عنف الكبار والصغار


نشر في 12-07-2009
آخر تحديث 12-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان في الأشهر الستة الأخيرة أصدرت محاكم الجنايات المصرية عدداً هائلاً من أحكام الإعدام على متهمين من الكبار والصغار، أدينوا بارتكاب جرائم ومذابح بشعة وغريبة على مجتمعنا. وهذه الأحكام المتلاحقة تدق كل نواقيس الخطر، معلنة أن المجتمع المصري يسير باتجاه الانفلات والعنف والفوضى، تاركاً للماضي وداعته التاريخية وتراثه وكل قيمه الروحية والأخلاقية.

وقد صدر في شهر يونيو الماضي وحده ستون من هذه الأحكام كان أشهرها الحكم بإعدام رجل الأعمال والقيادي البارز في الحزب الوطني الحاكم هشام طلعت مصطفى المتهم بالتحريض على قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، وهو الحكم الذي انشغل به الناس ووسائل الإعلام عن متابعة وتأمل قضايا وأحكام أخرى، ربما لأن المدانين في هذه القضايا ليسوا من النجوم أو أصحاب النفوذ رغم بشاعة هذه الجرائم وعنفها!

فقد أصدرت إحدى المحاكم حكماً بإعدام 24 حارساً في قضية مذبحة وادي النطرون» التي راح ضحيتها 11 قتيلا، بالإضافة إلى عدد كبير من المصابين بسبب النزاع على ملكية قطعة أرض تبلغ مساحتها 1500 فدان بين جمعية يمثلها «عدد من القضاة» وشركة يمثلها «أحد الطيارين»، وقد تبين أن الأرض مغتصبة وليست ملكا لأي منهما، المحرضون الكبار كانوا أيضاً وراء هذه المذبحة والحراس القتلى والجرحى، والمحكوم عليهم بالإعدام كانوا فقط أجراء يقاتلون لإرضاء المغتصبين وإثرائهم.

لكن الحكم الدال على بشاعة الانفلات وشيوع الفوضى كان الحكم بإعدام أحد عشر ذئباً بشرياً اختطفوا ربة بيت من منزلها واغتصبوها في مكان مهجور. المنزل هو الملاذ والحصن الذي يوفر الحماية لصاحبه ويرد عنه الأذى، واختطاف المرأة من منزلها لا يعني سوى موت القانون والأمن وكل وسائل الحماية، ومن ثم شيوع البداوة والفوضى. وهذه الجريمة البشعة وغير المسبوقة تستحق من الباحثين والمسؤولين قدراً أكبر من الاهتمام والبحث والتأمل، خصوصاً بعد شيوع التحرش الجنسي الجماعي والفردي في السنوات الأخيرة.

هذه الأحكام تفضح وتكشف جروح المجتمع المصري وأمراضه وتحولاته، وتضعنا أمام بعض جرائم الكبار المدججين بالنفوذ والثروة، واللامبالين بالقانون، والمستعدين، من أجل الامتلاء والإثراء، للانفلات وممارسة العنف بكل أشكاله. ولأن الاستيلاء على أراضي الدولة صار الآن أسرع وسيلة للإثراء والانتقال إلى الواجهة، حيث القوة والنفوذ والسلطة، تكررت المواجهات والحروب الصغيرة بين بعض رجال الأعمال والدولة، وبين بعضهم والبعض الآخر أحياناً، والحديث في الصحف المصرية عن مافيا الأراضي وأباطرة الطريق الصحراوي الذين استولوا على أراضي الدولة وحولوها إلى منتجعات سياحية وملاعب جولف أصبح معاداً ومألوفاً، والطريف أن حماة أراضي الدولة وأملاكها يقتدون أحياناً برجال الأعمال، ويمنحون أنفسهم حصصاً من الأراضي التي يحرسونها، فقد نشرت صحيفة الوفد قبل أيام خبراً جاء فيه: «اتهم أعضاء المجلس المحلي بالإسكندرية جهاز حماية أملاك الدولة بالاستيلاء على آلاف الأفدنة بالمخالفة للقانون، فقد أنشأ الجهاز جمعية حصلت لأعضائها العاملين بالجهاز على آلاف الأفدنة من أراضي الدولة»... ومن الطبيعي أن ينقلب الحارس على ذاته وواجبات وظيفته عندما يعم الانفلات وتسود الفوضى.

وتضعنا هذه الأحكام أيضا أمام جرائم الصغار المستضعفين والمنسيين الذين يواجهون البطالة وغول الغلاء ومشاكل الإسكان، والعاجزين عن الزواج بسبب تكاليفه الباهظة، وهم بالملايين وأغلبهم من أبناء القرى والأحياء الشعبية والعشوائية... وبسبب العجز واليأس وقلة الحيلة، فإن بعضهم مرشح لإشاعة الانفلات وتكريس الفوضى، خصوصا بعدما نسيتهم أجهزة الدولة رغم كثرة خطب المسؤولين وأحاديثهم عن مواجهة الفقر والبطالة، وعن مشاريع إسكان الشباب التي أقصتهم عن دوائر المستفيدين، عندما حددت للشاب المقبل على الزواج والراغب في الحصول على أصغر شقة راتباً لا يقل عن 2600 جنيه (حوالي 470 دولاراً أميركياً) لكي يتمكن من دفع القسط الشهري البالغ 900، ويبدو أن المسؤولين يعيشون في عالم آخر معزولين تماما عن قضايا مجتمعهم ومشاكله، فهذا الراتب الذي اتخذوه أساساً لحساباتهم هو راتب أسطوري لا علاقة له بالرواتب التي يعرفها الناس، وهو أيضاً راتب لا يحصل عليه سوى شاب من أبناء الكبار القادرين بنفوذهم على اختيار وانتقاء وظائف ورواتب تسر أبناءهم، لذلك صارت مشاريع الإسكان الجديدة مادة للتندر والسخرية، وسبباً آخر لإشاعة اليأس والعنف والفوضى.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top