القسط

نشر في 10-08-2009
آخر تحديث 10-08-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي ومن مفاهيم العدل وصوره مثل الميزان مفهوم «القسط»، وقد ورد في القرآن سبعا وعشرين مرة في صيغ متعددة، فعلية واسمية، أكبرها «القسط» اسم فعل ثم «المقسطين» اسم مفعول جمع، ثم «القاسطون» اسم فاعل، ثم فعل الأمر «أقسطوا» أو المضارع «تقسطوا»، ثم أفعل التفضيل «أقسط».

ومن حيث المعنى أكثر الاستعمالات هو القسط مع اليتامى، والزواج منهن أفضل من استغلال ثرواتهن من الوصي عليهن «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ». فاليتامى مثل المستضعفين من الولدان، «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ»، والقسط أيضا بين الأزواج «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين»، والقسط في الحرب والسلم، فالقسط مع المسالمين الذين لم يحاربوا المسلمين «لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»، فإن عاد المقاتلون إلى الحق فالبر والقسط معهم «فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا». والقسط أيضا يكون في الكيل والميزان، مع الأشياء وليس فقط مع الأفراد «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ»، «وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ»، الكيل والميزان بالقسط «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ». وهي عادة عربية حتى الآن وكتابة العقود والديون والآجال أقسط عند الله، ومنعا للريبة والغش «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا». ودعوة الأبناء الى الآباء أقسط عند الله. فالنسب للأب «ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ».

والقسط من أفعال الله لأن الله لا يظلم أحداً «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ». والله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيما بينهم «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ». والحكم بين الناس بالقسط أمر إلهي «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». القسط أمر إلهي شهادة لله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ»، والشهادة لله شهادة بالقسط «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ». والقسط حكم بشري بناء على أمر إلهي «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». القسط أمر إلهي وليس فقط مصلحة بشرية عامة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ». فقد قضى الرسول بين الناس بالقسط ولا يظلم الناس أحداً «فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».

والأمر بالقسط جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة في سبيله، «وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»، فالسلطان يريد أن يحكم بمفرده دون مراجعة أو تصحيح. يفعل الناس ما يأمرهم به ويطيعونه دون مراجعة. وجزاء الشهداء الجنة «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ». والقاسط غير المقسط. القاسط نقيض المقسط. القاسط هو الذي يتجاوز القسط. وهو نقيض المسلم «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ»، «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

ومن «القسط» اشتق «القسطاس» وهو الميزان والمقياس العدل الذي يوزن به ويقاس «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ». ومن لا يزن بالقسطاس فإنه يُخسر من الأشياء أو ينقص منها «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ». لذلك سمى الغزالي أحد كتبه المنطقية في القياس «القسطاس المستقيم» الذي توزن به الأشياء بالعدل والقسطاس.

ومن الشائع أن التاجر العربي يخسر في الميزان إذا باع ويستوفي إذا اشترى «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ». والصانع يغش في صناعته، وكل صاحب عمل يزور في عمله حتى عم الفساد وغاب القانون، القانون التجاري، والقانون الأخلاقي، قانون الضمير. وعم الظلم حياة المسلمين مع أن السموات والأرض قامتا على الميزان والقسط، والحياة تأسست على العدل. وربط المعتزلة بين التوحيد والعدل. التوحيد بلا عدل فارغ بلا مضمون. والعدل بلا توحيد قد يقع في الهوى والنسبية والمصالح الشخصية. كما قامت عديد من الأحزاب الإسلامية المعاصرة في المغرب وتركيا والسودان باسم «العدل والمساواة» تأكيدا على المضمون الاجتماعي للتوحيد. ومازالت شخصيات مفتاحها العدل محط احترام وتبجيل في تاريخنا القديم مثل عمر بن الخطاب. وفي أمثلتنا الشعبية الموروثة «العدل أساس الملك». وأعظم لقب للسلطان هو «السلطان العادل».

* كاتب ومفكر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top