ثمن الكلام

نشر في 19-08-2009
آخر تحديث 19-08-2009 | 00:00
 محمد سليمان للكلام ثمنه عند المشتغلين به من الكتاب والمفكرين والمبدعين الذين يكدون لمنح كلامهم المنطوق والمكتوب قدرة ما على الامتاع أو التنوير والتطوير والارتقاء بالواقع وتغييره إلى الأفضل والأجمل، وهذه القدرة هي التي تحدد قيمة الكلام وثمنه وتضع حداً فاصلاً بينه وبين الهراء والثرثرة أو «الهلفطة»، ولأن التقييم يعتمد على مزاج وثقافة القارئ أو المستمع لا يستطيع أغلب المتكلمين والكتاب الاعتماد على عائد الكلام كمصدر ثابت للرزق، فهناك مَن لا يحب الأدب ولا يستمتع به، ومن لا يقدِّر سوى الأفعال ونتائجها المجسدة.

وفي كتابه «البخلاء» يورد الجاحظ حكاية طريفة عن شاعر مدحَ ومجّد أحد الولاة فيقول: «فلما فرغ الشاعر قال الوالي: قد أحسنت ثم قال لكاتبه: أعطه عشرة آلاف درهم ففرح الشاعر فرحاً قد يُستطار له، فلما رأى حاله قال: وإني لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الموقع اجعلها عشرين ألف درهم، فكاد الشاعر يخرج من جلده، فلما رأى فرحه قد تضاعف قال: وإن فرحك يتضاعف على قدر تضاعف القول: أعطه يا هذا أربعين ألفاً، فكاد الفرح أن يقتل الشاعر الذي قال عندما رجعت إليه نفسه: أنت جعلت فداك رجلا كريما وأنا أعلم أنك كلما رأيتني ازددت فرحاً زدتني في الجائزة وقبول هذا منك لا يكون إلا من قلة الشكر... ثم دعا له وخرج، فقال كاتبه: سبحان الله، رجل كان يرضى منك بأربعين درهماً تأمر له بأربعين ألفاً؟ فقال الوالي: ويلك وتريد أن تعطيه شيئاً يا أحمق، هذا رجل سرَّنا بكلام وسررناه بكلام... وأمرنا له بالجوائز، فيكون قول بقول، وكذب بكذب، فأما أن يكون قول بفعل فهذا هو الخُسران الذي ما سمعت به»... وقد كان الجاحظ يتحدث هنا عن والٍ بخيل لا يحب الشعر ولا يستمتع به أو يثيب عليه.

ويجرنا الحديث عن ثمن الكلام رغم اختلاف الأدب والشعر عن السياسة إلى خطاب الرئيس الأميركى باراك أوباما الذي ألقاه في جامعة القاهرة في يونيو الماضي، وهو الخطاب الذي أعلن فيه أن أميركا ليست في حرب مع المسلمين، وأشاد فيه بسماحة الإسلام، وتحدث فيه عن ضرورة وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وعن التزامه بحل الدولتين وتحقيق السلام، والتعاون من أجل النهوض بشعوب المنطقة، وكلامه عن طي صفحة الماضي والعمل من أجل بناء المستقبل، وقد رحب معظم المسلمين والعرب بكلام أوباما، واعتبروا خطابه محاولة جادة لإزاحة الهواجس والشكوك التي راكمتها الإدارة السابقة وسعياً لتجميل وجه أميركا وصورتها في العالمين العربي الإسلامي.

في المقابل لم يرحب الإسرائيليون بخطاب أوباما واعتبروا الحديث عن وقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية تدخلاً في شؤونهم الداخلية، وضاعفوا خطوات تهويد القدس، وتحدثوا عن دويلة فلسطينية وهمية لا سماء لها، وكنا نتوقع ضغطاً أميركياً على إسرائيل ولوماً لها على تعنتها وعدوانيتها، لكن ثوابت السياسة الأميركية تجاه إسرائيل التي تحدث عنها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته حالت دون ذلك، ومن ثم لم تجد الإدارة الأميركية سوى الطرف العربي لكي تلومه وتضغط عليه وتعتبر رد فعله تجاه «كلام أوباما» وخطابه مخيباً للآمال، وتطالبه بدفع ثمن الكلام تطبيعاً مجانياً مع إسرائيل وتودداً إلى قادتها المتشددين، وانصب اللوم على الحكومات الخليجية، خصوصاً السعودية، ونسيت الإدارة الأميركية مبادرة السلام العربية التي حددت ملامح السلام ووضعت أسس تطبيع كامل وشامل. في حكاية الجاحظ المشار إليها برر الوالي حرمان الشاعر من الجائزة بقوله «هذا رجل سرَّنا بكلام وسررناه بكلام ، وهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف، هل جعل في يدي شيئاً أرجع به إلى شيء؟»... ورغم اختلاف الشعر وعالمه عن السياسة ودهاليزها بوسعنا أن نقول إن كلام أوباما في جامعة القاهرة لم يضع في اليد العربية شيئاً، ولم يفتح باباً أوسع للسلام، ولم يضع حداً بين الوجهين الأميركى والإسرائيلي، ولم يسع حتى الآن إلى امتلاك القدرة على التغيير والارتقاء بالواقع... لذلك فالمطالبة بمقابل له لا تعني سوى الابتزاز.

*كاتب وشاعر مصري 

back to top