاز الإنسان للموقنين. ولا يتأثر بعدم الموقنين «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ». ومهما كان دليهم من آيات فإنهم لا يوقنون «أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ». فعدم الإيقان عناد ومكابرة.

الظن ضروري للمعرفة الاحتمالية، وتعدد الافتراضات دون الترجيح بينها. واليقين ضروري للمعرفة البديهية. تحتاج المعرفة الإنسانية إلى الثوابت والمتغيرات كما تحتاج المعرفة الفقهية إلى الأصول والفروع. المهم ألا تطغى الثوابت على المتغيرات، ولا تبتلع الأصول والفروع حتى يبقى للزمان والتغير في حياة الناس مكان، فيعيشون عصرهم.

* كاتب ومفكر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top