طوابير القطاع الحكومي... إغراءات وأعباء مالية وبطالة مقنَّعة الأزمة الاقتصادية العالمية عززت الابتعاد عن القطاع الخاص

نشر في 15-03-2009 | 00:00
آخر تحديث 15-03-2009 | 00:00
يفضِّل الكويتيون العمل داخل القطاع الحكومي، نظراً إلى المميزات التي يقدمها بخلاف قطاعات العمل الأخرى، ورغم كثير من الإغراءات التي قدمتها الحكومة لدفع المواطنين نحو التوجه إلى القطاع الخاص، فإن الأزمة المالية العالمية عززت عدم الثقة به، وظلت الوظيفة الحكومية هي حلم الجميع، لكن الأمر ينطوي على أعباء مالية تتكبدها الدولة، وبطالة مقنَّعة تتضخم في القطاعات الحكومية، ومستقبل مجهول.

تتزايد الطوابير سنوياً، طلبا للتوظيف داخل القطاعات والاجهزة الحكومية المختلفة، وأمست الوظيفة الحكومية عند عدد كبير من الكويتيين أفضل بكثير من العمل في القطاع الخاص، ولعل الأزمة المالية العالمية أدت الى النفور من القطاع الخاص، باعتباره ليس محصنا من الانتكاسات، وحتى هذا الأخير لجأ الى الحكومة أخيرا لإنقاذه.

ولهذا باتت الوظيفة الحكومية «غاية اجتماعية عند كل مواطن كويتي» كما يقول الوكيل المساعد للشؤون القانونية في ديوان الخدمة المدنية فيصل الغريب، باعتبار أنها «تحفظ للمرء نصيباً من الدخل، فضلاً عن المزايا الاجتماعية المستمدة منها، لاسيما المزايا المرتبطة بنظام الأجور المميز والعلاوات والترقيات»، وقال إن «هذه الأسباب أدت إلى انجذاب وتدافع قوى العمل الوطنية للحصول على وظيفة في القطاع الحكومي وعزوفها عن العمل في القطاع الخاص».

مشكلات آليات التوظيف

الغريب أشار إلى قرار مجلس الوزراء رقم 551 الصادر بشأن آلية التعيين الذي «جعل عمليات التوظيف مركزية عن طريق ديوان الخدمة المدنية، وأوجد نوعا من الشفافية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المسجلين وطالبي الوظائف المختلفة، بما يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية ووفقاً لضوابط ومعايير موضوعية، تنطبق على كل التخصصات، إذ يقوم الديوان أولا بإعلان مواعيد التسجيل وبعد ذلك تتم عملية الترشيح وفقاً لما تحتاج إليه الجهات المختلفة من التخصصات.

أضاف الغريب أن هناك «تخصصات نادرة لا تغطي احتياجات الجهات الحكومية مثل القانونيين والأطباء والمهندسين وهذه المسألة تضع الديوان أمام مشكلة صعبة»، مشيرا إلى أن «هناك تخصصات لا يقابلها احتياجات لدى الجهات الحكومية، فعمل الديوان على تلافي هذه المشكلة من خلال عملية تعظيم الترشيحات بدمج بعض التخصصات مع تخصصات أخرى قريبة منها، لكي يتسنى ترشيح الحاصلين على هذه التخصصات للعمل في الوظائف المناسبة».

نسبة العمالة في القطاع الحكومي

وأكد الغريب أن «قوة العمل الكويتية تركزت اخيراً وبشكل ملحوظ في القطاع الحكومي، حتى بلغت نسبة العاملين في القطاعات الحكومية المختلفة إلى جملة قوة العمل الكويتية نحو 92.5 في المئة في منتصف عام 1995، وازدادت إلى 93.19 في المئة في منتصف عام 2000 في الوقت الذي ظلت فيه نسبة المواطنين العاملين في القطاع الخاص إلى جملة قوة العمل الوطنية ثابتة عند 5.6 في المئة، كما تناقصت نسبة العاملين في القطاع المشترك إلى 0.46 في المئة ثم 0.18 في المئة، متوقعاً أن يستمر التزايد في أعداد المواطنين العاملين في القطاع الحكومي لترتفع نسبتهم من جملة قوة العمل الكويتية إلى نحو 98.6 في المئة في منتصف عام 2009، بـسبب «تزايد أعداد الملتحقين بالمراحل التعليمية المختلفة، التي تقدر مضافا اليها الداخلون الجدد إلى سوق العمل حتى عام 2006 بنحو 72607 مواطنين، مع وجود بعض التوقعات التي تشير إلى زيادة النصيب النسبي للإناث المتوقع دخولهن سوق العمل عن نظرائهن من الذكور».

واعتبر أن «تزايد أعداد المتوجهين إلى العمل في القطاع الحكومي أدى إلى ارتفاع وزيادة الاعباء المالية على الميزانية العامة للدولة نتيجة لارتفاع مستويات الانفاق على المرتبات، التي أصبحت تستحوذ على نحو 48.4 في المئة من الايرادات النفطية في عام 2000-2001»، متوقعاً أن «تستحوذ المرتبات على نحو 128.4 في المئة من إجمالي الايرادات النفطية في عام 2020-2021، إذا استمرت الدولة في تبني ذات السياسة».

لماذا القطاع الحكومي؟

قطع ديوان الخدمة المدنية شوطاً ملحوظا في ما يتعلق بتكويت الوظائف الحكومية كانت بدايته عام ،1997 أسفر عن توفير 12 ألف و363 فرصة وظيفية خلال الفترة من 1997 حتى 2008، قفزت خلالها نسبة التكويت في العديد من الوزارات والهيئات حتى بلغت 90 في المئة في 11 جهة حكومية، تصاعدت لتتراوح ما بين 80 إلى 90 في المئة في بعض الجهات الحكومية الأخرى، في حين ظل هناك عدد من الجهات مازالت نسبة التكويت به دون 80 في المئة، ومن الملاحظ أن هناك تشوهاً وخللا في تركيبة قوة العمل الكويتية، مما أدى الى تبني هذا التوجه وصدور القانون رقم 19 لسنة 2000 بشأن دعم العمالة الوطنية وتشجيعها للعمل في الجهات غير الحكومية.

لكن الأزمة المالية العالمية ألقت بظلالها على الواقع الكويتي، في سياق ما يحدث من تداعيات مالية على الشركات الخاصة، فلم يعد المواطن يثق بالعمل في القطاع الخاص، بعد أن أغلقت كثير من الشركات أبوابها، أو في أحسن الاحوال قلّصت عدد موظفيها، وأحيانا خفضت الرواتب.

رواتب القطاع الخاص متدنية

ويقول عبدالله الهادي الذي يعمل في القطاع الحكومي «القطاع الخاص لا يرغب بشكل جدي في توظيف العمالة الوطنية، ويرى أنها حمل زائد عليه ولا فائدة منها، فتجده يعرض رواتب متدنية على المتقدمين لشغل الوظائف المختلفة، على عكس ما يدفع لبعض المديرين الأجانب في بعض الشركات، الذين قد يصل راتب الواحد منهم إلى راتب ثلاثة أشخاص في الشهر»، معتبرا أن سياسة «سمعاً وطاعة، ونفّذ ولا تناقش» التي يتبعها مسؤولو القطاع الخاص، فضلا عن تحكمهم في العاملين وحكمهم المسبق عليهم بأنهم غير مؤهلين، من أكثر الاسباب التي أدت به إلى تقديم استقالته وتقدمه بطلب وظيفة حكومية، تحفظ له جميع حقوقه المادية والاجتماعية.

إغراءات وموروث اجتماعي

ولفت سلمان العتيبي 40 عاما يعمل في إحدى الهيئات الحكومية إلى أن «الاغراءات التي تقدمها الدولة لاجتذاب الشباب وحثهم على العمل في القطاع الحكومي كثيرة ومتنوعة ويصعب مقاومتها من قبل الشباب الكويتي، منها على سبيل المثال لا الحصر نظام الرواتب والحوافز والعلاوات والبدلات بالاضافة إلى بعض الجهات التي تتوافر فيها كوادر خاصة لبعض الخريجين والتي تزيد رواتبهم على 800 دينار، كالمدرسين وخريجي الحقوق في بعض الجهات كالبلدية وإدارة الفتوى والتشريع والتحقيقات والمهندسين، فضلا عن نظام الاجازات والدوام المحدد بوقت معين للحضور والانصراف، لاسيما الوضع الاجتماعي المرموق الذي تحفظه الوظيفة الحكومية».

عبدالرحمن حسين، 40 عاما يعمل في إحدى الوزارات أوضح أن «أهم أسباب عزوف الكويتيين عن العمل داخل القطاع الخاص، هو الموروث الاجتماعي المنقول عن الوالدين، لأنهم نقلوا لابنائهم صورة غير حقيقة عن العمل داخل القطاع الخاص، تمثلت في عدم أمانة هذا القطاع، وعدم جديته وعدم مصداقيته، والتهديدات المستمرة التي تلاحق العاملين في هذا القطاع من الاقالة إن لم تظهر إمكانات معينة تميزك عن الآخرين، والتقيد بمواعيد معينة في الحضور والانصراف رافعين شعار «لا للأعذار» أما في القطاع الحكومي فستجد العكس تماماً فلا يستطيع أحد أن يقيلك من عملك، قد تكون هناك جزاءات أو عقوبات مالية، تصل إلى الخصم من الراتب في بعض الاحيان، ولكنها لا تصل إلى الإقالة مطلقاً».

«تهافت» وبدائل

مشعل الهاجري 33 عاما يرى أن «تهافت الكويتيين على العمل في القطاع الحكومي جعل الدولة تضع البدائل وتشجع المواطنين على العمل في القطاع الخاص، بذريعة أن القطاع الحكومي لا يمكن أن يستوعب جميع الخريجين، والقطاع الخاص هو المؤهل لكي يلعب هذا الدور، لاسيما في الدول التي تتبنى آليات الاقتصاد الحر ويقع على القطاع الخاص فيها العبء الأكبر في تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية»، لافتاً إلى أن «الحكومة في الآونة الأخيرة تبنّت سياسة تشجيع الشباب على الانخراط في العمل بالقطاع الخاص، وتقديم الدعم المالي اللازم لتحفيزهم من خلال صرف العلاوة الاجتماعية وعلاوة الأولاد للعاملين في هذا القطاع».

واعتبر الهاجري أن «نجاح هذه السياسة مرتبط بزيادة الوعي المجتمعي ومعرفة المواطنين بأهمية العمل في هذا القطاع وآثاره الإيجابية على التنمية الاقتصادية عموماً، فضلا عن مدى تعاونه الإيجابي مع الجهود التي تبذلها الدولة في هذا المجال، من خلال إعطاء الأولوية للعمالة الوطنية وتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية لحساب العمالة الوطنية».

وفقا لإحصاءات ديوان الخدمة المدنية بلغت القوة العاملة الوطنية في القطاع الحكومي حوالي 215 ألف موظف تقريباً، بنسبة تصل إلى 74.7 في المئة تقريباً من إجمالي العمالة في القطاع الحكومي، بينما كشفت وزراة الشؤون الاجتماعية والعمل حسب آخر إحصاءاتها عن أكثر من 900 ألف مشتغل في القطاع الخاص لا تتعدى نسبة العمالة الوطنية بها 15 في المئة.

البنك الدولي... والتوظيف الحكومي

وجه البنك الدولي تحذيراً إلى الحكومة من استمرار التوظيف في مؤسسات القطاع الحكومي نظراً إلى زيادة التضخم في هذا القطاع، الذي لم يعد يتسع لوظائف جديدة، في وقت تستمر الحكومة في توظيف المواطنين والمقيمين، وكشف البنك الدولي في تقريره الأخير أن نسبة كبيرة فاقت 50 في المئة من موظفي الحكومة غير منتجين، ويصنفون ضمن البطالة المقنعة، وهذه النسبة تجتاح وزارات الدولة لاسيما اصحاب الشهادات المتوسطة منهم، لافتا إلى أن الزيادة المستمرة في رواتب الكويتيين العاملين في القطاع الحكومي، واستمرار التوظيف في المؤسسات الرسمية، والذي يتزايد وبشكل مخيف، أديا إلى تضخم سيهدد ميزانية الباب الاول لاسيما بعد وصول نسبته إلى 60 في المئة.

وناشد الحكومة ضرورة الاستعانة بتجارب الدول المتقدمة التي نجحت في الحد من التضخم داخل مؤسساتها الحكومية، لكن الحكومة لن تستطيع منع توظيف المواطنين في القطاع الحكومي بشكل نهائي نظرا الى التعارض مع مبادئ الدستور الذي كفل العمل للمواطنين في مختلف الوزارات، لكنها في الوقت نفسه وعدت بتقليل عمليات التوظيف وتوسيع الاتجاه نحو تعيين الكوادر الوطنية في مؤسسات القطاع الخاص، وتعد الحكومة حاليا دراسة شاملة لإعادة هيكلة التوظيف من خلال البحث عن طرق جديدة لتعيين الكويتيين في القطاع الخاص للحد من التضخم الذي وصل إلى معدلات قياسية.

back to top