مشروع رمضاني للمصالحة والتقدم

نشر في 24-08-2008
آخر تحديث 24-08-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد كل عام وأنتم بخير، فرمضان الكريم على الأبواب.

ونكون بخير عندما تكون بلادنا وأمتنا بخير، وهي ليست كذلك، ومرت عليها شهور رمضانية كثيرة، وهي في أسوأ حالاتها، لكن حالتها اليوم هي الأسوأ، فهي راكدة وممزقة ومعظم قادتها لا يتحدث بعضهم مع بعض، وفي البلد الواحد بل وفي فلسطين التي يفترسها نظام الاحتلال الإسرائيلي، تتجاوز الصراعات كل حدود العقل.

وهي بوجه عام بلاد راكدة حضاريا، قال عنها سيف الإسلام القذافي ابن الزعيم الليبي منذ أيام إنها «تعيش غابة تحكمها الدكتاتوريات ونظم تنتهك حقوق الإنسان»، وهنا بيت القصيد، إذ لخص مأساة الأمة العربية في كلمات قليلة وبليغة وأردف القول بالعمل بأن أذاع أنه لن يتدخل في السياسة حتى لا يرث أبيه مثلما يحدث أو يُراد أن يحدث في النظم الملكية والجمهورية والسلطانية.

وأعتقد أن ما قاله يصلح بداية لمشروع رمضاني عربي، أول أهدافه استعادة واطلاق الحيوية الحضارية في العالم العربي على اتساعه، وهو ما يضمن بذاته الانتصار ضد خصومه وأعدائه على المدى الطويل، أما على المدى المباشر فلابد من وقف الصراعات الإبادية والاستئصالية ووضع أسس للوحدة الوطنية لا تصادر على الخلاف والاختلاف، بل تفيد منه في تأكيد التنوع والتعدد والاجتهاد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

والأساس العام للوحدة في ظل التنوع والاختلاف، هو النظام الديمقراطي، فهو النظام الوحيد الذي يسمح بالاعتراف بالتعدد ويطلق الصراع الفكري ويمنع الاستئصال ويحل النزاعات بصورة سلمية، من خلال مبدأ حكم القانون والانتخابات العامة الدورية النزيهة.

ولدينا هنا هدفان مترابطان لا يغني أحدهما عن الآخر، فالديمقراطية تحل مشكلة النزاعات الاستئصالية والتهميش المنظم للمعرفة والاستبداد والانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان والافتقار إلى معنى المساواة أمام القانون، ولكنها بذاتها لا تضمن إنهاء الركود السياسي ولا احترام حقوق الإنسان جميعها وبالذات حقوق المرأة والأقليات، كما لا تضمن التمكين المتساوي للطبقات الاجتماعية وكل تيارات الفكر والسياسة، ولا تضمن بالضرورة انطلاق قدرات التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ولفترة طويلة سواء في البلاد الأم للتجربة الديمقراطية أم في العالم الثالث والثاني، لم تكن الديمقراطية غير تسمية لاتجاه وحيد، هو الليبرالية الاقتصادية، واليوم يميز علماء السياسة بوضوح بين المصطلحين، فالديمقراطية هي نشر السلطة ومكافحة صور تمركزها الاعتباطي أو المقصود وضمان توازن واستقرار السلطات وتأمين الحقوق المتساوية للمواطنة والأخذ بصورة متزايدة بمعنى المشاركة المباشرة، والليبرالية هي إلى حد كبير مذهب اقتصادي يقوم في الجوهر على حق الملكية الخاصة مع الاعتراف بما يسمى بالسلع الجماعية أي الانتاج الاجتماعي لبعض الخدمات الأساسية وعبر الدولة، والليبرالية المعاصرة تأخذ بمعان ٍفلسفية عميقة مثل التسامح والقبول بالآخر والاستعداد للتعايش وتفضيل الحل السلمي للصراعات والنزاعات، ولكن هذه المبادئ تقنن على نحو شكلي وتؤطر أساسا في القوانين وليس بالضرورة في الواقع، وهذا هو المقتل الحقيقي لليبرالية التي تظل فكرا عظيما مع ذلك ومنبعا لكل الأفكار العصرية الأخرى، بل ولكل الأفكار الإنسانوية في المجال السياسي.

وما يضمن التمكين المتساوي من حيث المبدأ والعمل أيضا، هو الديناميكية الحضارية والثقافية ومن ثم التفسير التقدمي ذو الوجه الإنساني للدين.

وبينما يفخر بعض المسلمين بأن رمضان كان شهر الجهاد والحروب المظفرة في تاريخ الإسلام، آن الأوان لأن نفخر جميعا برمضان بمعنى مختلف: أي باعتباره مبادرة حضارية تتوافر عليها ولها أعلى مستويات الشحن الوجداني والإيماني، وبهذا المعنى يكون رمضان هو مناسبة الجهاد الأكبر: الجهاد ضد أنفسنا... ضد أمراضنا وضد ركودنا وتخلفنا الثقافي وفي الصعد المختلفة.

ومن هنا ندعو إلى أن يكون رمضان مناسبة لمبادرة أو مشروع كبير يستهدف الديمقراطية والانطلاق الثقافي معا.

لماذا هي ممكنة اليوم؟

هنا تظهر مشكلة منطقية، فكما أشرنا مرت علينا مئات من الشهور الرمضانية ونحن نعيش ظروف الانحطاط الحضاري والصراعات والحروب الأهلية الاستئصالية والاستبداد السياسي، فلماذا نعتقد أن شهر رمضان المعظم الذي يهل علينا في غضون أيام أو يهل في السنوات القليلة المقبلة مختلفا وحاملا بشرى كبيرة للغاية كهذه؟

بطبيعة الحال نحن نتحدث عن إطلاق مبادرة أو إشعال الرغبة في مبادرة حضارية كبيرة تستغرق عقودا لكي تحدث أثرها المطلوب في بنية المجتمعات العربية، والبداية هي أن تكون المصالحة الوطنية والقومية أداة إشعال ذاتي للسيارة الواقفة من دون أن يعمل فيها دينامو أو تمر فيها دورة كهرباء وطاقة تحريك، أما ردنا على هذا السؤال المنطقي المشروع، فهو أن لدينا عناصر أولية مهمة للوعي بالحاجة إلى مثل هذه المبادرة. والمطلوب هو تجميع ونظم ودفع هذه العناصر في القنوات المطلوبة، لإطلاق مبادرة حقّة وأصيلة.

فثمة ما يؤكد أولا أن التيارات الفكرية الحديثة في الوطن العربي تقبل وتريد أن يكون للدين دور ملموس وكبير في التشكيل الحضاري لهذه الأمة، وإن كانت تعارض مفهوم الدولة الدينية، والواقع أن التيار الليبرالي والاشتراكي في العالم العربي كان هو أول من بادر إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي واستلهام معاني التاريخ الإسلامي، ومثلت الأعمال الشعرية لمحمود سامي البارودي وأحمد شوقي ومن تلاهما من شعراء العربية الكبار هذه المعاني، فأعادت إحياء اللغة ذاتها والتي كانت انحطت في العصور الوسطى الإسلامية، وقدم الفكر الفقهي للإمام محمد عبدة بداية لمصالحة جوهرية بين إنجازات الحداثة الاقتصادية والسياسية والالتزامات الأساسية الكبرى للإسلام، وحتى الأعمال الفكرية للمفكر الليبرالي الأعظم طه حسين والشاعر الاشتراكي الكبير عبد الرحمن الشرقاوي ومسرحياتة المبكرة مثل الحسين ثائرا والحسين شهيدا، بداية جيدة في البحث عن مضامين جديدة للتاريخ الفكري والسياسي للحضارة الإسلامية، ولايزال التيار القومي الجديد ممثلا في مركز دراسات الوحدة العربية، «دينامو» يشتعل بالرغبة في إيجاد حيز كبير للإلهام الديني للمجتمع من دون جرح مبادئ المساواة وحرية العقيدة والمواطنة وحق تقرير المصير للشعوب.

وليس من الضروري أن يكون كل مفكري وكوادر هذه التيارات مشاركا في حتمية الاعتقاد بالحل السلمي للصراعات الفكرية والسياسية، وبعضهم يخشى على الديمقراطية من توغل أو تغول المعتقد الديني على الدولة الحديثة التي يريدونها مدنية، غير أنه إن كان رئيس تحرير مجلة شبه إباحية مثل «بلاي بوي» راغبا في انتقاد نفسه في كونه مع الليبراليين الآخرين لم يفهم الدور المركزي للدين في المجتمع، فمن باب أولى نقول إن أكثر الليبراليين واليساريين والقوميين العرب يريدون هذا الدور ويصالحونه مع مفهومهم عن الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.

والعكس صحيح أيضا. لايزال «إسلاميون» كثيرون يكفرون ويرفضون التيارات الفكرية والسياسية الحديثة ويريدون استئصالها، غير أن الاتجاه الديناميكي الجديد والأقوى الآن بدا يبحث بجدية عن استيعاب القيم الحديثة، فتجربة الديمقراطية «الإسلامية» الناجحة في تركيا صارت ملهمة للغاية لقوى كثيرة في العالم العربي.

وفي المغرب، بدأ تيار مشابه يأخذ حتى بالاسم وهو «العدالة والتنمية»، وصار أكبر تكتل حزبي منفرد في البرلمان، وحركة الإخوان المسلمين صارت تركز على نقد الدولة الاستبدادية حتى بذرائع دينية وإسلامية، وفي إيران وبصفوف الحركة الشيعية الأكثر تقدما هناك نقد متعاظم للاستبداد والمجتمع المغلق، وهذا النقد فشل سياسيا حتى الآن كما تبين تجربة محمد خاتمي، ولكن الفشل جزء من التعلم والانطلاق، ولدينا في لبنان تجربة مثيرة ومسؤولة للغاية ممثلة في «حزب الله» يمكن أن تتطور لبناء وطن مختلف وجديد وعلى قاعدة الديمقراطية.

وسنشير إلى منطلقات إضافية في المقالات القادمة تشمل بداية فكرية للمصالحة والترجمة السياسية لهذا البداية. وربما نبدأ على الفور في تطويرها أثناء رمضان المقبل مباشرة، حتى لو لم ننته ِمنها في غضون شهر واحد.

*نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top