خواطر صيفية

نشر في 31-07-2009
آخر تحديث 31-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان الصيف خانق ومربك وثقيل، وأطول من العفريت، كما يقول رجل الشارع في مصر، فهو يسرق من الربيع نصفه على الأقل ومعظم الخريف، محيلاً الفصلين الوديعين إلى مجرد طيفين أو شبحين يصعب رصدهما أو الاستمتاع بما فيهما من رقة وتميز.

«لم يعد الربيع وردةً

ولا الخريف غيمة مسافرة

الصيف مط وجههُ

واندس في الربيع والخريف والأغاني

كيف إذاً سأحتفي بامرأةٍ

كان الربيع وجهها»

في أوائل مايو تتناثر ملامح الصيف في شوارعنا وتتدافع أحياناً موجات حَرِّهِ وغباره، ويخفف الناس ملابسهم ومعظم أحلامهم وتجوّلهم العشوائي في الميادين والشوارع، ويخطط القادرون منهم لقضاء عدة أيام في مصيف ما، بينما يقنع الآخرون بالتمدد تحت المراوح أو حولها.

«ما يصدُّ البرد يصدُّ الحر»... كانوا يقولون ذلك في القرى المصرية ويرتدون الملابس نفسها في الصيف والشتاء ساخرين من هشاشة أبناء المدن وضعفهم وحرصهم الزائد على الحد، وكانوا يبجلون الصيف وينتظرونه ويقولون: «خيره كتير... وحصيرته واسعة»، لأنه فصل الحصاد والغرس والفيضان، ولأن البركة ميَّزت نهاره وأضافت إليه فصار طويلاً يعينهم على إنجاز أعمالهم، لكنني لا أحب الصيف لأنه يحاصرني بكسل لا حدود له وبانصراف عن الكتابة والقراءة الجادة، ولأنه يذكرني في الوقت نفسه بكل الأحداث الكبرى والحروب التي هرستنا وبدلت واقعنا بدءاً من حرب يونيو 1967 التي مازلنا عاجزين عن إزالة آثارها ونتائجها وصولاً إلى الهجوم الإرهابي على برجي نيويورك في سبتمبر 2001، وما لحق بمنطقتنا من دمار وتخريب وفوضى بسببه، خصوصاً في العراق وأفغانستان، إضافة إلى تشويه صورة الإسلام واعتبار المسلم والعربى إرهابياً يستحق المطاردة والحصار وتقليص كل حقوقه أو اغتياله، والصيدلانية مروة الشربيني التي اغتيلت على يد أحد المتعصبين الألمان لم تكن أولى ضحايا هذا التشويه، ولن تكون آخرهم.

في شهر يونيو حجزت حرب عام 1967 لنفسها موقعاً مؤثراً وذكرى مازالت قادرة على إيلامنا، خصوصاً أن نتائجها لم تزل جاثمة على القلوب والصدور، وفي يوليو يُطل وجه عبدالناصر ونتذكر أيامه وكلامه وأحلامه التي كانت أيضاً أحلاماً لنا وقاطرة نتشبث بها، وفي أغسطس أيضاً نتذكر انهيار النظام العربي الذي تجلى في غزو قوات صدام حسين للكويت، وما ترتب عليه من دمار وانقسام وفوضى.

لم نستفد للأسف من كل هذه الأحداث القادرة على إيقاظ الصخور، ولم نرفع راية العلم والعقل والحوار، فمازلنا أسرى المناخ الحماسي، نعشق الخطب والشعارات والكلمات الكبيرة ونضيفها عادة إلى أرصدة قوتنا ومنجزات كبارنا وزعمائنا.

ولم تعلمنا كل هذه الأحداث أن لغة الحرب غير لغة الأدب، وأن لغة السياسة أو الاقتصاد لا علاقة لها بلغة المقاهي والإخوانيات، فمازلنا نخلط بين هذه اللغات والمجالات ونتحدث أحياناً عن الشيء ونقيضه بنفس الإصرار والحماس.

في صباي كان الصيف جائزة سنوية كبرى ننتظرها، ونحلم بانتهاء العام الدراسي للفوز بها فقد كان الآباء يعفون الناجحين أحياناً من معظم الأعمال الشاقة في الحقول ويسمحون لهم أيضاً في يوليو بالذهاب إلى القاهرة أو مدينة شبين الكوم لمتابعة احتفالات الدولة بأعياد الثورة وسماع خطب عبدالناصر والأغاني الوطنية الجديدة.

لم يبقَ من عصر عبدالناصر سوى السد العالي وبعض الأناشيد والأغاني التي تذكرنا أحياناً بأنفسنا وبأيام الصبا ومشاريعه، ولم يتبق من يوليو سوى موجات الحر التي تطارد الناس في الشوارع وتحبسهم في منازلهم بالإضافة إلى موجات أخرى تهب عادة في يوليو هي موجات الهجوم على عبدالناصر ودكتاتوريته وسجونه، وكأن السجون في أيامنا قد أُغلقت أو خلت من المعارضين والمعتقلين، وكأن الديمقراطية الحقيقية قد وجدت بعد رحيل عبدالناصر ملاذاً آمناً لها في بلادنا.

لم يكن عبدالناصر ملاكاً، قلت أكثر من مرة، لكنه استطاع قبل نصف قرن إنهاء سيطرة رأس المال على أمور البلاد وإلغاء نفوذ باشوات العصر الملكي ثم انحاز إلى ملايين البسطاء والفقراء من الفلاحين والموظفين والعمال واستطاع أن يبني في عشرة أعوام «1957 – 1967» معظم الشركات والبنوك والمؤسسات والمصانع العملاقة التي انشغل خلفاؤه في العقود الأخيرة بتفكيكها وبيعها أو السماح بتخريبها ونهبها، لكى يعلنوا في النهاية انتصار الثروة على الثورة، وعودة «الباشوات الجدد» لممارسة نفوذهم وسلطتهم... والمثير أن الذين يهاجمون عبدالناصر ويتحدثون عن استبداده وسيئاته ينسون التطرق إلى ما نحن فيه الآن، ربما لأن الصيف يصيب بعض العيون أحياناً بما يشبه العمى.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top