الجواهري نهر العراق الثالث!

نشر في 12-06-2009
آخر تحديث 12-06-2009 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان احتفلت جامعة فورنش الروسية بافتتاح نصب تذكاري نصفي لشاعر العرب الأكبر الجواهري، وكان مركز الدراسات الروسية-العراقية قد تلقى هدية من رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني لنصب تمثال للجواهري هو الأول من نوعه خارج العراق، وحضر الاحتفال عدد من الأدباء ومتذوقي الشعر، ومسؤولين وأكاديميين روس وعراقيين، وطلب القائمون على الاحتفال كتابة نصوص ورسائل تليت بالروسية والعربية لأدباء عراقيين، بينهم الشاعر سعدي يوسف ومحمد عارف، وكاتب هذه السطور وقامت محطة تلفزيون روسيا اليوم بتغطية الفعالية.

قدّر لي أن أكون قريباً من الجواهري، رغم أن الاقتراب منه مغامرة مليئة بالاحتمالات وربما يصعب التكهن بنتائجها، ليس فقط على المستوى الشعري والإبداع الأدبي، بصفته «عالَماً شعرياً» خاصاً ومتشابكاً، ولكن على المستوى الشخصي أيضاً، فالجواهري شخصية حساسة، بل بالغة الحساسية وله مزاج خاص، ولذلك فالاقتراب من شاعر مبدع ومأزوم وحده سيكون امتيازاً، لاسيما إذا استمرت الصحبة متواصلة نحو ثلاثة عقود من الزمان ازدادت عمقاً وشمولاً، وعلى المستويات الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية في الآن، خصوصاً حين يسمح لك بدخول المناطق المحرّمة في غابته والإصغاء إليه، وهو يتحدث عن معشوقاته أو يخبرك كيف كتب أشهر قصائده، وكيف دخل معاركه السحرية وحين اختصم وتحدى، وتصارع وانقلب، وتواصل وتناقض، ثم كيف غضب وكيف أصفح وما همومه وأحزانه وأفراحه، ثم تبدأ بعد ذلك بدراسته النقدية.

فالمتتبع لحياته وشعره كأنه يتحرك في منطقة شائكة وعلى أرض مزدحمة بالشعر والهمّ العام. كنت أشعر أنني أمام حالة شعر بكل ما تعنيه هذه الكلمة الواسعة بطقوسها وفضاءاتها وعبق شذاها، فالقصيدة لدى الجواهري هي التي تدلّك على مملكة الشعر أو صومعة الشاعر، حيث يمارس الخلق بجو أقرب الى التبجيل والاحتفاء، وبمعاناة فائقة، فتراه غير عابئ باليومي والطارئ أحياناً وفي أحيان أخرى تراه مستغرقاً لدرجة الانفعال بكل ما حوله، وفي أحيان أخرى منشغلاً بالحسّي والملموس، ومثلما يكون الآني جزءًا من المستقبلي متواصلاً معه أو منفصلاً عنه، يكون المستقبل والمستحيل جزءًا من الحاضر والراهن، لكنه في كل الأحوال لا يرغب إلاّ أن يراه ويتفحصه وكأنه يعيش فيه.

لم يكن الجواهري يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، كان يريد أن يعيش كل لحظة، أي لم يرغب أن يُبدّد ثانية فكان يريد الدنيوي والأخروي، الحياة والخلود، الحاضر والمستقبل، وإذا ما استعرت تعبيراً لمكسيم غوركي فقد كان نصف عقل الجواهري، وربما إبداعه يعيش في المستقبل، للقادم الجميل، الذي كان يريده شفيفاً ومعافى وأزرقاً مثل لون البحر الذي يحبّه!

في حالة الجواهري لم نكن نحن أمام الشاعر، بل كنّا أمام غابة شعرية تحفل بكل الألوان والأصناف، قوامها نحو عشرين ألف بيتٍ من الشعر، ومتوزعة على أكثر من سبعة عقود ونصف من الإبداع، وكان كل ما فيه متغضّناً بأنفاس الشعر، حركته وأصابعه الممدودة وصوته، عندما يبدأ في مطلع القصيدة تشعر وكأن عناقيد من المعاني والمباني تنهمر عليك مثل شلال أحياناً، ثم تبدأ بعدها بالتأمل لتسير مياه أنهاره وسواقيه وجداوله بعذوبة ورقّة لتصل نهري دجلة والفرات، رمزا بلاد ما بين النهرين «الميزوبوتاميا» ولعل هناك من أطلق على الجواهري باستحقاق «النهر الثالث» باعتباره رمزاً آخر للعراق.

الشعر لدى الجواهري ساهم في رسم أو إعادة تصوير حياتنا، بتفاصيلها وشخوصها وتاريخها ومعالمها، لا بنكهتها الواقعية وحسب، ولكن بإطارها المتخيّل والواهم أحياناً، مشتملاً على نكهة حبٍ ومذاق تحدٍّ وجوار تناقض، تلك التي شكلت سمة عنيفة للقصيدة الجواهرية.

كان يتراءى لي وأنا بصحبة الجواهري أنني لست أمام شاعر فريدٍ فحسب، أو حقبة كاملة، فقد كنت أحياناً أشردُ بخيالاتي لأتصور أنني أمام حزمة لقرون من الشعراء المبدعين أو حقبة شعرية تاريخية كاملة، متجسدة في شاعر اختزن من التاريخ نحو ألف عام ما بعد المتنبي، لكأن جذوره ممتدة من الفترة الأموية-العباسية على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف، التي شغلت القرن العشرين كله في مغامرة ممتدة بهرمونية جمعت التناقض المحبب والأضداد المتجاورة بتناسق باهر وليس له نظير.

لم يكن بإمكان الجواهري ألا يستجيب لإغراء المغامرة والتحدي بما جمعه من متناقضات، بصعوده ونزوله، بقوته ونقاط ضعفه الإنسانية، بشبابه وشيخوخته، فلم يرغب الجواهري الجلوس على مقاعد مطلية بالذهب، لأن خياره كان الشعر والمغامرة، فهذا الهاجس الأول والأخير له، ذهناً ومزاجاً وفناً، فقد كان يكفيه أنه جالس على قمة الشعر، ماسكا بحلقته الذهبية الأخيرة، ناظراً بطريقته البانورامية ومن خلال مشغله الشعري لمشهد الجمال والخلق.

عرفت الجواهري عندما كنت طفلاً وكانت دواوينه تملأ مكتبة الأعمام والأخوال، وكنت كلما أذهب إلى مدرستي «السلام» الابتدائية أمرّ من أمام جامع الجواهري في «منطقة القباب الزرق» المدفون فيها جدّه الأقدم صاحب كتاب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» والمتوفى عام 1850، وهذه المنطقة معروفة بمحلة العمارة في النجف في الفرات الأوسط، والنجف حاضنة شعرية وأدبية ومنارة علمية مضى على تأسيس جامعتها أكثر من ألف عام، وحين وصلها الإمام الطوسي عام 449 هـ كانت صرحاً شامخاً، أسهم هو في ترسيخه وتأطيره حتى توفي عام 460 هـ، وظلّت تحمل من بعده مشعل التنوير رغم محافظتها الشكلية، لكنها ضمّت «الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق» على حد تعبير الشاعر مصطفى جمال الدين. قابلتُ الجواهري لأول مرة في مطلع عام 1959 في ساحة الكشافة ببغداد واجتمعت به بعد عودته من براغ، حيث قضى سبع سنوات عجاف هناك، لكن علاقتي به توطدت وتوثقت خلال السبعينيات في براغ، المدينة الأليفة ذات القباب الذهبية، كما تعززت وتعمقت علاقتي به خلال الثمانينيات في دمشق، وكنت قد سألت الجواهري في إحدى المرات وماذا كان هناك في الغربة يا أبا فرات: أهو زمهرير المنفى أم فردوس الحرية؟ فأجاب بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي لم تكن تفارقه: الاثنان معاً... أي والله!

وكنت قد أصدرت عنه كتاباً بالتعاون معه عام 1986 عن دار طلاس والموسوم بـ«الجواهري في العيون من أشعاره» وهو عبارة عن ذائقة لسبعة عقود من الزمان، وتضمن الكتاب نحو سبعمئة صفحة مع مقدمة كتبها له وبيبلوغرافيا، ومن المفارقة أن أذكر أنني نشرت قصيدة كان قد كتبها لجلال الطالباني، لأول مرة في هذا الكتاب، جواباً على رسالته التي يستثيره فيها على أن «يُغنّي» بعد صمت غير قصير، فما كان من الجواهري إلاّ أن يجيبه بعنوان مضاد قابلاً التحدي، وهو «ماذا أغني؟» وهذه القصيدة أرسلها الجواهري في 10/12/1980 إلى صديقه الطالباني الذي ظل يحتفظ بصداقته منذ الخمسينيات كما أعرف وضمتني معهما أكثر من جلسة. ثم عدتُ ونشرت هذه القصيدة مرة أخرى في كتابي عن الجواهري، الذي صدر بطبعته الأولى وهو مازال على قيد الحياة، في عام 1996- 1997، وكان بعنوان «الجواهري جدل الشعر والحياة» أما طبعته الثانية المزيّدة والمنقّحة فقد صدرت في مطلع عام 2009 عن دار الآداب في بيروت. ولديّ حوارات مطولة نشرت قسماً منها وأستعد لنشر القسم الآخر الأهم والأوسع.

سعى الجواهري إلى تجاوز المألوف والعادي من الأشياء إلى ما هو خارق أو مستحيل في السلوك والتمرّد والتدفّق الشعري والنفي والترحال بموهبة باهرة، حيث ظلّ مبحراً بسفينته ضد التيار، ولم يكن ذلك بمعزل عن تفجر ذاتي ومعاناة مذهلة وأزمة شعر وشاعر، كانت القصيدة معه تأتي غيمة فضية قبل أن تنقدح عن شرارة البرق التي تخطف البصر، كما قالت الدكتورة نجاح العطار.

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه أشطار

وهو القائل:

حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين

ظلّ الجواهري خارج حدود التصنيف التقليدية، لكونه شاعراً تجاوز مكانه وزمانه بنزعته الإنسانية وإبداعه المتميّز والعبقري، وبمناسبة اقتراب ذكرى رحيله الثانية عشرة فألف تحية له، وتحية لمن بادر في نصب تمثال له، فهو بحق نهر العراق الثالث!

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top