مبادرات تعكس الحنين إلى لبنان الستينات... دونها عقبات سياسية واجتماعية ماذا بدّلت الحرب في الحياة الثقافية في لبنان؟

نشر في 01-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 01-08-2007 | 00:00
شهد لبنان منذ مطلع الخمسينات حركة ثقافية واسعة تجلّت في مظاهر وتعبيرات مختلفة، أبرزها اتساع حركة النشر والتوزيع وصدور عدد من المجلات الفكرية والأدبية، إلى تطور المسرح وازدهار الأغنية اللبنانية (الرحابنة، فيروز)، ونموّ الحركة التشكيلية. أخذت هذه الحركة بالانتعاش مع اتساع دور الجامعات (الأميركية واليسوعية والعربية) التي استقبلت مزيداً من الوافدين العرب والأجانب. مع تأسيس الجامعة الوطنية التي أخذت تستقبل فئاتٍ من الطلاب القادمين من مناطق الريف اللبناني. وكان لا بدّ من أن يساهم ذلك، إلى عوامل أساسية أخرى تتصل ببنية النظام الاجتماعي والسياسي الذي أتاح قدراً من التنوع وحرية التعبير، في تعزيز دور لبنان الثقافي وتحوّل عاصمته بيروت الى مركزٍ لاستقطاب المفكرين والمبدعين العرب على اختلاف انتماءاتهم. كذلك فإن الحركات الفكرية والأدبية والفنية الناشطة بعد التحولات التي شهدها العالم والمنطقة العربية في هذه المرحلة (القضية الفلسطينية عام 1948، ثورة يوليو في مصر 1952، الحركات الطالبية في فرنسا وأوروبا 68 ـ 70، الاتجاهات الفكرية الغربية، الحركات السياسية في الدول النامية، إلخ) وجدت مناخاً ملائماً لمزيد من التفاعل جعلها تتلمس مساراتها في الثقافة العربية.

هكذا احتل لبنان خلال العقود الثلاثة السابقة لاندلاع الحرب موقعاً متميزاً لن يقتصر على الدور الاعلامي (أجاز بعضهم وصفه بـ «الوساطة الثقافية»). ففي هذه المرحلة نشأت احدى أبرز التظاهرات الغنائية الشعرية (فيروز، الأخوان رحباني) واستعاد المسرح الغنائي وقعه إثر محاولات مترددة بعد موت سيد درويش في مصر. وقامت فرق مسرحية عكست الاتجاهات المسرحية المعاصرة، واستشرفتها، منها فرقة مُحترف بيروت للمسرح (روجيه عساف ونضال الأشقر 1968) وفرقة المسرح المعاصر (منير أبو دبس 1960) وفرقة المسرح الاختباري (أنطوان ولطيفة ملتقى) والمسرح الوطني (شوشو) فضلاً عن مخرجين أثروا حركة المسرح بتجارب وأعمال نوعية (ريمون جبارة، جلال خوري، يعقوب شدراوي...). كذلك تأسست حركة تشكيلية أثار تطورها السريع إعجاب الناقد الفرنسي ميشال راغون. ومن مظاهر هذه الحركة مقهى «لا باليت» الذي تشكّلت فيه حركة فنية ضمت تشكيليين ونقّاداً وأدباء ومسرحيين منهم فاضل سعيد عقل ونزيه خاطر ويوسف حبشي الأشقر ومادونا غازي وجلال خوري وبول غيراغوسيان الذي رأى أن العصر الذهبي لهذه الحركة كان بين عامي 53 و72، إذ اقتصرت المراحل السابقة على التصوير والمناظر الطبيعية التي تأثرت الى حد ما بالانطباعية الغربية.

أمّا في الشعر والأدب فتكفي الاشارة الى مجلة «شعر» التي أسست لحوارات الحداثة الشعرية وقصيدة النثر الغربية. ومجلة «الآداب» التي استقطبت على صفحاتها أسماء عدد من كبار الشعراء والكتاب العرب و{مواقف» التي أعادت أسئلة الحداثة على ضوء متغيّرات نقدية وتطلعات جيل ما بعد عام 1967 من الشعراء والكتّاب العرب.

دور السينما

وسط هذه الحركة الثقافية الناشطة انتشرت في العاصمة بيروت دور السينما وأنشئت الصالات الحديثة وقاعات المعارض والمسارح، كما نشطت اللقاءات والمؤتمرات (اللقاء الأول للشعر العربي) وأقيمت المهرجانات السنوية (بعلبك، جبيل...) وأفردت الصحف صفحاتٍ خاصة بالثقافة (بدأت في «النهار» عام 1964) وصدرت الملاحق الثقافية («النهار»، «الأنوار»). إلا أن الظاهرتين اللتين لازمتا حركة الانتاج الثقافي وظلتا الأكثر تعبيراً وانتشاراً هما: ازدهار حركة النشر والطباعة (حتى بات لبنان، ولا يزال، مطبعة العالم العربي). وازدهار الصحافة على تنوعها (يومية، أسبوعية، دورية، وسياسية، ثقافية، اجتماعية...).

بالتوقف عند هاتين الظاهرتين سوف يبدو لنا مدى تأثيرهما على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. أدت حركة النشر الى قيام عدد من المؤسسات في حقول موازية ضمت أعداداً كبيرة من العاملين والموظفين. وفي دراسة أنجزت في نهاية السبعينات أحصيت في لبنان 450 داراً للنشر و425 مطبعة و675 مكتبة و22 شركة توزيع و60 مؤسسة للمواد الطباعية و75 مصنعاً أو مؤسسة تجارية للورق و48 مؤسسة للتجليد الفني و22 للاخراج الفني و23 للزنكوغراف والتصوير وفرز الألوان و26 لصف الأحرف. وإذا كان معظم هذه المؤسسات ذا قوة انتاجية محدودة فإن عدداً منها شكل الرافد الأول لسوق الكتاب والنشر في العالم العربي. ومن هذه نذكُر: دار الطليعة، الآداب، الفارابي، ابن خلدون، ابن سينا، المعهد القومي للإنماء، دار عودة، المؤسسة العربية للدراسات المكتبية العصرية. ومن الدور الأكثر انتشاراً في السوق الداخلية: دار النهار، دار العلم للملايين ودار الكتب الشرقية. ورغم طبيعة أسواق الكتاب والنشر في العالم العربي وعقبات التوزيع الإدارية والسياسية يسعنا أن نتبيّن، من خلال هذه المؤسسات والدور، أهمية الدور الثقافي الذي اضطلع به لبنان، ليس لجهة تعميم الثقافة وتعميق الحوارات الثقافية في مختلف المجالات فحسب لكن على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي أيضاً، ففي إمكاننا أن نضيف إلى عدد العاملين والموظفين توظيف الرساميل الداخلية والعربية والأجنبية في هذا المجال والترابط الوثيق بين تزايد عدد صالات السينما والمسرح وإحياء المهرجانات والمؤتمرات في القطاع السياحي وقطاع الخدمات.

ثقافة الاستقلال

أما على صعيد الصحافة فعلينا أن نشير الى دور لبنان المتميز منذ مطلع القرن الماضي في هذا المجال. ظلّ لبنان، رغم الاضطرابات التي تحكمت فيه عهدذاك، المنافس الأول لمصر التي كانت تنعم بنوعٍ من الحرية والاستقلال الداخلي جعل المفكرين والمبدعين من لبنان والمشرق العربي بعامة يهاجرون للإقامة في ربوعها. أحصت دراسة للدكتور يوسف أسعد داغر الصحف والدوريات اللبنانية بين عامي 1958 و1974 وجود 2032 صحيفة. عدد كبير من هذه الصحف ظل يحتفظ بامتيازاته التي كانت تنتقل الى مؤسسات جديدة في فترات مختلفة. إلا أن العصر الذهبي للصحافة اللبنانية كان في العقود الثلاثة السابقة للحرب حين ظهرت أو انتعشت الصحف التي عكست تحولات تلك المرحلة وحواراتها السياسية الفكرية والثقافية. ففي الصحف اليومية كـ{النهار» و{الأنوار» و{السفير» تزايد عدد الصفحات وصدرت ملاحق ثقافية وفنية واقتصادية أحاطت بظاهراتٍ سياسية (محلية وعربية وعالمية) وشخصيات لعبت دوراً في تحديد سمات هذه المرحلة. كما اتسع دور الصحافة الحزبية (العمل، النداء، الانباء...) ونقلت الصحف الاسبوعية قضايا بارزة فوجدت لها أسواقاً عربية ولا سيما في دول الخليج (الحوادث، الصياد، الاسبوع العربي، البلاغ...) واتسع توزيع عدد منها في السوق المحلية؛ وانتشرت الصحافة النسائية: «الحسناء»، «فيروز»، والصحف الفرنسية المترجمة أو «المعدّلة»، والصحافة الاقتصادية (الدليل الاقتصادي، رجال الاعمال...). الى ذلك صدرت في مطلع السبعينات في لبنان الصحف والمجلات الفلسطينية (شؤون فلسطينية، فلسطين الثورة).

المجلات الثقافية

أما المجلات الدورية، الشهرية والفصلية، فاتسع دورها مع نمو الاتجاهات السياسية (والفكرية) فاستقطبت مفكرين وباحثين وجامعيين انخرطوا في حوادث و{هيئات» ستزداد تشعباً مع التطورات المتلاحقة (من ثورة يوليو في مصر الى هزيمة 67 وصولاً الى حرب اكتوبر 73 واتفاقية كامب دايفد) وعبّرت المجلات الدورية الصادرة عن هذه التطورات وانعكاساتها الاجتماعية والثقافية فتحلّقت حولها جماعات سياسية وفكرية، ومن تلك المجلات نذكر: «دراسات عربية»، «الطريق»، «الفكر العربي»، «قضايا عربية» و{شؤون فلسطينية». كما اتسع دور المجلات الادبية التي مهّدت لنشوء اتجاهات و»حركات» سيكون لها تأثيرها في مجالات كثيرة كالشعر والقصّة والرواية والنقد، ومن تلك المجلات نذكر: «شعر» و{مواقف» و{الآداب».

ساهمت حركة الصحافة ولا سيما الفكرية والادبية في ظهور (ونمو) حركة ثقافية واسعة ستترك أثرها في النتاج الفكري والإبداعي. يكفي ان نشير هنا الى دور مجلة «شعر» في تطور سمات القصيدة العربية و{مواقف» التي تناولت اسئلة الحداثة الاكثر تبلوراً و{الآداب» التي قدّمت التشكيلات المتعددة لقصيدة التفعيلة والاتجاهات السائدة الادبية. نشير ايضاً الى ظهور حركة نقدية عكست الجدال بين اتجاهات وتيارات مختلفة ونمو حركة الترجمة عن الفرنسية والانكليزية التي شملت مختلف الميادين والمجالات. كذلك نمو الاتجاهات الفنية وتنوّع التجارب المسرحية التي استشرفت مدارس واتجاهات غربية وتراثية، وازدهار الاغنية التي لازمت تطور الوعي والمزاج اللبنانيين والعربيين كلمة وإيقاعاً... الى الحركة التشكيلية التي شهدت تحولاً نوعياً مع خريجين عائدين من الكليات والمعاهد الفرنسية والايطالية.

مع اندلاع الحرب الأهلية في اواسط السبعينات انحسر دور المؤسسات العاملة في الميدان الثقافي (دور السينما، صالات العرض، المهرجانات الفنية والسياحية، مراكز الدراسات...) تحت تأثير الاوضاع الامنية وتراجع فرص الاستثمار وهجرة «الكادرات» الفنية التي بدأت بالانتقال الى عواصم عربية وأجنبية. كما أقفل العديد من المؤسسات من دور النشر وجمعيات ومؤسسات إعلامية للاسباب نفسها. والى ذلك تراجعت النشاطات الثقافية (اللامنهجية) في الجامعات وكادت تقتصر على المناسبات العامة.

حرب اهلية

لعلّ الازمة الحقيقية لانحسار الدور الثقافي تعود الى انقطاع حلقات التواصل الجغرافي بين المناطق اللبنانية واقتصار النشاطات الثقافية والفنية على منابر «خاصة» وهيئات محلية في المناطق والمحافظات وغياب المشاهد (او القارئ) اليومي... لذا فإن استعادة المشهد الثقافي في مطلع التسعينات سوف يواجه عقبات سياسية واجتماعية كما سيكشف (أو يعكس) مزاعم الاطراف ترسيخ قيم «الثقافة الديمقراطية» وتقاليدها السائدة قبل اندلاع الحرب الأهلية. لم يكن مستغرباً أن تتجه الدولة العائدة الى إنشاء وزارة للثقافة (رغم تعثر دورها حتى الآن) وأن يعمد عدد من السياسيين الى تأسيس هيئات (أو مراكز) ثقافية في مناطق نفوذهم بعد ان كانت تلك الهيئات تباهي في استقلالها ودورها في بناء وتطور المجتمع الاهلي، وأن تبادر الجمعيات أو الجامعات التي فقدت دورها خلال سنوات الحرب الى دعوة رموز تتميز بحضورها الثقافي والى حشد استعراضي لعدد من هذه الرموز (نزار قباني، ادوار سعيد، أدونيس، محمود درويش...) ودعوات شعراء وفنانين من أنحاء العالم العربي الى المهرجانات الفنية (بعلبك، بيت الدين، جبيل...).

غير ان هذه المبادرات التي تعكس مدى الحنين الى صورة لبنان كما ترسّخت ملامحها منذ مطلع الخمسينات والتي تُظهر مدى «غيرة» الاطراف على استعادة دور و{خصوصية» هما من مقومات الكيان اللبناني، غير ان تلك المبادرات لا تزال تفتقد المرتكزات التي قام عليها لبنان الثقافي منذ الاستقلال حتى مطلع الحرب الأهلية (عودة الاستقرار السياسي والحدّ من مظاهر العنف والعصبيات الرائجة، استعادة بناء الجامعة الوطنية، تشجيع توظيف الرساميل في إنشاء المؤسسات العاملة في الميدانين الثقافي والفني، اضطلاع وزارة الثقافة بدورها في تأسيس المؤتمرات والمهرجانات المحلية والدولية وتنظيمها ورعايتها).

back to top