تخوم ولاية الفقيه!

نشر في 07-08-2009
آخر تحديث 07-08-2009 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان طرحت الانتخابات الإيرانية ونتائجها وذيولها موضوع ولاية الفقيه مجدداً على بساط البحث، ورغم خصوصية الحدث الإيراني، لاسيما أن «الديمقراطية المقننة» كانت نتاجاً توليفياً حاول الجمع بين مرجعية ولاية الفقيه الذي بيده القدح المعلاّ كما يقال، وإجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية، فضلاً عن ذلك فثمة مرجعيات أخرى غير منتخبة بين ولاية الفقيه ورئاسة الجمهورية، ونعني بها مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، وعلى رأس الجميع يجلس متربعاً ولي الفقيه غير المنازع، وهو اصطلاح ديني «شيعي» لكنه في المعنى السياسي أقرب إلى رئيس مجلس قيادة الثورة أو الأمين العام للحزب في أوضاع الأنظمة الاستبدادية، حين تكون صلاحياته أقرب إلى الصلاحيات المطلقة.

لعل الذي جاء بولاية الفقيه في إيران إلى مواقع السلطة هو ثورة عام 1979 التي قادها السيد روح الله الخميني، وكان قد نظّر لها في كتابه «الحكومة الإسلامية» منذ عقد ونصف من الزمان قبل هذا التاريخ، حيث كانت المرجعية الدينية الإيرانية تعقد حلفاً مع السلطات السياسية منذ العهد الصفوي أقرب إلى صفقة تاريخية متبادلة، فيضفي الأخير على السلطات الدينية نوعاً من القدسية، مقابل أن تقوم هي بمنحه تأييداً يكاد يكون مطلقاً.

ولهذا فإن التحدي الذي ترافق مع الحدث الإيراني، حيث كان المشهد السائد يوحي بالاستقرار، هو اهتزاز صورة ولاية الفقيه، الذي أصبح محطّ جدل ونقاش بين انحيازاته لمحمود أحمدي نجاد وتصدّيه للمحتجين، وبين الإصلاحيين لاسيما من جماعة حسين الموسوي، حتى إن كان الطرفان تحت السقف الإسلامي. وهو أمر جدير بالتوقف عنده، خصوصاً أنه يكاد يكون التحدي الأكبر، فلأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان تواجه ولاية الفقيه أسئلة حتى إن لم تكن حارقة حتى الآن، لكن فيها الكثير من المعاني والدلالات المستقبلية.

لقد استندت فكرة ولاية الفقيه إلى حل ديني لحيرة بشرية بعد انقطاع الإمامة الاثني عشرية حسب الفقه الشيعي، وذلك منذ «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي المنتظر «صاحب الزمان»، لكن هذا الحل أصبح قيداً شديداً، لاسيما بعد الدعوة للإصلاحات الدستورية واندلاع المعركة بين المشروطة التي تدعو إلى تقييد الحاكم بدستور، والمستبدة التي روّجت لنظرية المستبد العادل.

وقد كان كاظم الخراساني في إيران أحد أهم دعاة المشروطة التي انقسم علماء الشيعة حولها، بين مؤيد ومعارض، ومن أصحاب هذا الاتجاه الميرزا محمد حسين النائيني مؤلف كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة» الذي استبدل بفكرة ولاية الفقيه ولاية الأمة، وهو الأمر الذي ترافق مع بعض دعوات الإصلاح الذي كان لأوروبا فيها تأثير غير قليل، خصوصاً للتيار الإسلامي الإصلاحي الذي تجسد بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والتونسي وغيرهم.

ويمكن السؤال: هل يعني الحدث الإيراني توقف الثورة عند تخوم ولاية الفقيه أم هناك رغبة في تجاوزها، ولكن إلى أين؟ لاشك أن هناك كوابح وعقبات لكي تتحلل التيارات السياسية تحت المظلة الخمينية من ولاية الفقيه، لكن الصراع السياسي، ولاسيما بين المحافظين والمجددين أو الإصلاحيين قد أسهم في ابتعاد الأخيرين عن المظلّة الخمينية حتى دون إعلان، خصوصاً بعد انحياز ولي الفقيه إلى جانب أحد طرفي الصراع.

ورغم خصوصية الحالة الإيرانية، من حيث هي شكل من أشكال النظام الشمولي ولكن بتعددية خاصة وانتخابات وتداولية للسلطة ومجتمع مدني فيه حيوية أكثر من غيره من الأنظمة المشابهة، لكن التعايش الهش والقلق بين التيارين بات وشيك الانحلال أو التمزق، الأمر الذي سيطرح إن آجلاً أو عاجلاً مسألة ولاية الفقيه على بساط البحث، ففي حين سيتمسك بها المحافظون، سيسعى التيار الإصلاحي للتحلل منها تدريجياً، طالما أصبحت تشكل قيداً سميكاً عليه، خصوصاً انحيازاتها المسبقة لمصلحة خصومه، كما بيّنت ذلك الانتخابات الأخيرة.

لقد أخرجت الانتخابات الأخيرة ما كان خافياً تحت عمامة ولي الفقيه، لاسيما مرجعيته ومستقبل هذه المرجعية في ظل ولاية الأمة على نفسها، فهل سيحسم الصراع بين حكم ينتمي إلى الماضي «الغيبة» وحكم ينتمي إلى الحاضر والمستقبل، خصوصاً إرادة الناخب، التي تمنح الشرعية وليس إرادة ولي الفقيه، الذي هو بشر قد يخطئ وقد يصيب، وإذا ما تدخّل بالشأن العام وانحاز إلى طرف على حساب آخر، فسيدخل لعبة السياسة، الأمر الذي قد يفقده مرجعيته وحياديته ونزاهته، حيث لم تعد هذه المرجعية مستمدة من إمام غائب أو نائبه، خصوصاً إذا كان فيها شيء من الافتئات على المجتمع وتطلعاته، فالانتخابات شأن دنيوي وبشري وليس شأناً دينياً، يخصّ الإمام لوحده بقدر علاقته بالناس ومصالحهم.

إن أهم وأكبر كوابح تطور الحالة الإيرانية هو وجود مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، وهذه التي يتربع فوقها ولي الفقيه، تتقدم على مصلحة الأمة، أي مصلحة مجموع الناخبين، الأمر الذي تقترب فيه فكرة ولي الفقيه من المستبد العادل، طالما كان ضمن تراتبية دينية، ولربما تفوق ذلك بكثير، خصوصاً إضفاء طابع القدسية عليه.

لم يعد الناخب الإيراني في ظل خصوصية الحالة الإيرانية، ملزماً بفتوى السيد علي خامنئي «مرشد الجمهورية الإسلامية» أو غيره من المراجع الكبار، وهو أمر أفرزته الانتخابات الأخيرة، حين جعلت الشك بصدقية وجدوى مثل هذه الفتاوى في ظل الانحيازات المسبقة، ولعل ذلك سيتم تفسيره باعتباره شكلاً من أشكال الاستبداد باسم الدين، الذي لا يمكن لإيران التخلص منه دون التحلل من استبداد ولاية الفقيه، وهو ما سيفرزه الصراع بين التيار المتشدد-الأصولي، وبين التيار الاصلاحي-المجدد، حتى إن كان جنينياً، ولعل ذلك لن يحدد مسار التيارين فحسب، بل مسار إيران كلّها لاحقاً، في القريب العاجل أو في الاستحقاق الآجل.

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top