سطوة التكرار

نشر في 14-08-2009
آخر تحديث 14-08-2009 | 00:00
 محمد سليمان «التكرار يعلم الشطار» كان مدرسو اللغة العربية يقولون لنا وهم يفركون آذاننا ويصححون أخطاءنا الإملائية في مدارس الماضي ثم يجبروننا على كتابة الكلمات المصححة عشرين أو ثلاثين مرة لتثبيت صورها في الذاكرة، وقد كان لهذا التكرار أثره في ترسيخ اللغة ومنحها موقعاً متقدماً في مراحل الطفولة والصبا.

«لولا أن الكلام يُعاد لنفد» عبارة للإمام علي ابن أبي طالب، مازالت حية ودالة فالإعادة تكرار والكلمات التي لا تتكرر على ألسنة الناس هي كلمات مهجورة ومرشحة للموت والخروج من دائرة التداول، وأهمية اللغة تتعاظم كلما كثر عدد المتحدثين بها، والتكرار لا يخص اللغة وحدها فهو في الواقع قانون عام يهيمن على حركة الكون بكل منظوماته وكائناته، فالكواكب لها مداراتها الثابتة ولكل كائن حي دورته الحياتية لا يستطيع التمرد عليها أو الانفلات من تكراريتها التي أشار إليها صلاح جاهين في إحدى رباعياته:

«سنوات وفايته على .. فوج بعد فوجْ

واحده خدتني ابن ... والتانية زوجْ

والتالتة أب خدتني .. والرابعة ايه

ايه يعمل اللي بيحدفه موج لموج؟

عجبي».

وهذا الاستسلام نفسه للتكرار وسطوته يصادفنا أيضاً في قصائد صلاح عبدالصبور الأخيرة، وهو استسلام ملون بالأسى والحزن وبتجربة، شاعر يدرك أن كل ما في الكون يخضع لقانون التكرار، الليل والنهار، الأحلام والمدن والبشر والشوارع، ويعرف أن التمرد مهما علا واتسع لن يغير الكثير، ومن ثم يسخر من ذاته ومن المتمردين الحالمين بالتحرر من قبضة التكرار في قصيدته «تكرارية»:

«يتمرد بعض المكرورين على التكرارْ

يتحور بعض المكرورين إلى نقش فوق جدار

أو نحت من أحجار

لكن الريح، الشمس الأمطار

تسلمهم للتكرار

.......

لا تبحر عكس الأقدار

واسقط مختاراً في التكرار».

«من فات قديمه تاه» يقول رجل الشارع مشيداً بالقديم والمألوف والمتكرر ومحذراً من مجاهل الجديد ومتاهاته، ومذكراً في الوقت نفسه بالثوابت التي تضبط حركة مجتمع ما، وتمنحه شكله وتماسكه وملامح فرادته، وهي الثوابت التي ترسخها القوانين والأديان والتقاليد والعادات الموروثة، وكلما تعاظمت فاعلية هذه الثوابت تراجع الميل الى التجديد وهيمن التكرار، وتحدث المبدعون والمفكرون عن مدارات الركود والجمود داعين الى التمرد والخروج على المألوف والسائد والمتكرر، وأذكر هنا بأهم حركات التجديد في الفنون المختلفة وببيانات التمرد الشعري في العقود الستة الماضية التي انصب تمردها على الأوزان الشعرية باعتبارها المتكرر الأبرز في القصيدتين العمودية والتفعيلية، وقد نسيت هذه الحركات التجديدية أن ما لا يتكرر يُهجر ويتبخر، وأن التكرار النغمي والعروضي كان ومازال سبب تشبث الذاكرة العربية بالقصائد الموزونة، وأن القصيدة التي أدارت ظهرها تماماً لكل الأشكال النغمية لم تنجح حتى الآن في الالتصاق بالذاكرة، لأنها لم تبدع عناصر أو ملامح فنية بديلة، ومتكررة تميزها وتمنحها حضوراً متوهجاً ودالاً، فالتكرار رغم التمرد الدائم عليه ظل في كل العصور قادراً على التلون وتجديد ذاته ومجالات فاعليته، ودوائر حضوره وتوهجه، والمبدع عندما يسعى الى التحرر من قبضة السائد والمتكرر فإنه في واقع الأمر يسعى الى الانفلات من سائدٍ عام لتأسيس سائد آخر يخصه وتتكرر فيه عصارات تجربته وخبراته الشخصية وقيم فنية بديلة تعينه على تشكيل عالم فني بالغ التميز، وهذا العالم بفرادته وتوهجه هو الإنجاز الذي يحلم به المبدع ويسعى إليه.

عن سطوة التكرار وفتنته يحدثنا الكاتب الألماني إلياس كانيتي الفائز بجائزة نوبل عام 1981 في كتابه «أصوات مراكش» الذي ترجمه حسونة المصباحي ونشرته دار توبقال قائلاً «عندما زرت المغرب وجدت نفسي فجأة بين العميان، كانوا كثيرين.. واقفين صفاً واحداً نداؤهم الأجش والمكرر باستمرار يُسمع من بعيد.. كل العميان يهدونك اسم الله، بالله يبدؤون وبه ينتهون». لم يكن الكاتب الذي زار المغرب في الخمسينيات يعرف اللغة العربية لكن القوة الغرائبية للأصوات شدته وسحره العميان المتسولون وهم يرددون كلمة «الله»، فاكتشف فتنة الحياة التي تلخص كل شيء في التكرار «منذ عدت من المغرب، حاولت خلال نصف ساعة أن أكرر بنفس السرعة وبنفس القوة «الله.. الله.. الله» حاولت أيضاً أن أكرر ذلك طوال النهار وأواصله خلال جزء من الليل، وأدركت من هم هؤلاء العميان، انهم قديسو التكرار ويكاد كل شيء ينجو من التكرار أن يُمحى من الحياة».

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top