في ذكرى الدرويش

نشر في 07-08-2009
آخر تحديث 07-08-2009 | 00:00
 محمد سليمان هناك شعراء نستطيع حذف بعض أو كل شعرهم دون أن يختل المشهد الشعري أو يتضرر، وهناك في المقابل شعراء آخرون يصعب علينا تخيل المشهد الشعري من دونهم، وهؤلاء هم الشعراء الرموز الذين يشكلون بقصائدهم أبرز ملامح الحركة الشعرية في عصر ما، ومن ذلك النوع الأخير كان ومازال محمود درويش الذي رحل قبل عام، بعد أن راد وأبرز في الستينيات والسبعينيات قصيدة المقاومة وحمل رايتها، وصار الممثل الشرعي والأكبر لها، وبعد أن عايش في الأعوام الأخيرة تراجع القضية الفلسطينية ومرارات التشظي العربي والاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني ثم ذلك الانتشار السرطاني للميليشيات والحروب العبثية التي هدّت وفتت فسجل يأسه وأساه وغضبه في قصائده وكتاباته الأخيرة، فقال في كتابه «أثر الفراشة» الصادر في يناير 2008 تحت عنوان «أنت منذ الآن غيرك» «لولا أن محمد هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابة نبي، ولكل صحابي ميليشيا» وأثر الفراشة كتاب يضم يوميات درويش الشعرية والنثرية وهو آخر ما صدر للشاعر قبل رحيله، ويخيم على معظم نصوصه ذلك الانكسار الذي عاشه درويش في أعوامه الأخيرة فمفردات الموت، السراب، البطلان، المنافي، التشظي مفردات مركزية تدور حولها أغلب القصائد:

«كم البعيدُ بعيدٌ / كم هي السبلُ / نمشي... ونمشي إلى المعنى

ولا نصلُ / هو السراب دليل الحائرين / إلى الماء البعيد / هو البطلانُ والبطلُ / نمشي .. وتنضج في الصحراء حكمتنا / ولا نقول: لأن التيه يكتملُ»

أربعة عقود تفصل قصائد «أثر الفراشة» عن قصائد درويش الأولى التي رفعت راية الأمل والصمود والإصرار على المقاومة ورسخت القضية الفلسطينية في الوجدان العام.. أربعة عقود سافر فيها الشاعر من ثقافة إلى أخرى ومن منفى إلى آخر فاتسعت تجربته وتراكمت خبراته وعايش فيها أيضاً العديد من التحولات والهزائم التي انعكست على إبداعه وشحنته بالأسى واليأس أحياناً، فتوارى صوت المقاوم المتفائل الحالم بتغيير الواقع وبقصائد «تنقل المصباح من بيت إلى بيت» وببسطاء يلتفون حول الشاعر ويعشقون الشعر، وبرزت الوحشة وانشطارات الذات وذلك التشظي الذي يوجه الواقع ويقوده.

«تحيا مناصفة / لا أنت أنت ولا سواكْ / أين أنا في عتمة الشبه؟ / كأنني شبح.. يمشي إلى شبح / فلا أكون سوى شخص مررت به / خرجت من صورتي الأولى لأدركه / فصاح حين اختفى: يا ذاتي انتبهي»

يتسع الشعر لأساليب وأشكال إبداعية مختلفة متيحاً للشاعر الماهر فرص استخدام كل طاقاته وحيله لتجديد صوته وجلده وإثراء عالمه، فالشاعر الضعيف يظل غالباً أسير بداياته خائفاً من المغامرة وعاجزاً عن اكتساب أرض شعرية جديدة بينما يظل الشاعر القوي دائم التمرد على ذاته ولغته، ومن ثم قادراً على التجديد والإبهار، وقد تمرد محمود درويش في رحلته الشعرية أكثر من مرة على ذاته ولغته وتوجهاته فانتقل من الجمل القصيرة والصور البسيطة والمباشرة الى الجمل الأطول والصور المركبة وإلى نوع من الغنائية الملحمية في بعض دواوينه الأخيرة، ثم انتقل مرة أخرى في قصائده القصيرة الى النص المكثف والمشع وإلى بساطة أخرى تتكىء على الرصد والغوص والتأمل والانشغال بالتجربة الإنسانية وبالوجود الإنساني وقد عمقت هذه الانتقالات تجربة الشاعر وأثرتها.

«لا كما ظن آدمُ / لولا الخطيئة / لولا النزول إلى الأرض / لولا اكتشاف الشقاء / وإغواء حواء / لولا الحنين إلى جنة غابرة / لما كان شعر ولا ذاكرة / وما كان للأبدية معنى العزاء»

في المنفى تصبح القصيدة وطناً بديلاً للشاعر، لذلك تكثر عادة دواوين الشعراء الذين يعيشون في المنافي، وقد عاش محمود درويش معظم عمره مُبعداً عن فلسطين القلب والروح التي حلم بها ورأى بعض ملامحها في طفولته، وكان عليه من ثم أن يموضعها في قصائده بأرضها وشجرها وناسها وتراثها الشعبي وحكايات قراها وأغانيها، خريطة فلسطين في شعر درويش كانت ومازالت أبرز أدوات المقاومة وصد غيلان المحو والاقتلاع، وقد نجحت قصائد الشاعر في تسريب هذه الخريطة إلى الذاكرة العربية في السبعينيات والثمانينيات لكن هذا النجاح حوصر في الأعوام الأخيرة بالانهيارات والانشقاقات التي تتابعت لتطيح بالحلم وترسخ المنفى.

«يتلفت المنفي نحو جهاته / وتفر منه المفردات الذكريات / ليس الأمام أمامه / ليس الوراء وراءه / وعلى اليمين إشاره ضوئية / وعلى اليسار إشارة أخرى / فيسأل نفسه / من أين تبتدئ الحياة؟».

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top