كيف يمشي الغراب؟

نشر في 12-08-2009
آخر تحديث 12-08-2009 | 00:00
 بلال خبيز قدم وليد جنبلاط خدمة جليلة للصحافة اللبنانية. يجدر بالصحافيين أن يشكروه في سرهم حتى وهم يخالفونه الرأي. قبل أن يعلن ما اصطلح على تسميته بـ«القنبلة الجنبلاطية» كان الصحافيون اللبنانيون يشتكون علناً وسراً من صعوبة الكلام. والمقصود بصعوبة الكلام صعوبة تقمص الصحافي اللبناني دور السياسي الذي يخوض حرباً. ذلك أن الصحافة اللبنانية ولأسباب لا يسعنا عدها وحصرها في هذه العجالة، اعتادت أن تحارب على الجبهات الداخلية والخارجية كفرقة من الجنود الشجعان. فرقتين أو أكثر. وكان واضحاً أن صوتها يبقى مسموعاً ورجالها يستمرون قيد التداول العام مادام الرصاص ملعلعاً وطبخات الخلافات على نار حامية. لكن ما جرى منذ تكليف الرئيس سعد الدين الحريري تشكيل الحكومة حتى تاريخ إطلاق القنبلة الجنبلاطية، بدا في غير مصلحة الجنود. ثمة تسويات كانت تمر من خلف ظهورهم، لأن رغبة حارة وجدية بالهدوء حلت فجأة بين أهل السياسة من أجل تضييق رقعة الخلاف، أو ستر ما أمكنهم ستره منه. هذا من دون شك يقع في مصلحة البلد عموماً إن كان يبدو في جانب منه مضراً بالصحافيين.

ستيفان زفايج كان يقول إن المنفيين مثل الجنود يستحيل عليهم أن يربحوا الحرب، قد يربحون معركة لكنهم لا يربحون الحرب، وربما وجب أن نضيف في حالتنا اللبنانية أن الصحافيين مثل الجنود، يستحيل عليهم أن يربحوا الحرب، قد يربحون معركة لكنهم دائماً يخسرون الحرب، وهذا ليس لعلة كامنة في أهل الصحافة، بل لعلة يشكو منها التركيب البنيوي للبلد أصلاً. ذلك أن البلد مقبرة مبادئ وأفكار، أو هكذا يبدو على الأقل. كل مرة يتحمس فيها الصحافيون والكتاب والمفكرون لفكرة ما يخونهم السياسيون، وكل مرة يلهج السياسيون بأفكار سرعان ما يناقضونها حين ينقلبون إلى المنقلب الآخر، قد يفهم المرء أن يحاول السياسيون تبرير انقلاباتهم بالتقلب بين الأفكار، بممارسة النقد الذاتي عن المرحلة السابقة، لكنهم أيضاً وهم ينقلبون لا ينذرون أحداً، وغالباً ما يبقى الصحافيون على الجبهة بعد انتهاء الحرب.

قد تكون قنبلة وليد جنبلاط هي القنبلة الأخيرة التي يستطيع صحافيو لبنان أن يتمتعوا بدويها. قد تكون القنبلة الأخيرة التي يستطيعون التعليق عليها، مدحاً وذماً لمواقف الرجل، السياسي المتقلب، الذي يكرهه أعداؤه كثيراً ويحبه حلفاؤه كثيراً. حين ينتقل وليد جنبلاط من ضفة إلى ضفة ينقل معه الدوي، وتصبح الضفة التي يغادرها أقرب إلى الصمت.

وأغلب الظن أن جنبلاط تخوف كثيراً وتعذب طويلاً قبل أن يطلق قنبلته، إذ إن ما جرى في الأسابيع التي تلت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية وتكليف الرئيس سعد الدين الحريري بتشكيل الحكومة حمل عنواناً وحيداً: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. أو اعتصموا بحبل الصمت إلى أن يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، مما جعل الزعيم الدرزي يضيق ذرعاً، والأرجح أنه أراد أن يصيب بقنبلته الأخيرة الصمت الذي حكم الحياة السياسية اللبنانية بضعة أسابيع. هذا الصمت الذي كان الصحافيون يشكون منه، والذي جعل الصحافة اللبنانية تصدر كل صباح باهتة ومن دون حماسة. لا معارك على الصفحات الأولى، لا اتهامات بالخيانة والعمالة، وليس ثمة سياسي واحد يمكن للصحافيين مهاجمته.

كانت الطبخة تطبخ على نار هادئة، هادئة إلى حد أنها قد تجعل الثور دجاجة، أو الديك حملاً. من كان يصدق أن قنبلة جنبلاط التي رماها سيكون من نتائجها على المستوى الصحافي جعل الوزير السابق وخصم جنبلاط الإعلامي والسياسي في الجبل، وئام وهاب، نجماً صحافياً؟ قبل أن تنضج الطبخة لم يكن أحد يعرف من سيخرج من القدر الذي يغلي أسداً ومن سيخرج ثعلباً.

والصحافيون عرفوا جيداً أن الصمت ينذر بشرور مستطيرة وأخطار داهمة على مهنتهم، وعرفوا جيداً أن صمت السياسيين مع أنه يضع الصحافة على شفا انهيار مروع، إلا أنه أيضاً سيغير في هويات النجوم، بعضها سيأفل نجمه وبعضها سيشع، وحدها الصحافة لم تكن تعرف ما الذي يجري، ذلك أن أهل الصحافة في لبنان، تخلوا منذ زمن عن مهنتهم التي تجبرهم على استقراء الحدث قبل أن يحصل، وجعلوا يصيخون السمع لهمس السياسيين ويتبنون آراءهم ومواقفهم وتحليلاتهم. وحين آثر السياسيون الصمت لحسن إنضاج الطبخة اللبنانية التي مازالت تغلي على قدرها منذ عقود، تذكر الصحافيون أنهم لم يتعلموا مشي الحجل لكنهم أيضاً نسوا كيف يمشي الغراب.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top