السعودية... مملكة في لحظة تبدل

نشر في 19-12-2007
آخر تحديث 19-12-2007 | 00:00
 نديم قطيش

لا يصبّ الحراك السياسي السعودي بالطبع في خانة استبدال العمود الفقري لتحالفات المملكة الدولية، أي واشنطن، بآخر قدر، مما يعني أن المملكة تتحسس تعقيد الأزمة في الشرق الأوسط وتشابك عناصرها الأمنية والاقتصادية والمذهبية، مما يستدعي في المقابل إدارة مركّبة للملفات الإقليمية.

الحراك السعودي على المسرح الدولي يبعث برسائل مثيرة حول رغبة المملكة في تنويع مصادر الدعم السياسي والدبلوماسي للخيارات السعودية في المنطقة، عبر توسيع قاعدة «الصداقات»، وإدارة لعبة توازن بمزيج غير مسبوق من الحيوية والقلق.

قبل ثلاثة أيام فقط من انعقاد اجتماع أنابوليس الذي شهد خرقاً دبلوماسياً كبيراً تمثّل في حضور وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل اجتماعات ولقاءات إلى جانب رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، استضافت العاصمة الروسية ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز الذي أعلنت بلاده شراء مروحيات روسية بقيمة تفوق ملياري دولار، بالإضافة إلى عزمها شراء دبابات روسية بالقيمة نفسها.

الزيارة تأتي بعد زيارة هي الأولى من نوعها لرئيس روسي «أو سوفييتي» إلى منطقة «السعودية وقطر وعمان» في فبراير 2007 وفي لحظة جيوسياسية مركبة، ففي الشهر نفسه حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب رنان في مؤتمر ميونخ الـ43 حول السياسة الأمنية على توجيه أقسى الانتقادات «للسياسة الأميركية الأحادية (...) الشريرة». وفي مؤتمر لشبونة لم يتردد في تشبيه أزمة نشر الدرع الصاروخية في أوروبا بكارثة الصواريخ الأميركية في كوبا التي وضعت العالم آنذاك أمام احتمال حرب شبه عالمية.

وليست خافية التقاطعات الدبلوماسية بين الرياض وموسكو بشأن الملفات الرئيسة في المنطقة، فقد دعم الكرملين اتفاق مكة الذي رعته المملكة بين حركتي «فتح» و«حماس» قبل انقلاب الأخيرة عليه بطريقة وحشية ومعاودة الرياض العمل على إنتاج تفاهم جديد بين الحركتين. كما كانت فكرة الملك عبدالله لمعالجة الملف النووي الإيراني عبر إنشاء مركز لتخصيب اليورانيوم في دولة محايدة تستفيد منه إيران لتغطية احتياجاتها السلمية بإشراف وكالة الطاقة الذرية، مشابهة إلى حد كبير للفكرة الروسية باستضافة موسكو لكونسورتيوم دولي يوفر احتياجات طهران من اليورانيوم المخصب ويطمئن المجتمع الدولي حيال امتناع البعد العسكري النووي عن نظام الملالي.

وتدرك السعودية أيضاً حجم الموقع الذي تحتله روسيا في سوق الطاقة الدولية كأكبر منتج للنفط خارج منظمة أوبك، وأكبر منتج في العالم للغاز الطبيعي، مما يدفعها بالتالي إلى توسيع قاعدة العلاقات والحوار والمشتركات مع الكرملين بمعزل عن «الضوابط» الأميركية، لكن من دون أن يعني ذلك تصادماً رأسياً بين برامج العمل معها ومع واشنطن.

أما روسيا فتدرك من جهتها الحاجة إلى مداخل جديدة إلى الشرق الأوسط بعد خسارتها موطىء القدم الذي كانه عراق صدام حسين، وتعرف حجم الاستثمار السياسي والدبلوماسي الذي يوفره لها الملف النووي الإيراني، وهو ما يقع تماماً في الخلفية السياسية لصفقة السلاح بينها وبين الرياض. في الفاتيكان شكل اللقاء التاريخي بين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والبابا بنديكتوس السادس عشر، سابقة في تاريخ العلاقات بين بلدين وموقعين لا توجد علاقات دبلوماسية بينهما، كما جاءت الزيارة بعد فترة تأزم «حضارية» بين المسلمين والمسيحيين انطلقت من أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وتعززت عبر منعطفات عدة أبرزها تفجيرات مدريد ولندن، ثم جاءت أزمة الرسوم الدانمركية لتضاعف حالة «التشنج الحضاري» قبل أن يكتمل المشهد باجتهادات بابوية تاريخية اعتبرتها مرجعيات إسلامية حول العالم مسيئة للمسلمين ودينهم لما بدا فيها من ربط بين الإسلام والعنف. وإذ انسحب هذا البعد في الاتصالات على كل اللقاءات السعودية في العواصم التي شملتها الزيارة الموسعة، وضمت روما ولندن وبرلين وأنقرة، بدت السعودية أقرب إلى الحساسية الأوروبية حيال تغليب الخيار الدبلوماسي في معالجة الأزمة النووية الإيرانية والتشديد على أولوية تحريك ملف السلام الإسرائيلي الفلسطيني كمدخل للتخفيف من عوامل التوتر في المنطقة والعالم، كما تم تظهير التقارب السعودي الأوروبي حيال الملف العراقي، وليس من غير دلالة أن يكون الملك عبدالله قد اختار القمة العربية الأخيرة في شهر مايو الماضي ليصف الوجود الأميركي في العراق بالاحتلال غير الشرعي على الرغم من أن اعتبارات الأمن القومي السعودي غير المتحمسة لانسحاب عشوائي.

أما حين دخل الملك السعودي إلى قاعة قمة دول مجلس التعاون الخليجي ممسكاً بيد الرئيس الإيراني فأراد القول إن الدول الخليجية أميل لإعطاء الحل الدبلوماسي السلمي مع إيران حيزاً أكبر من الذي توحي سياسة واشنطن أنها مستعدة له، وعلى الرغم من عدم وضوح ما إذا كانت السعودية ترغب حكماً في دعوة نجاد، فإن الأكيد أن التعامل السعودي مع الدعوة القطرية إلى نجاد كان تعاملاً استيعابياً يريد تقديم أولوية تماسك الموقف الخليجي على الاعتراض على الدعوة، بعد المصالحة بين الرياض والدوحة من جهة، بقدر ما يريد الاستثمار في صورة الحدث لمصلحة سياسة المملكة من جهة أخرى. وكان لافتاً تشديد أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن آل ثاني على الروابط المتينة بين دول الخليج وواشنطن، ثم استطراده للقول إن هذه الروابط لا ينبغي أن تمنع تطوير علاقة صداقة مع إيران.

على النحو نفسه كان الموقف السعودي في الكثير من مفاصله ونتائجه الميدانية في لبنان أقرب إلى التوجه الأوروبي التسووي منه إلى النكهة الأميركية.

بالطبع لا يصبّ الحراك السياسي السعودي في خانة استبدال العمود الفقري لتحالفات المملكة الدولية، أي واشنطن، بآخر قدر، مما يعني أن المملكة تتحسس تعقيد الأزمة في الشرق الأوسط وتشابك عناصرها الأمنية والاقتصادية والمذهبية، مما يستدعي في المقابل إدارة مركّبة للملفات الإقليمية.

* كاتب لبناني

back to top