أطول حرب أهلية عربية أشعلتها امرأة اسمها البسوس أربعون عاماً من القتال في أطول حرب أهلية عربية

نشر في 28-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 28-09-2008 | 00:00
حرب البسوس هي حرب قامت بين قبيلتي بكر وتغلب واستمرت 40 عاما من 494 م إلى 534 م، بسبب مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس بن مرة البكري وانتهت بمقتل المهلهل أخو كليب دون نتيجة حاسمة لصالح إحدى القبيلتين.

كان لحرب البسوس تأثير في الأدب العربي خصوصا في شعر الرثاء والحماسة فكان للمهلهل شعر شهير في رثاء أخيه والتحريض على الثأر له، كما أن القصة قد دخلت الأدب العربي على شكل حكاية ملحمية في تصوير الحرب والثأر ونهاية الحرب. لم يثبت أن اسم المهلهل سالم، وما لاسم «الزير سالم» وجود إلا في الأسطورة التي ظهرت في أواسط القرن الماضي، أما المهلهل فقد ثبت أن اسمه عدي يقول الحارث بن عباد:

لهف نفسي ولم أعرف عديا ..إذ أمكنتني من عدي اليدان.

وهذه القصه تبدأ حين فض كليب جموع اليمن وهزمهم، فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته، واستمر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له، ولايختبئ أحد في مجلسه غيره، ولا يغير إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد، ولا توقد مع ناره، ولم يكن بكري ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمي إلا بأمره، وكان يقول: وحش أرض في جواري، فلا يهاج، وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو «كلب»، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب، فضرب به المثل في العز فقيل: أعز من كليب وائل، وكان يحمي الصيد فيقول: صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً.

وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرون ابناً كان جساس أصغرهم، وكانت بنو جشم وبنو شيبان تقيم في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة.

وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس، فسكت كليب، ومضت مدة، وبينما هي تغسل رأسه ذات يوم إذ قال لها: من أعز من وائل؟ قالت: أخواي جساس وهمام، فنزع رأسه من يدها وخرج.

وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبني مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله، وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقي كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل بناقتكم؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً.

ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز من وائل؟ فقالت: أخواي، فأضمرها في نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة ثم قال: ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جساس، فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية (أي جساس) أن يجير عليّ بغير إذني؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها.

وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: وا ذلاه، فقال لها جساس: اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها عشرا، فلما كان الليل أنشأت تقول وترفع صوتها تسمع جساساً:

يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل ... فإني في قوم عن الجار أموات

لعمرك لو أصبحت في دار منقذ ... لما ضم سعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار معشر ...متى يعد فيها الذئب يعدو على شاتي.

فلما سمعها جساس قال لها: اسكتي لا تراعي إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وهو فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً نفسه.

ثم رحل ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على غدير فنفاه كليب عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على آخر فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على واد عظيم فمنعهم إياه، فمضوا واتبّعهم كليب وحيه فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل، وهو واقف على غدير، فقال له: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا، فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أوقد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها أتراك مانعي أن أذب عن حماي، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح تحت ابطه فلما رأى الموت قال: يا جساس، اسقني من الماء، فقال: ماعلقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه، فالتفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو، أغثني بشربة ماء، فنزل إليه وأجهز عليه.

وأمال جساس يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله فلما جاء جساس قال له: ما وراءك يا بني؟ قال: ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا، قال: وماهي؟ لأمك الويل أقتلت كليبا؟ فقال: نعم، فقال أبوه: إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك في صلاح العشيرة والله لبئس ما فعلت، فرقت جماعتك وأطلت حربها وقتلت سيدها في شارف من الإبل والله لا تجتمع وائل بعدها ولا يقوم لها عماد في العرب ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا مابي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا: لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك، فأمسك مرة.

ولما قتل كليب اجتمعت نساء الحي للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحلي جليلة من مأتمك، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها، فقالت لها أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها.

ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد وفقد حليل وقتل أخ عن قليل وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد، فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها.

وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً، فلما رحل مرة بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية، وأمره أن يرحل ويلحق بقومه، وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام: إن له لأمراً والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط في ركض، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليهما، وهما معتزلان في جانب الحي، فوثب همام إليها، فأخبرته أن جساساً قتل كليباً، وأن أباه قد رحل مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع، فقال له المهلهل: ما شأن الجارية والفرس ؟ وما بالك ؟ فقال: اشرب ودع عنك الباطل، قال: وما ذاك ؟ فقال: زعمت أن جساساً قتل كليباً، فضحك المهلهل وقال: همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت ثم أقبلا على شرابهما، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن، وهمام يشرب شرب الخائف، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا، فأنسل همام وأتى قومه من بنى شيبان وقد قوضوا الخيام وجمعوا الخيل والنعم ورحلوا .

ورجع المهلهل إلى الحي سكران فرآهم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم فقال: ويحكم ما الذي دهاكم ؟ فلما أخبروه الخبر قال: لقد ذهبتم شر مذهب أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها ؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه، فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد.

ولما أصبح غدا إلى أخيه فدفنه وقام على قبره يرثيه، وما زال المهلهل يبكي أخاه ويندبه ويرثيه بالأشعار وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة حتى يئس قومه وقالوا: إنه زير نساء، وسخرت منه بكر، وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب وشمر ذراعيه وجمع أطراف قومه، ثم جز شعره وقصر ثوبه وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ولا يشرب خمراً ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل قطره دم من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل، وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر، فقال له أكابر قومه: إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذر إلى إخواننا فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ولا تقطع إلا كفك .. فقال: جدعه الله أنفاً وقطعها كفاً والله لا تحدثت نساء تغلب أني أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية، فقالوا: لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم، فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله فقال: دونكم ما أردتم.

وانطلق رهط من أشرافهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه، وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل وقطعتم الرحم ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة ، إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة فإن فيك رضا القوم.

فسكت وقد حضرته وجوه بنى بكر بن وائل فقالوا: تكلم غير مخذول، فقال: أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه فهرب حين خاف فوالله ما أدري أي البلاد انطوت عليه، وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره، وأما أنا فلا أتعجل الموت وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل!! .. لكن هل لكم في غير ذلك ؟ هؤلاء بنيّ فدونكم أحدهم فاقتلوه وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل، فغضبوا وقالوا: إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن، ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً.

ووقعت الحرب بين الحيين، وكانت وقعات مزاحفات يتخللها مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان يلاقيان الرجلين وهكذا، وأول وقعة كان رئيس تغلب المهلهل ورئيس شيبان الحارث بن مرة فكانت الدائرة لتغلب، وكانت الشوكة في شيبان، واستعر القتال فيهم، إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.

ثم التقوا فظفرت بنو تغلب وقتلت بكر مقتلة عظيمة، ثم التقوا فظفرت بنو تغلب، وكان جساس بن مرة وغيره طلائع قومهم وأبو نويرة التغلبي طلائع قومهم أيضاً، فالتقوا بعض الليالي فقال له أبو نويرة: اختر إما الصراع أو الطعان أو المسايفة (أي التضارب بالسيوف) فاختار جساس الصراع فاصطرعا، وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان، وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما.

ثم التقوا فتكافأ الحيان، ثم التقوا وكانت الدائرة على بكر، وقتل في ذلك اليوم همام بن مرة أخو جساس، فمر به مهلهل مقتولاً فقال له: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقداً منك.

ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب، ثم إن تغلب جعلت جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: ألحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر، وبلغ الخبر مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه، فساروا مجدين، فأدركوا جساساً فقاتلهم، فقتل أبا نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه.

فلما سمع مرة بقتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً، فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم، وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم، وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.

فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل وقال له: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف، فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك.

ثم إن بنى بكر اجتمعوا إلى الحارث بن عباد، وقالوا له: قد فني قومك فأرسل بجيراً ابن أخيه إلى مهلهل وقال له: قل له: إني قد اعتزلت قومي لأنهم ظلموك، وخليتك وإياهم، وقد أدركت ثأرك وقتلت قومك، فأتاه بجير فهمّ المهلهل بقتله، فقال له أشراف بنى تغلب: لا تفعل وإياك أن تحقر البغي فإن عاقبته وخيمة ، فأبى مهلهل إلا قتله، فطعنه بالرمح وقتله ، فلما بلغ قتله الحارث بن عباد وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأساً قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل  وأرسل إلى مهلهل: إن كنت قتلت بجير بكليب، وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك، فأرسل إليه مهلهل: إنما قتلته بشسع نعل كليب ، فغضب الحارث وارتحل مع قومه حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال الحارث بن عباد له: إن القوم مستقلون قومك وذلك زادهم جرأة عليكم فقاتلهم بالنساء، قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء ؟ فقال: قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه.

فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها استبسالاً للموت، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم واقتتل الفرسان قتالا شديداً، وانهزمت بنو تغلب .

وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على المهلهل، قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال: نعم ذلك لك، قال المهلهل وكان ذا رأي ومكيدة: فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي والحرب خدعة، فقال: كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لبجير، فقال: لا أعلمه إلا امرىء القيس بن أبان ، فجز ناصيته وأطلقه وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله.

فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترفأ وأجساد لا تدفن وسيوف مشهورة ورماح مشرعة وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر عنكم إلى اليمن.

وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم وتركوا الفتنة ولم يحضر المهلهل صلحهم، ثم اشتاق إلى أهله وقومه، ولحت عليه ابنته سليمى بالمسير إلى الديار فأجابها إلى ذلك، ورجع نحو قومه حتى قرب من قبر أخيه كليب وكانت عليه قبة رفيعة فلما رآه خنقته العبرة وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً، فوثب عنه المهلهل وضرب عرقوبيه بالسيف وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً لا يهم بصلح ولا يشرب خمراً ولا يلهو بلهو ولا يحل لأمته ولا يغتسل بماء حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.

فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب فلما رأى ما به قال: أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد ولتبلن ذوائبك بالطيب ، فقال المهلهل: هيهات .. هيهات  كلاً أو أقضي من بكر أربى ثم تأوه وزفر.

ونقض الصلح وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر فظفر به عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر (وكان صديقاً للمهلهل) فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه.

فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: إن لله على نذراً إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد البعير أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام، فقال له أناس من قومه: بئس ما حلفت ، فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاثة أيام، وكان المهلهل مات عطشاً، وانتهت فصول حرب البسوس

وقعت فيها هذه الأيام المشهورة من أيام العرب في الجاهلية ، وهى: يوم النهى، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم، وجميعها أسماء مواضع تمت فيها الحروب، ماعدا تحلاق اللمم لأن بني بكر حلقوا فيه جميعاً رؤوسهم فسمي بذلك وانتصرت تغلب في أربع حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة.

back to top