في رهان الخسارات الدائمة!

نشر في 02-10-2008
آخر تحديث 02-10-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ باستعادة نخبها السلطوية الحاكمة، دور الدولة الوطنية (القومية)، تكون روسيا قد خطت خطوة كبرى؛ باتجاه ما قد نطلق عليه تجاوزا؛ القيام بثورة بلشفية عظمى جديدة، استعادت فيها رأسمالية الدولة الوطنية دورها القائد، ليس للاقتصاد فحسب، بل للسياسة؛ الإقليمية منها والدولية، ليس بالضرورة على قاعدة العداء أو استعداء النظام الدولي بزعامته الأحادية القطبية، إلا إذا اعتبرت واشنطن الاندفاعة الروسية الجديدة ما بعد 8 أغسطس 2008، خروجا على نظامها وتوازنه الهش، ومحاولة خلق عالم أكثر اتزانا، لا يعتمد الاستباق والوقائية في حروبه العسكرية؛ وسياساته الأكثر انحيازا لمصالح الوحدانية المتحكمة باقتصاد وسياسات وثروات العالم. حتى أن التوسط الفرنسي بين روسيا وجورجيا، وعودة تأكيد فرنسا وألمانيا معارضتهما انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو، شكلا المحاولة الأبرز لتجسير الهوة الكبرى التي كان يمكن أن تنشأ؛ جراء الدخول الروسي إلى جورجيا بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة، وتحالفها الغربي عبر الأطلسي.

لهذا... بالتحديد لم يكن عبثا تلك المقارنة التي لجأ إليها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بين الهجمات الجورجية ضد أوسيتيا الجنوبية، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، ليستنتج من ذلك أن العالم بات في حاجة (ابتداءا من هذا التاريخ) إلى منظومة جديدة للأمن، قائمة على أساس التعددية القطبية.

لقد جهدت نخب الحكم في روسيا للوصول إلى هذه اللحظة، منذ خبرت مآسي انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وتحول النظام في روسيا إلى نظام ينخره الفساد الذي تحكمه نخبة من المافيا المتحفزة للهيمنة على اقتصاد مدمر، وخزينة خاوية، وإدارة دولة فاشلة. هذه اللحظة التي تنجح رأسمالية الدولة الوطنية الآن في وضعها على سكة التحدي لنظام الأحادية القطبية، لا يمكنها أن تتوازى ولحظة بدء الحرب الباردة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالتنافس الحالي وإبداء عدم الرضا عن قيادة النظام الدولي، لا ترقى وأساليب الحرب الأيديولوجية التي دارت رحاها يوما، وأدارت العالم على إيقاع من انحيازات ليست مبدئية بالضرورة، وما التحالفات الحالية وانحيازاتها الجديدة أو المتجددة، فهي ليست أكثر من استناد إلى جدار روسي، نجحت رأسمالية الدولة الوطنية (القومية) بإقامته، لأهداف قومية خاصة، لا يمنع من الاستفادة منها؛ لا «الجوار القريب» ولا أولئك الحالمون باستعادة تحالفات الحرب الباردة وانحيازاتها وصراعاتها الأيديولوجية، على ما يذهب اليوم ممانعونا العرب وبعض الأنظمة الشعبوية في أميركا اللاتينية.

إن تعديل موازين القوى في عالم ما بعد الحرب الباردة، وإن احتاج إلى عنف حروب صغيرة، فهو بالتأكيد أكثر احتياجا إلى قرارات سياسية سيادية، تأخذها الدولة الوطنية (القومية)على عاتقها، كتوجه جدي باتجاه خلق معطيات ندية؛ تتهاوى في ظلها هيبة إمبراطورية أميركية متداعية. من هنا يمكن اعتبار النجاح الروسي ومن قبله نجاحات دول-أمم في لعب أدوار إقليمية وفرض طموحاتها في محيطها القريب والبعيد، بمنزلة إسهام في ضعف القبضة الحديدية للأحادية القطبية الأميركية وجموحها الإمبراطوري، وهو ما سبق وأتاح، وقد يتيح اليوم استعادة دور الدولة الوطنية (القومية) في ممارسة كاملة لسيادتها الوطنية، التي انتقصت منها وتنتقص؛ تلك الأفهومات التي شوهتها هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. إن استمراء الأنظمة والمجتمعات العربية، حال التواكل والتبعية، وإحلال التصورات الذهنية الذاتية، كان يقود على الدوام إلى إجهاض عملية الخروج من أسر التواكل، بقاء عند حدود التبعية، وجعل الفكر السياسي متخلفا وفقيرا، وخلق حالات من الهومشة، وعدم الاكتراث بإنماء فكر علمي عقلاني يقود مسار تحديث مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية، لا سيما في ظل هيمنة ونفوذ التيارات الدينية وتواطؤها مع قوى متنفذة في الحياة العامة، وانشغالها واشتغالها بهموم ذاتوية تعيدنا إلى فضاءات بدائية، لا تمنح أي أمل لنا بالخروج من حالات الاستلاب والاغتراب، والاتجاه صوب بناء سيادات وطنية مستقلة، أو تنمية برجوازيات وطنية؛ كشرط من شروط تنمية معطيات إقامة الدولة الوطنية (القومية) المنشودة. أما الافتخار بصعود مثل هذه الدولة، هنا أو هناك، دون العمل من أجلها، أو الاشتغال والمساهمة في تجسيدها كقوة مادية ضرورية في لحظات تاريخية حاسمة، كتلك التي تعيشها مجتمعاتنا، فهذا ما لن يفلح في انتقالها إلى مراحل تاريخية متقدمة. أما الرهان على حرب باردة كتلك التي سادت يوما فضاء النظام الدولي، فهو رهان الخسارات الدائمة، خسارات ما لا نملك، وعدم الربح أو حتى النجاح في استثمار أو توظيف ما نملك.

ولئن تنجح روسيا اليوم في استعادة دور الدولة الكبرى، واستعادة النخبة الحاكمة لدورها الرائد؛ كقائدة لرأسمالية الدولة الوطنية، فذلك نتاج تطور داخلي أولا: اقتصاديا واجتماعيا، استطاعت نخب السلطة أن تكرسه سياسيا، وتبلوره الآن سياديا، كما أنه نتاج نكوص في دور الدولة الإمبراطورية، من جراء فشلها في قيادة وإدارة العالم عبر أحاديتها القطبية، رغم حروبها الاستباقية.

أما السلطة في بلادنا ونخبها الحاكمة، في مجتمعاتنا العربية ومثيلاتها؛ هنا أو هناك؛ فهي ما ستبقيها حال التواكل والتبعية رهينة محابسها الخاصة والعامة على حد سواء، ورهينة أيديولوجاتها تلك التي ستبقى العامل الرئيس المانع؛ أمام مهمات تطوير فكر سياسي أكثر عقلانية وعلمية وإدراكا لطبيعة مهمات اللحظة السياسية والاجتماعية، وتطلبها نخبا للحكم تختلف اختلافا جذريا عما هو سائد، وتمتلك طموحا واقعيا مشروعا للتقدم، وإيمانا راسخا بالحداثة العلمية المنشودة، وهذا كله نتاج وظيفة الدولة ودورها، لا نتاج نفيها ونفي أي دور لها في إدارة المجتمع، وإلا بقينا عند حافة الغاب نرتع في غيبوبة الغياب سلطة ومجتمعا، ودولة سلطانية لا تجيد سوى فرض سطوة واستبدادية النقل وإلغاء العقل.. والإياب دائما إلى الماضي التليد.

* كاتب فلسطيني

توضيح

حدث خلل فني في مقال الكاتب ماجد الشيخ الذي نشر يوم الثلاثاء 30- سبتمبر 2008 تحت عنوان «في رهان الخسارات الدائمة» لذلك نعيد نشره من جديد.

back to top