مليكة أوفقير يوم روت السجن والذات المنكسرة

نشر في 28-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 28-07-2007 | 00:00

استأثر كتاب «السجينة» للمغربية مليكة أوفقير (ترجم لدى «دار الجديد») باهتمام الناشرين عقب صدوره. حتى السينما اهتمت بالحكاية، كذلك الاعلامية أوبراه، مقدمة البرنامج اللامع الذي يحمل اسمها ويستحوذ على اهتمام اثنين وعشرين مليون مشاهد في الولايات المتحدة، افتتنت بمليكة وكتابها وجعلت منه كتاب الشهر من خلال شرائها سبعمائة ألف نسخة دفعة واحدة من الناشر الأميركي.

مشكلة السجن الطويل، على ما تدل تجارب سائر الذين خبروه، أن معاناته لا تتوقف مع انتهاء مدته. يلاحق ضحاياه لما تبقى من حياتهم فيتعين عليهم ترميم ذواتهم المنكسرة وإعادة مد جسورهم التي تقطعت مع الحياة. من هنا عنوان كتاب مليكة الثاني «الغريبة» (ترجم لدى «دار التنوير»، 2006) تعبير عن تلك المشاعر المعذبة إزاء حياة عزلت عنها عشرين عاما، إذ تعين عليها وقد تجاوزت الأربعين أن تبدأ حياتها من جديد، ربما من نقطة الصفر، لتجد في الحب ملاذا يعينها على مجابهة حياة غريبة عنها.

كتبت مليكة أوفقير في «السجينة» حياة السجن والفرار منه. تكتب في «الغريبة» الرغبة في استعادة الحياة بكل ما تحمله من هجنة بعد انقطاع دام عشرين عاما. وليس الكتاب الثاني الا تتمة للأول، لان الكاتبة ارادت ان تتخلص من الشقاء وتصبح طبيعية كما تقول. مليكة أوفقير في الكتابين كأنها بطلة تراجيديا قديمة، نلحظ ذلك من تربيتها الى دخولها السجن وعودتها الى رحاب الحرية، فبعد موت الملك محمد الخامس عام 1961 تكفل الملك الحسن الثاني بتربية الطفلة الى جانب الاميرة اللامينة. عاشت مليكة احد عشر عاما بعيدة عن اسرتها بين الفيلا حيث تعتني بها مربية ألزاسية بقبضة حديدية والقصر حيث يرعاهما العاهل الجديد بلطف، مع عطف وصرامة ابويين. بعد محاولة الانقلاب واجهت مليكة مأزقا مؤلما فوالدها البيولوجي حاول قتل والدها بالتبني، وأقدم هذا بالمقابل على قتل الأول، وارسل مليكة، في حالة هيجان، لتقبع في السجن مع كل اسرتها.

يعرف الجميع الجنرال محمد أوفقير الذي ولد عام 1920. بدأ حياته جندياً في الجيش الفرنسي في المغرب. مع تدرجه السريع أصبح رئيس مرافقي الملك الأسبق محمد الخامس، وبعد وفاته وتولي ابنه الحسن الثاني العرش في مارس/ آذار 1961 حاز ثقة الملك الجديد. في 1965 حين اختطف المهدي بن بركة كان محمد أوفقير وزيراً للداخلية. فرنسا التي أيقنت تورطه في العملية حكمت عليه غيابياً بالسجن المؤبد، لكن ذلك لم يغير شيئاً من مكانته لدى الملك إذ تجمعت بين يديه سلطات كاملة وأصبح من دون منازع الرجل الثاني في النظام. لكن سرعان ما دب الخلاف بين الملك والجنرال الذي أصبح وزيراً للدفاع وقائداً لأركان القوات الجوية الملكية. في أغسطس/ آب 1972 يتورط الجنرال في محاولة انقلاب ضد ملكه. كتبت مليكة راوية الحكاية: «كان أبي، الوفي بين الأوفياء، قد خان»، الرواية الرسمية قالت انه انتحر بعد فشل الانقلاب، لكنهم وجدوا في جسده خمس رصاصات. ينتحر المرء برصاصة واحدة لا بخمس.

الأب الروحي والأب البيولوجي

كانت مليكة تحب هذين الرجلين. لا يمكنها ان تختار بينهما ولا ان تكرههما رغم ما ألمّ بها. حين تفكر بالملك الحسن الثاني طيلة سنوات الحبس الطويلة تلك لا تستطيع الوثوف بأحد. يبدو انها ستخون ذويها لو فكرت فيه بمحبة. فهم لا يرون فيه سوى جلاد. تتحسر مليكة على الرجل الذي رعاها. روت في السجينة ظروف العائلة اثناء الاعتقال: «كان يعتقد أننا كنا مدللين في مقر اقامة مراقب على الاكثر، لكنني اتخيل رؤوس اصدقائناـ كل أولئك المتملقين الذين كانوا يجتمعون الى مائدة والدي ـ ان علموا أن البراغيث كانت تنهش سيقاننا حتى الدم، وان الفئران كانت تنهب القليل من الطعام الذي كان يتوافر لنا. الجرذان كانت تسير على اطرافنا، من دون ان ننسى العقارب والجراد بضجيجها الجهنمي».

أهذه هي الحرية؟

بعد هرب العائلة من السجن كانت مليكة اصبحت مشكلة بالنسبة الى الملك وبات من الصعب التخلص منها، لكنها ستبقى خمس سنوات ملاحقة في الاقامة الجبرية. تسأل اوفقير: «أهذه هي الحرية؟ كلا: أواصل العيش في السجن، لكنه ببساطة سجن اوسع، وعلي أن أتدبر أمري بمفردي. لم أعد أعرف أن أفعل أي شيء. لا بد من ان اتعلم كل شيء من جديد».

عندما خرجت من السجن اكتشفت انها دخلت سجناً اكبر وان الحياة معقدة اكثر مما تتخيل. قضم السجن جسدها من الباطن: «في السجن، كنت عازمة بشدة، في حال استعادتي حريتي، على رمي نفسي في سرير اول قادم لأنال مُرادي. لكن الواقع كان اكثر تعقيداً (...) كم من الليالي المنعزلة، في تلك الزنزانة المعتمة، مستلقية على حشيتي البائسة، حلمت بأنني سأمارس الحب؟ في الصباح، كنت استيقظ يعتصرني الحزن والمرارة. سرعان ما تعلمت ألا أفكّر في ذلك، على الاقل ألاّ أكثر من التفكير بذلك، خشية ان افسد اكثر... في العشرين من عمري نسيت تدريجيا ما يعنيه ان اكون امرأة شهية مشتهاة لديها كل شيء يجب ان تتعلمه عن العلاقة بالرجل الاول. حينما اكتشفت جسده، انتابني الشعور بأنني اتصفح قاموسا. اتعلم هذه اللغة الجديدة كلمة بكلمة. الشعور بالخوف والرعشة والارتجاف وعدم الامان، من خلال اللمسة، واليد، وطريقتي في الحديث اليه، والجلوس الى جانبه، ادرك في الحال انني كنت طفلة متنكرة في هيئة امرأة، متمردة تخفي ألمها (...)».

back to top