مصير المختلف

نشر في 16-08-2009
آخر تحديث 16-08-2009 | 00:00
 محمد سليمان المختلف غامض ومستفز ومتهم في معظم الأحوال، وإدانته غالبا أسرع وأسهل بسبب اختلاف لغته أو شكله أو دينه أو لون بشرته وانتمائه الفكري والثقافي. وقد ظل السود واليهود متهمين ومضطهدين في أميركا والغرب لأعوام عديدة ومجبرين من ثم على الاختباء والعيش في معازل بعيدا عن الآخرين، وأظننا لم ننس استرقاق الإفريقيين وإبادة معظم الهنود الحمر سكان أميركا الشمالية والجنوبية الأصليين لأنهم مختلفون عن المستعمرين البيض اختلافا دفع بعض هؤلاء المستعمرين إلى طرح سؤالهم «هل للهنود الحمر أرواح مثلنا؟».

ولم يزل المختلف رغم التقدم الثقافي والعلمي ورغم الحديث الدائم عن التسامح وحقوق الإنسان والمساواة متهما خارجا على المألوف والمعروف تجب مطاردته والقضاء عليه. ومن الطريف أن المختلف يحاول أحيانا التقليل من حجم اختلافه لكي يردم الهوة التي تبعده عن الآخرين.

فالشاعر الأميركي كورنيلوس أيدي وهو من أصول إفريقية يحدثنا بأسلوبه الساخر في إحدى قصائده عن أبيه الذي كان يسأله دائما «ألم تغسل وجهك هذا الصباح؟ كان بالأمس أقل سوادا» ولأن أميركا أمة تشكلت بالمهاجرين فرضت قضايا الاختلاف الديني والثقافي والعرقي نفسها بقوة على الشعراء والكتاب.

وقد كان القاص والروائي الشهير جون شتاينيك من أكثر المبدعين انحيازا للمنبوذين والمهمشين والمطاردين في قصصه ورواياته، وهو في قصته «الحرس المستوحش» يحدثنا عن المتعصبين كارهي السود الذين يهاجمون سجن البلدة ويخرجون سجينا لكي يشنقوه قبل أن يحاكم، ويتمكن المحامون من إثبات براءته وإطلاق سراحه «كنت من أوائل الذين دخلوا السجن، وساعدت في شد الحبل وشنقه» يقول مايك بطل القصة ويضيف «هناك أوقات يجب على المواطنين فيها أن يأخذوا بزمام القانون في أيديهم هم، فقد يأتي محام ينسل كالثعبان ويخرج المجرم من ورطته» ولا تحدثنا القصة عن جريمة الزنجي أو انفلاته الذي ساقه إلى مصيره، الصحف وحدها اتهمته ومنحته لقب المجرم والسفاح، وكان ذلك كافيا لإصدار الحكم بإدانته ودفع الناس إلى التصديق على الحكم وتنفيذه ومحاولة إحراق جثة المذنب «كان أحد الناس في وسط الحشد قد أشعل صحيفة ملفوفة، وكان يرفعها إلى أعلى تحت قدمي الجثة الرمادية العارية المعلقة من الشجرة، وبدا له غريبا أن يستحيل الزنوج إلى لون رمادي أزرق عندما يموتون، جريمة الزنجي المسكوت عنها هي لون بشرته المختلف والمستفز، وبين سطور القصة هناك إدانة لأجهزة الإعلام والصحف التي تكتفي بإشعال النار وتتخلى عن دورها الأساسي المتمثل في التعليم وحراسة القانون والقيم، وتحولها إلى جهات اتهام قادرة فقط على الإدانة والإيذاء وإطلاق أصابع الفوضى «كيف كان ذلك الرجل، أعني الزنجي» يسأل أحد المشاركين في إعدام الزنجي، فيرد عليه مشارك آخر قائلا «قالت الصحف إنه كان شيطانا سفاحا» .

لون البشرة المختلف هو الحاضر الوحيد الدال على الزنجي الذي يقدمه لنا شتاينيك بلا ملامح أو اسم أو جريمة محددة أو قدرة ما على المقاومة «اقتحمنا زنزانة الزنجي، كان يقف جامدا، مغمض العينين، كأنه سكران ميت من السكر. ضربه رجل فوقع ثم نهض، ثم خبطه رجل آخر فارتمى على الأرض وأعتقد أنه قتل ساعتها لأنني شاركت في انتزاع ملابسه ولم يأت بحركة واحدة».

رحل شتاينيك عام 1968 قبل اتساع سطوة الصحف وأجهزة الإعلام الأخرى وقبل بروز عصر الصورة والفضائيات التي أتاحت لأجهزة الإعلام قدرة أكبر على التأثير والتوجيه وقصته تحمل رغم ذلك إدانة مبطنة للصحف التي من أجل الإثارة تستسهل اللعب بالمصائر، وتأجيج الصراعات ومنح المختلف صورة العدو وملامحه، وكأنه كان يرى القوة الكامنة لأجهزة الإعلام وقدرتها المستقبلية على الإيذاء والإفادة وإشعال النار أو قتلها أحيانا، وقد تحولت هذه القصة وأعمال ابداعية آخرى لتشاينيك، جاك لندن، فوكيز، هيمنغواي وغيرهم إلى أفلام سينمائية ساهمت في طرح ومناقشة قضايا التسامح، المساواة، الحرية والتعصب وساعدت المجتمع في النهاية على قبول المختلف والترحيب به.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top