بين مبايعته أميراً للشعر وغيابه المهيب الرثاء: الأخطل الصغير... شاعر الوردة والسيف

نشر في 23-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 23-07-2007 | 00:00

نتذكر الأخطل الصغير ــ بشارة الخوري ــ أمير الشعراء، بين ذكرى مبايعته بإمارة الشعر العربي بعد أحمد شوقي في 4 حزيران 1961 في بيروت ورحيله مطلع آب من العام 1968.

أسّس جريدة «البرق» في 1908 وكانت منتدى أهل الأدب وشرارة النضال الوطني والدعوة الصارخة إلى التحرّر من أنواع الاحتلالات والانتدابات. طارده العثمانيون وكاد يُشنق يوم الشرق ليل و«شفيق يدعوك». صوت تركي حرّ يطلع من البوسفور. إنه صوت ولي الدين يكن في «صحائفه السود».

اعتلى المنابر وكتب المقالات النارية. عرف التشرد والاعتقال وعطّل الانتداب الفرنسيّ مراتٍ جريدة «البرق» رداً على صرخة الحرية وقولة الحق.

شاعر «الصِّبا والجمال» و«جفنه عَلَّم الغزل» و«اسقنيها». أخطلُ الحب والوطنيات، شاعر الوردة والسيف، قامة في تاريخ لبنان والمشرق العربي.

يوم تأسست جريدة «البرق» في العام 1908، إثر اعلان الدستور العثماني و«إطلاق الحريات» في العالم العربي، تحولت مكاتب «البرق» في بيروت إلى ملتقى لرجالات الأدب والفكر وكبار الشعراء من كل الأقطار العربية. جاء الزهاوي وأحمد شوقي والرصافي وبدوي الجبل وسواهم وكان الهمّ تحرير العالم العربي من العثمنة، حتى أن المؤرخ يوسف ابراهيم يزبك كتب يوماً في «الأوراق اللبنانية»: «إن الجامعة العربية ولدت في مكاتب جريدة البرق قبل ولادتها 1946 بعشرات السنين (...)».

وكانت مقالات الأخطل مدوّية تدعو إلى استقلال لبنان وسوريا وسائر البلدان العربية ورحيل الاحتلال العثماني. وفي أوائل أيار من العام 1914 كانت لائحة جمال باشا بأسماء أحرار لبنان وسوريا قد اكتملت وبينها الأخطل الصغير. يروي عبدالله الخوري (نجل الأخطل الصغير) أنه كان للأخطل صديق محبّ يدعى محمد كرد علي وكان رئيساً لقسم الترجمة في المتصرفية (أسّس في ما بعد المجمع العلمي العربي في دمشق) وبحكم وظيفته بلغه أن اسم الأخطل بين المطلوبين للإعدام شنقاً بسبب مواقفه التحررية «المزعجة» فأرسل الى صديقه الأخطل مع أحد الأصدقاء رسالة مقتضبة كتب فيها: «(...) أحرق كل الأوراق والمستندات التي تدينك وتدين رفاقك الأحرار واحتجب عن الأنظار فوراً».

غادر الأخطل مكاتب «البرق» على عجل ــ كما يروي ابنه الشاعر عبدالله الخوري ــ وتوجه إلى منطقة كسروان في جبل لبنان (كانت تتمتع بنظام حكم خاص فرضه الأوروبيون على العثمانيين) وهناك في قرية فيطرون، في أحد الأديرة، تنكّر الأخطل باسم حنا فيّاض تجنّباً لجواسيس العثمانيين المنتشرين في كل مكان. من عزلته راح يراسل الصحف العربية بتوقيع «الأخطل الصغير»، حتى انتهت الحرب العالمية الأولى بانكسار السلطنة العثمانية ــ الرجل المريض ــ ودخول فرنسا وبريطانيا العظمى إلى المنطقة العربية وبينها لبنان وسوريا بقرار من عصبة الأمم، بصيغة انتداب.

مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وكان الأخطل يترأس الوفد العربي (لبنان وسوريا ومصر)، في احتفال رثاء الملك فيصل الأول في بغداد، القى قصيدة نارية هاجم فيها الانتدابين الفرنسي والبريطاني على المنطقة العربية اللذين وعدا كذباً بمنح الاستقلال للدول العربية. وما إن وصل صدى القصيدة إلى بيروت حتى سارع المفوض السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل إلى اصدار مرسوم يقضي بإلغاء امتياز جريدة «البرق» عقاباً للأخطل على مواقفه الوطنية، فعاد الشاعر إلى بيروت وباع المطبعة لدفع حقوق العمّال والمحررين. شن الأخطل الصغير حرباً لم تتوقف على الفساد والمفسدين والسلطات التي صادرت رغيف الشعب في زمانه. في العام 1933 اعتلى منبر الخطابة في صالة التياترو الكبير يرثي صديقه النائب وديع عقل بحضور وزراء ونواب وممثلي الانتداب. قال رافعاً إصبعه في وجه الجميع:

يا أمةً غدت الذئابُ تسوسُها

غرقَتْ سفينتها، فأين رئيسُها؟

(...) تعساً لها من أمةٍ... أَزعيُمها

جلاَّدها وأمينها جاسوسُها...

ومتى تُؤَيَّدْ بالرعاع حكومةٌ:

كانت أَحَطَّ من الرُّعاعِ نفوسُها (...)

هبطوا الجحيمَ: فردَّهُمْ بَوّابُها

إذ خاف من إبليسِهم إبليسُها (...)

وتحركت على الفور أجهزةُ الأمن لتوقيف الأخطل وإنزاله بالقوة عن المنبر فقامَ بعضُ النواب الأحرار والحضور وحملوا الأخطل فأكمل القصيدة ومشوا بتظاهرة في شوارع بيروت.

في احتفال مبايعة بشارة الخوري (الأخطل الصغير) بإمارة الشعر، في 4 حزيران 1961 في قصر الأونيسكو في بيروت، كان شعراء العالم العربي: الجواهري، عمر أبو ريشة، صالح جودت، عبد المنعم الرفاعي، سعيد عقل. يومذاك وقف الشاعر أمين نخلة يقول في صديقه:

أيقولون أخطلٌ وصغيرُ؟

أنت في دولة القوافي الأميرُ

ثم وقف الجمع تصفيقاً فيما الأخطل ينهي مقاطع من قصيدةٍ هي «سونات الغروب»:

أَيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري

من ذا يُغنِّي على عودٍ بلا وترِ

ما للقوافي إذا جاذبتُها نَفَرَتْ

رَعَتْ شبابي وخانتني على كِبَريْ

قصائد

لن تنسى بيروت مهرجان ذكرى أمير الشعراء (الأخطل الصغير- بشارة الخوري) ذلك الأحد 28 كانون الأول 1969 في قصر الأونيسكو ذاته في قلب بيروت التي كانت تضج ثقافة وفكراً وفنوناً... وكان الأخطل قد رحل (2 آب أغسطس 1968) ورثاه شعراً كبارُ شعراء العالم العربي: عزيز أباظة (مصر) لميعة عبّاس عمارة (العراق) عبد المنعم الرفاعي (الأردن) عمر أبو ريشة (سوريا) أحمد السقَّاف (الكويت) حسن القُرَشِي (السعودية) محمد الفيتوري (السودان) كمال ناصر (فلسطين) سعيد عقل (لبنان) إضافة إلى نجل الأخطل وعبدالله الخوري.

تتالى الشعراء العرب على المنبر «بحضور» الأخطل الراحل ومما جاء في قصائدهم:

عمر أبو ريشة:

(...) طلعتَ من حَرَم التاريخ في جبل

تَزَيَّنَتْ بسَنا آلائه العصرُ

ازميلُ مبدعِه أدَّى رسالتَه

إلى العوالم فانطُق أيها الحجرُ (...)

عزيز أباظة:

(...) قف في ربى الخُلد واهتف في مقاصره

بشاعرٍ ملأ الدنيا كشاعِرِهِ

البحتريُّ تهادى عن ميامِنِهِ

يختالُ والمتنبي عن مياسرِهِ (...)

كمال ناصر:

(...) أَلَسْتَ أول من غنّى ملامحنا

ألَستَ أول من أشجى فأشجانا

ألستَ من عصرَ العنقود فانفجرت دماؤه ومن العنقودِ روَّانا (...)

عبد المنعم الرفاعي:

(...) جئتُ في موكب الأمير أغنّي

وغنائي يغصُّ في أوزانه (...)

واعتلى صهوة النضال كأن الجنَّ مِن رَكبه ومن فرسانِهِ (...)

محمد الفيتوري:

(...) أنتَ في لبنان ... والشعر له

في ربَى لبنان عرشٌ ومقامُ

شادهُ الأخطل قصراً عالياً

يزلقُ الضوءُ عليه والغَمامُ (...)

سعيد عقل:

(...) لا مُذْ بكيتُكَ، لَكِنْ قبلُ مذ سكنتْ يراعةٌ لكَ قَلَّ الهمُّ في الغُصُنِ

أنا الذي قال: يا شعرُ، ابْكِهِ وأجِدْ

من قبل ما كان؟ لا، يا شِعرُ، لم تَكُنِ...

وانتهى اللقاء الكبير بقصيدة «مفاجِئة» ألقاها نجلُ الأخطل المحامي الراحل عبدالله الخوري، مطلعها:

لم يخلِّف شاعرٌ في الارضِ شاعرْ عاقراتٌ في ربى البحرِ المنائرْ! (...)

كان زمان، كان الشاعرُ ضمير الجماعة وصوت الشعب، وكانت القصيدة حدثاً.

يبدو هذا الكلام – وما تقدَّم – مشهداً سوريالياً في مدينة غرائبية لزمنٍ غارقٍ في التوغل. ولَّى زمن المنابر وضَمُر الشعر وانزوى الشعراء... نحن في زمن الفضائيات والعولمة الكبرى. عالم آخر!

المتنبي والشهباء

(...) عُرسٌ من الجِنِّ في الصحراءِ قد نصبوا

له السُّرادِقَ تحت الليلِ والقُببا

كأنه تَدمُرُ الزهراءُ مارجةً

بمثلِ لُسْنِ الأفاعي تَقْذِفُ اللَّهبا (...)

نادى ابوهُ ـ عظيمُ الجِنِّ ـ عِثرَتَهُ،

فَأَقْبَلوا ينظرونَ البِدعةَ العَجبا

مَاذا نسِّميهِ؟... قال البعضُ: صاعقةً

فقالَ: كلاَّ... فقالوا: عاصفاً ـ فأبى

فقامَ كالطَّودِ منهم ماردٌ لَسِنٌ

وقال: لَمْ تُنْصِفوهُ اسماً ولا لقبا

سنبعثُ الفتنةَ الكبرى على يَدهِ

فَنَشْغَلُ الناسَ والأقلامَ والكتبا

ونجعلُ الشعرَ رباًّ يسجُدونَ له

فَإِنْ غَوَوْا فلقد نِلنا به الأَرَبا

واختال غيرَ قليلٍ، ثم قال لهم

سَمَّيتُه المتنبي... فانتَشَوا طربا

وزلزلوا البيْدَ حتى كادَ سالِكُها

يهوي به الرَّحْلُ لا يدري له سببا

يرى السَّرابَ عُباباً هاجَ زاخرُهُ

والرَملَ يلتحفُ الأزهار والعُشُبا (...)

ثورة فلسطين

سائِلِ العَلياءَ عنَّا والزَمانا

هَل خَفَرْنا ذِمّةً مُذْ عَرَفانا

أَلمرؤاتُ التي عاشَتْ بِنا

لَم تَزَلْ تَجري سَعيراً في دِمانا.

ضَحِكَ المجدُ لَنا لمَّا رّآنا

بدَمِ الأبطال مَصْبوغاً لِوانا

عُرُسُ الأحرار، أن تسقي العِدى

أكْؤساً حُمْراً وأنغاماً حَزانى!

ضَجّتِ الصَحراءُ تَشكو عُرْيَها

فَكَسَوْناها زَئيراً وَدُخاناً

مُذْ سَقَيْناها العُلى مِنْ دَمِنا

أيْقَنَتْ أنَّ مَعَدّاً قد نمانا.

أنشروا الهَوْلَ، وَصُبّوا نارَكُمْ

كيفما شِئتُمْ فلَنْ تلْقَوْا جباناً

غَذَّتِ الأحداثُ مِنَّا أنفساً

لم يَزِدْها العُنْفُ إلاّ عُنْفُوانا!

شَرَفٌ للمَوْتِ انْ نُطْعِمَهُ

أنْفُساً جَبَّارةً تأْبى الهوانا

وَرْدَةٌ مِنْ دَمِنا في يَدِه

لَوْ أتَى النارَ بها - حالَتْ جِنانا!

يا جِهاداً صَفَّقِ المَجْدُ لهُ

لَبِسَ الغارُ عليْهِ الأرْجُوانا

شَرَفٌ باهَتْ فِلِسطينٌ به

وبِناءٌ للمعالي لا يُدانى

أنَّ جُرْحاً سالَ مِنْ جَبهتِها

لَثَمتْهُ بخُشوعٍ شَفتانا

وَنشيداً باحَتِ النَّجوى بهِ

عَرَبيّاً: رَشَفَتْهُ مُقلتانا!

نحن يا أُختُ، على العَهْدِ الّذي

قد رَضِعْناهُ مِنَ المَهْدِ كلانا

«يَثْرِبٌ» «القُدُس» مُنْذُ احْتَلما:

كعبتانا! وهوى العُرْبِ هَوانا...

قُمْ الى الأبطالِ نَلْمسْ جُرْحَهُمْ

لَمْسَةً تَسْبَحُ بالطِّيبِ يَدانا

قُمْ نَجُعْ يَوْماً مَنَ العُمْر لَهُمْ

هَبْهُ صَوْمَ الفِصْحِ، هَبْهُ رَمَضانا

انَّما الحَقُّ الّذي ماتوا لهُ

حَقُّنا! نمشي إليْهِ أَيْنَ كانا...

الأخطل الصغير

«سنة 1936»

back to top