الكويت من الإمارة إلى الدولة (15)

نشر في 25-06-2007
آخر تحديث 25-06-2007 | 00:00
في الحلقة الأخيرة من الجزء الأول من كتابه «الكويت من الإمارة إلى الدولة... ذكريات العمل الوطني والقومي» يستعرض الدكتور أحمد الخطيب أواخر تلك المرحلة التي تنتهي في عام 1967، حين عاشت البلاد مرحلة حرجة جداً ضمن تداعيات تزوير الانتخابات.
ويروي الدكتور الخطيب تفاصيل عملية التزوير، وكيف تم جلب صناديق من بيروت لهذه المهمة، ودور مستشار وزير الداخلية (أحد قياديي الإخوان المسلمين الفارين من مصر)، حيث كانت تستبدل الصناديق في بيته الذي يقع مقابل بيت الدكتور الخطيب في الشويخ الجنوبي.
كما يتحدث الدكتور عن الطريقة التي تم بها نقل الصناديق ومحاولة الناخبين منع رجال الشرطة من ذلك، لكنهم هددوهم بإطلاق النار عليهم وفقاً للتعليمات المعطاة لهم، ويعرض أيضا وقائع متفرقة وأحداثاً كان يقودها وكيل وزارة الداخلية آنذاك، وكيف طالت عملية التزوير حتى المرشحين الذين كانوا محسوبين على الشيخ جابر العلي من أخواله العجمان.
وفي الحلقة الأخيرة من الجزء الأول يسرد الدكتور أحمد الخطيب ما تعرض له في لبنان من إطلاق نار وتفجيرات أمام منزله في بحمدون، كما يروي المضايقات التي كا
 د. أحمد الخطيب كان النظام يعتقد أننا باستقالتنا لن نعود ثانية إلى المجلس، فإما أن نقاطع الانتخابات وإما لو رشحنا أنفسنا فلن يقبلنا الناس بعد أن خذلناهم بالاستقالة، فبدوا واثقين من النتيجة. إلا أن توقعاتهم خابت بعد بدء الحملة الانتخابية، فالحماسة التي وجدناها كانت جارفة، وكانت وسيلتنا الفعالة هي زيارة الدواوين وإقامة الندوات من خلالها. لم نعرف بعد المهرجانات الخطابية ولا توزيع البرامج الانتخابية ولا الإعلانات والملصقات المكثفة، كان اعتمادنا الكلي على ندوات الدواوين والاتصالات الشخصية وبعض الصحف المحلية ذات التوجه الوطني، وغني عن القول أن وسائل الإعلام رسمية ولم تكن بمتناول يدنا بل كانت معادية لنا.

شعرت السلطة بخطورة الوضع، ففي الجولات الانتخابية التي قام بها وكيل وزارة الداخلية عبداللطيف الثويني مع أحد مرشحي السلطة بزيارة ديوانية في القادسية مثلاً، وكان رواد الديوانية يلعبون «كوت بوستة»، لم يعيروا أي اهتمام للضيوف الذين دخلوا الديوانية مما أحرج صاحب الديوانية فسارع هؤلاء إلى مغادرة المكان فتبعهم صاحب الديوانية، معتذراً عن تصرف رواد الديوانية الذين قال عنهم بأنهم لا يحبون مرشحي الحكومة، فالتفت الثويني إلى مرافقه قائلاً إنه لا فائدة من هذه الانتخابات فالنتيجة أصبحت معروفة.

 

قبيل الانتخابات قرروا تزوير الانتخابات. نحن عرفنا بقرار التزوير لمّا أخبرنا شبابنا في المطار بأن 40 صندوقاً آخر للاقتراع قد وصلت من لبنان علاوة على الصناديق التي وصلت سابقاً. لماذا من لبنان مع إمكانية صنعها في الكويت؟ وتأكدت النية بالتزوير بعد أن أعلنت وزارة الداخلية أن صناديق الاقتراع الفرعية سوف يتم نقلها من قبل أفراد الشرطة بعد إقفالها إلى المقر الرئيسي في كل دائرة انتخابية بدل قيام أعضاء اللجنة الانتخابية في كل دائرة بذلك كما ينص عليه قانون الانتخاب، مما أثار السخط العام لهذا الإجراء المستغرب، والمخالف للقانون.

اتفقنا على أن يذهب عبدالعزيز الصقر لمقابلة وزير الداخلية الشيخ سعد العبدالله ليثنيه عن اتخاذ مثل هذا القرار إلا أنه أخبرنا بأن وزير الداخلية مصر على رأيه، ولكنه لم يذكر لنا تفاصيل ما دار في الاجتماع، وقد علمت فيما بعد أن «بوحمد» أحجم عن ذكر التفاصيل لأنها كانت مثيرة مما قد يؤدي إلى مواجهة خطيرة لا تعرف نتائجها.

هنا تأكدنا أن التزوير حاصل لا محالة، فقمنا بدراسة كل الاحتمالات التي يمكن أن يتم بها التزوير، وأخذنا الاحتياطات اللازمة، منها التأكد من خلو الصناديق من أية ورقة قبل التصويت وكذلك وضع علامات مميزة على الصندوق والتضحية ببعض الأوراق بوضع علامات خاصة عليها أو كتابة عبارات غريبة فيها والاحتفاظ بمصابيح يدوية في حالة قطع التيار الكهربائي إلخ.

كان يوم 25 يناير 1967 هو موعد الانتخابات، وكان الإقبال كثيفاً مما جعل معالم الاتجاهات تتضح في الساعات الأولى، ففي دائرتي الانتخابية دائرة النقرة وحولي، قام رئيس القائمة المنافسة بالاتصال تلفونياً من المدرسة بوكيل وزارة الداخلية وقال له بأن الوضع ميئوس منه، فرد عليه قائلاً: أنا قلت لك لا تتعب نفسك بالانتخابات، اذهب إلى البيت وفي المساء تسمع النتائج التي تسرك. بالطبع نسي المتكلمون بالتليفون أن المدرسة فيها عدة فروع وأن أي شخص يستطيع أن يسمع ما يقوله المتكلمون من أي تلفون موجود في المدرسة، وما دروا أن الشباب كانوا يستمعون إلى الكلام الدائر بين المرشح وأبي خالد عبداللطيف الثويني.

عندما اتخذ وزير الداخلية قراره بإعطاء الشرطة حق نقل صناديق الاقتراح بعد إقفالها كان يخالف قانون الانتخاب بشكل صارخ، فالمادة 63 من قانون الانتخاب تقول: «تقوم اللجان الفرعية بإدارة الانتخابات وفق الإجراءات المتقدمة حتى ختام عملية الانتخاب، ثم تغلق كل منها صندوق الانتخاب وتنقله إلى مقر اللجنة الأصلية حيث يجري فتح جميع صناديق الانتخاب في الدائرة وفرزها بحضور جميع رؤساء وأعضاء اللجنة الأصلية واللجان الفرعية برئاسة رئيس اللجنة الأصلية»، فالمادة توكل مهمة نقل الصناديق إلى اللجنة الفرعية بكل وضوح. وأكثر من ذلك فإن المادة 92 من القانون تقول: «حفظ النظام في مقر الانتخاب منوط برئيس اللجنة، وله في ذلك طلب رجال الشرطة عند الضرورة ولا يجوز لرجال الشرطة أو القوات العسكرية دخول قاعة الانتخاب إلا بناء على طلب رئيس اللجنة».

وهذا الطلب لم يتم من رؤساء اللجان الفرعية، بل اقتحم رجال الشرطة المقار الانتخابية عنوة وهم يحملون أسلحتهم الرشاشة أمام كاميرات التلفزيون الكويتي! الذي فوجئ هو بدوره بهذه التطورات.

لم ندرك وقتها معنى هذا التحدي السافر حتى رأينا الأبطال من قادة الشرطة المنفذين للتزوير يكرمون بحفلة رسمية بثت من التلفزيون.

بعد مدة وبعد سلسلة من الإجراءات التي اتخذها النظام اتضحت لنا الصورة. فالقرار الذي اتُّخذ آنئذٍ بالتزوير كان قراراً بإلغاء دور الكويتيين في الحياة السياسية.

عندها صار المرء يستذكر كلام فهد السالم عندما قال لي: لو كانت في يدي شعرة واحدة تحب الكويتيين لما نتفتها بل أخذت سكيناً و»قوقرتها» - أي اقتلعتها من جذرها - وتذكرت معارضة النظام دعوه لمؤتمر وطني بعد احتلال صدام للكويت خشية أن يظهر ما يعتقدونه من كره الكويتيين كما كانوا يعتقدون، خصوصاً بعدما طالب ميتران رئيس الجمهورية الفرنسية أن يستفتى الكويتيون في من يريدون أن يحكمهم، إلا أن الكويتيين فاجأوا العالم بمبايعتهم للصباح حسبما نص عليه دستور 1962.

ولعله من المفيد أن نذكر أن بعض العناصر الشابة من آل الصباح التي طرحت برنامجاً إصلاحياً بعد تحرير الكويت كانت في السابق من أشد المعارضين للديمقراطية، وكان تبريرهم بأنهم أرضعوا مع حليبهم توجسهم من الكويتيين وكانوا مرعوبين من مؤتمر جدة الذي عدّوه مناسبة مهمة ليعلن أهل الكويت كرههم ورفضهم للصباح، وهذا لم يحصل بل ما حدث هو العكس، مما بدد الأوهام التي كان هؤلاء تعلموها من آبائهم، وكان السبب في تغيير البعض لمواقفهم المعادية للديمقراطية.

إذاً بعد أن أُقفلت الصناديق بعد عملية الاقتراع دخل رجال الشرطة بأسلحتهم إلى المراكز الانتخابية وأخذوا الصناديق عنوة، ومن الطريف أن عمليات الاختطاف هذه بثت مباشرة على التلفزيون الكويتي الذي كان ينقل أخبار الاقتراع مما حدا بمراسل مجلة Time الأمريكية الموجود في الكويت لتغطية الانتخابات إلى تسمية الانتخابات بـ «ديمقراطية الصحراء Desert Democracy» كعنوان لرسالة بعثها لمجلته عن الانتخابات في الكويت. فقامت الحكومة الكويتية الرشيدة بمعاقبتها وذلك بمنع دخول المجلة إلى الكويت مما أدى إلى إفلاسها! أي إفلاس حكومة الكويت وليست المجلة التي كان توزيعها بالملايين وتبيع عشر نسخ في الكويت فقط!

جماهير الناخبين حاولوا منع الشرطة من أخذ الصناديق ولكن الضباط المسؤولين أخبروهم بأن عندهم أوامر بإطلاق النار لحماية الصناديق، وتوسلوا لهم بأن لا يضطروهم إلى تنفيذ هذه الأوامر. فقط منطقة الفيحاء والقادسية سلمت من التزوير لأنه كان هناك صندوق فرعي واحد هو صندوق الفيحاء أما الآخر فهو صندوق القادسية الثابت. إذ قام الناخبون في الفيحاء بإجبار سيارة الشرطة بالتوجه إلى القادسية على الرغم من وجود الثويني على رأس القوة التي جاءت لأخذ الصندوق، وهكذا نجح مرشحونا في هذه المنطقة.

الصناديق المختطفة كانت تؤخذ إلى بيت مستشار وزير الداخلية، وهو أحد زعماء الإخوان المسلمين الفارين من مصر ويقيم في منطقة الشويخ الجنوبي مقابل بيتي، وتستبدل بها هناك صناديق جديدة جاهزة. فقد قام أحد الأصدقاء من المتحمسين بملاحقة أحد صناديق حولي إلى بيت هذا الشخص إلا أن المباحث منعوه من دخول البيت وطردوه، وفي اليوم التالي حاولوا التعرف عليه من رقم السيارة التي كان يستقلها، فوجدوا أن السيارة باسم أحد أفراد الأسرة الذي أعار السيارة لهذا الصديق المشترك فسحبت السيارة منه!

كان الوقت الذي يستغرق الشرطة من لحظة سرقة الصندوق إلى استبداله وإرجاعه إلى مقر الفرز يتراوح بين 4 ساعات إلى أكثر من عشر ساعات لأنهم كانوا مضطرين للتأكد من عدد أصوات المقترعين بعد قفل الصناديق كي يكون عدد الأوراق في الصناديق الجديدة مطابقاً للأوراق في الصناديق الأصلية، هذه هي المدة التي كانت يستغرقها الصندوق لينتقل من مدرسة إلى مدرسة ثانية في المنطقة نفسها!

الصناديق الرئيسية الثابتة لم ينلها التزوير وبالتالي فهي وحدها تعكس النسبة الصحيحة للأرقام التي حصلنا عليها، ولو اعتُمدت هذه النسبة لكان عدد الفائزين من تحالفنا بين 31 إلى 32 عضواً، ومع أن قانون الانتخاب ينص على أن المرشح الذي يحصل على أقل من 10% الأصوات يخسر مبلغ التأمين إلا أنني مثلاًً مع غيري حصلنا على أكثر من هذه النسبة من صندوق واحد ورفضنا استرجاع مبلغ التأمين كي لا يقال إننا أقررنا بشرعية هذه الانتخابات والمجلس المزور. ويظهر مدى وقاحة المزورين واستهتارهم ما شاهدته في دائرتي الانتخابية، ففي الوقت الذي حصلت فيه على أعلى نسبة من الأصوات في الصندوق الثابت لم أحصل حتى على صوت واحد في الصندوقين الفرعيين المنقولين إلى المقر الرئيسي.

والغريب أن جميع الصناديق المنقولة استعمل فيها الحبر نفسه وكأن الناخبين جميعهم يحملون القلم نفسه.

في التقرير الذي بعث به السفير البريطاني إلى دولته يتحدث عن الهزيمة التي لحقت بالقوى الوطنية والتي لم تستطع أن تثبت التزوير، والشيء المستغرب الوحيد حسب كلامه هو إقدام الشرطة على نقل صناديق الاقتراع، إلا أن المسؤولين أخبرونا - كما يقول تقرير السفير - أن ذلك تم حرصاً على المحافظة على الصناديق! هذا هو التصور عنده وعند بقية السفراء الأجانب من حلفائه! وهكذا تتضح قوة التحالف بين هذه الدول والأنظمة المماثلة. والحقيقة أن هذه هي سياسة الدول العظمى في تعاملها مع كل نظام ديكتاتوري أو عسكري يدور في فلكها، فهي دائماً تبارك نتائج الانتخابات مع معرفتها التامة بأن التزوير كان كاملاً.

اكتشفنا أن التزوير لم يستهدفنا وحدنا بل استهدف أيضاً جماعة جابر العلي من قبيلة أخواله العجمان.

حدثني صديق كان موجوداً عنده في مزرعته بالقرب من المطلاع أن جابر العلي كان مستبشراً بنتائج الانتخابات قبل ظهور النتائج، وعندما أعلنت نتائج دائرة النقرة - حولي ، وهي الدائرة التي ترشحت فيها، قال لجلاسه، ضاحكاً: ألم أقل لكم إن نتائج الانتخابات ستكون مفاجئة وسارة؟ وبقي على مرحه حتى أذيعت نتائج الدائرة العاشرة - الأحمدي - الفحيحيل لتعلن سقوط جميع مرشحيه من العجمان، فاستشاط غضباً وسب الحاضرين وطردهم من مجلسه متهماً إياهم - وهم من العجمان - بخيانته ولم يخطر بباله أنه استهدف إلا بعد أن هدأت أعصابه، فاتصل بخالد المسعود وطلب منه أن يقدم استقالته من الوزارة ويطلب من الوزراء وهم الذين أتى بهم مع خالد المسعود للوزارة أن يقدموا استقالتهم، إلا أن خالد المسعود فوجئ بأن زملاءه رفضوا ذلك، لأنهم ما كانوا مصدقين أن يصبحوا وزراء فكيف يستقيلون؟! لا بل إنهم ساهموا بشكل فعال في تثبيت المجلس المزور، ففي اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد بعد إعلان النتائج مباشرة كان الوجوم يخيم على وجه الوزراء من الصباح بسبب رد الفعل الواسع لعملية التزوير فانبرى أحد هؤلاء الوزراء الشعبيين! قائلاً: لا نستعجل في بحث هذا الموضوع، فليقم رئيس الوزراء باستدعاء الفائزين من النواب وأخذ رأيهم وبعدها يصير خير. وبالطبع فقد أشاد النواب الذين أعلن عن فوزهم بنزاهة الانتخابات عندما اجتمع بهم رئيس الوزراء، كيف لا ومعظهم لا يتوقع الوصول إلى قبة البرلمان. وعندما دعي مجلس الوزراء وأخبر بنتائج الاتصالات عم الفرح عند الجميع.

 

لماذا التزوير ضد جابر العلي؟

 

التنافس بين فرع جابر وسالم معروف منذ وفاة مبارك الصباح، وفي منتصف الستينيات كانت المنافسة واضحة بين جناحي الشيخ جابر الأحمد الجابر والشيخ جابر العلي السالم، فعندما طلب عبدالله السالم من صباح السالم تشكيل الوزارة اتصل بعبدالعزيز الصقر وطلب منه ترشيح خمسة وزراء، فعدّ جابر العلي ذلك إبعاداً له بسبب ما هو معروف من قرب التجار لجابر الأحمد، وجمع حوله أغلبية من النواب كما ذكرت سابقاً لإسقاط الحكومة، وقام بالدور الأساسي في تشكيل حكومة أخرى موالية له. وهكذا فرض جابر العلي سيطرته على الجميع، ونسي أنه بذلك قد استفز  الشيخ سعد العبدالله الطامع بالحكم، وجعله ينتقل إلى معسكر الشيخ جابر الأحمد، وهكذا نشأ تحالف قوي بين الاثنين أطاح جابر العلي فيما بعد، وظل هذا التحالف قائماً بين الاثنين.

اللافت للانتباه أن الوزارة التي شكّلها جابر العلي تم الاحتفاظ بها حتى انتخابات 1971، فبقيت فترة أطول من أية وزارة أخرى كمكافأة لدورها المميز في تزوير الانتخابات! ولأن ما يهم هؤلاء الوزراء هو الحفاظ على كراسيهم بأي ثمن!

ردود الفعل الشعبية كانت قوية، فقد قررنا في اجتماع شعبي حاشد في مقرنا الانتخابي الرئيسي في ديوان المرحوم عبدالمحسن المخيزيم في الفيحاء أن لا نسكت عن هذه الجريمة.

كان من الضروري التشاور مع حلفائنا قبل اتخاذ أي قرار، وكان حلفاؤنا ممن نجحوا في الانتخاب قد قدموا استقالتهم وكذلك خالد المسعود. أما المرحوم عبدالعزيز الصرعاوي فإنه تخلف عن حضور جلسات المجلس في البداية إلا أنه فيما بعد قرر الرجوع إلى المجلس مما يعكس طبيعته الهادئة التي تتجنب المواقف التي قد تسبب المشكلات.

أما يوسف المخلد فقد نصحناه بأن لا يقدم استقالته لطبيعة ناخبيه ولأننا أردنا أن يكون لنا واحد على الأقل يرصد حركة المجلس المزور من الداخل. بعض الصحف المحلية ذات الاتجاه الوطني نددت بالتزوير ونشرت البيان المهم الذي أصدره مرشحو التحالف الوطني، واتفقت على التزام مقاطعة كل أنواع الأنشطة الرسمية، ولم يوافق حلفاؤنا على أي تحرك جماهيري كي لا يتسبب ذلك بصدامات لا يمكن التنبؤ بنتائجها. بالطبع هذا القرار لم يعجب بعض قواعدنا مما تسبب في أول انشقاق داخل الحركة.

الإجراءات المشددة والتهديدات التي اتخذتها السلطة بحق الصحافة والتجار الوطنيين ساهمت في تحجيم ردّ الفعل وعدم الالتزام الكامل بالمقاطعة مما سوف يأتي تفصيله لاحقاً.

وهكذا بعد خمس سنوات من الحياة الديمقراطية نرى أن القوى الوطنية قد جيّرت هذه التجربة للمصلحة الوطنية فاستطاعت أن تعزز الخط القومي للكويت، وبقيت الكويت سباقة في دعم النضال التحرري العربي كثورة الجزائر والقضية الفلسطينية والصمود العربي أمام العدو الصهيوني، وأصبح مجلس الأمة الكويتي منبراً لكل الشرفاء العرب.

كما التف الشعب في الكويت حول قواه الوطنية التي تبنت أيضاً قضاياه المعيشية ونقلته من المتفرج على الأحداث إلى عنصر فاعل ومقرر لمصيره، فدعمها في معارك الديمقراطية وأوصلها بقوة إلى قاعة المجلس.

كان القصد من المخطط الإنجليزي إبعاد الكويت عن محيطها العربي وإذا بهذا المخطط يفشل ويشكل خطراً عليها وعلى مصالحها في الكويت، مما جعل النظام ينقضّ على هذه التجربة بالتزوير الكامل في يناير عام 1967، أي بعد خمس سنوات فقط وبعد موت عبدالله السالم الذي لا شك في أنه كان له دور مؤثر في دعمه للديمقراطية. وكانت الفرحة الإنجليزية بما حدث واضحة فقد أرسل السفير الإنجليزي تقريراً إلى حكومته يقول فيه إن القوى الديمقراطية قد هزمت في الانتخابات وإن الانتخابات كانت حرة ونزيهة، أما استيلاء الشرطة على صناديق الاقتراع فكان لحمايتها لا غير.

وأعتقد أننا هنا قدمنا درساً مهماً للقوى العربية في كيفية التعامل مع مخططات الأعداء، فنحن رسمنا استراتيجية معينة للنهوض بمجتمعنا والتزمنا بها وبتطبيقها غير عابئين بما يخطط الغير، فكانت خياراتنا من صنعنا ولم يهمنا موقف الآخرين ولم يكن برنامجنا رد فعل على ما يطرحه الأعداء.

فالقوى العربية الديمقراطية في وطننا بحاجة إلى أن تكون لها الثقة ببرامجها وقدرتها على تحقيق أهدافها وإفشال مخططات أعدائها ممن يحاولون أن يسرقوا شعاراتها ليحققوا أهدافهم ويجعلونا نتنكر لأهدافنا وشعاراتنا لأن في ذلك هزيمة لنا.

 

محاولات إرهاب فاشلة

 

في أواخر الستينيات وعندما كنت مع الأهل في مصيف بحمدون، الضيعة بلبنان، قام مجهولون بإطلاق النار من أسلحة رشاشة على البيت، وكانت والدة زوجتي، أم محمد الملا، جالسة بالصالة وحدها فتطاير الزجاج من حولها إلا أنها ولله الحمد لم تصب بأذى. لم أكن في البيت وقتها وعندما عدت عددنا ذلك عبثاً طارئاً قام به بعض الشباب الطائش.

إلا أنه بعد يومين انفجرت عبوة ناسفة بقرب جدار البيت، ولم يصب أحد إصابة خطيرة، فأدركت أن ما يحدث أمر مقصود ومتعمد.

أخبرت الصديق الوفي المرحوم كمال جنبلاط بالأمر فاتصل بالمسؤولين للتحقيق، وكلف مخفر الشرطة ببحمدون بوضع حماية للبيت، وتطوع المرحوم الصديق الوفي المحامي جوزيف مغيزل بمتابعة الموضوع. ولكننا لاحظنا بعد أيام قليلة أن قوة الحماية من الشرطة غادرت الموقع دون أن تنتظر القوة البديلة كما يحدث عادة، وتأخر وصول القوة البديلة، وفي أثناء ذلك، وكان الوقت ليلاً وقع انفجار أكبر خلف البيت تماماً، ورأينا سيارتين تتركان المكان فلحقها بعض الأصدقاء إلى أن وقفتا بجانب مخفر الشرطة! وسجلوا أرقام السيارتين.

سارع المحامي جوزيف مغيزل وأخبر مسؤولي الأمن وأعطاهم المعلومات كاملة. بعدها جاءني المحقق المسؤول عن المنطقة من مقره في بعبدا إلى البيت في بحمدون وعرّفني بنفسه، وبعد أن شرب القهوة دعاني للذهاب معه إلى بعبدا لسماع إفادتي، وكان وحده ولم يكن معه أي مرافق أو حتى سائق، فاستغربت ذلك. وفي الطريق قال: يا دكتور سوف آخذ إفادتك، ولكن أرجوك لا تذكر موضوع السيارتين. فقلت: لماذا؟ ألا تريد أن تعرف السيارتين وأرقامهما؟ فقال إن ذلك لن يكون في مصلحتك! وأحذرك من ذلك.

المهم بعد المقابلة ذهبت إلى كمال جنبلاط وأخبرته بما قاله المسؤول الأمني. نظر إليّ بهدوء وقال بلغته الجبلية ما مفاده أنه في لبنان لا يمكن معرفة الجناة في القضايا السياسية حتى لو ألقت الشرطة القبض على القاتل والمسدس في يده، فالأحسن أن تنسى الموضوع وتحتاط لنفسك.

وهكذا اتفقت معه ومع جوزيف مغيزل على نسيان القضية، لأنه كان واضحاً أن الجريمة سياسية ومباركة من أطراف في السلطة اللبنانية.

بالطبع كان الأمر بالنسبة إليّ مهماً وخطيراً، فقام شباب من حركة القوميين العرب بحراستي، وبدأنا نتحرى الموضوع مستفيدين من وضع الحركة في لبنان وعلاقاتها الواسعة مع اللبنانيين الطيبين الموجودين في كل مكان وما أكثرهم.

تأكدنا أن وراء محاولة اغتيالي أحد المسؤولين الكويتيين المؤثرين الذي كلف سكرتارية الحكومة ممن له دراية بلبنان باستئجار مجموعة من القتلة مقابل عشرة آلاف ليرة لبنانية. ويبدو أن أحد الصحفيين الكويتيين الموجودين في المصيف له علاقة بالحادث، فقد كان جالساً في المقهى مع بعض الكويتيين عندما طلبه أحدهم على التلفون وسُمع وهو يقول: هل قتلتموه؟ وعاد منشرحاً لما سمع.

علمت بعدها أن هذه المجموعة تنتمي إلى جماعة لبنانية لي علاقة جيدة بكثير من شبابها من الجامعة الأمريكية في بيروت، وأنها لم تكن جادة في قتلي، ولو أرادت لفعلت ذلك بإتقان .

لم تكن هذه المحاولة الأخيرة، فقد جرت بعدها محاولة ثانية في الكويت. ففي إحدى المرات لاحظت سيارة تتبعني، إذا أسرعت أسرعت وإن تباطأت أبطأت، حتى وصلت إلى تقاطع على طريق البلاجات مقابل الشعب فأوقفتني الإشارة فتوقفت السيارة التي تتبعني إلى جانبي، وعندما استأنفت السير لحقت بي بسرعة فائقة، وكنت أسوق السيارة وحدي، فوجّه السائق سيارته نحوي وصدمني على الباب الأيسر مباشرة حيث أجلس ، ولكن سيارتي «الڤولڤو» صمدت وسيارته عادية، مما أدى إلى تحطيم سيارته بينما لم تتأثر سيارتي إطلاقاً، فأكملت طريقي ولم أعرف ما حدث لسائق تلك السيارة، ولم أقدم شكوى لأنني أعلم من هو الفاعل، وكما يقول الشاعر:

 

فيك الخصام وأنـت الخصم والحكـم

 

وهناك حادثة طريفة حصلت عندي في العيادة، فبعد انتقال بناتي لاستلام العمل في عيادتي قمن بعملية تحسين لشكل العيادة وصيانة الكهرباء، وإعادة طلاء الجدران وغيرها من الأعمال. بعد فترة قصيرة قام بعض اللصوص بدخول العيادة ليلاً من فتحة في إحدى غرف الممرضات وعاثوا فساداً في العيادة، إلا أن الملاحظ أنهم لم يسرقوا شيئاً، لا مالاً ولا أدوية ولا معدات. اكتشفت ذلك عند فتح العيادة صباحاً وتم استدعاء الشرطة الذين قاموا بتفتيش العيادة وأخذ البصمات وإفادات العاملين، واكتشفوا بصمات لشخصين على أجزاء من الشباك المكسور ليست لأحد من العاملين بالعيادة. بعض سكان البناية التي تقع فيها العيادة شهدوا أنهم رأوا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل سيارة يخرج منها ثلاثة شبان، دخل اثنان منهم إلى المبنى وبقي الثالث عند السيارة، ولكن المحقق رفض مقابلتهم وأخذ إفادتهم.

بعد مدة تم الاتصال بالمخفر لمعرفة النتيجة فقالوا إنهم لم يستطيعوا التعرف على الجناة، ولما سئلوا عن البصمات كان جوابهم: أحضروا من تشكون فيه لمقارنة بصماتهم بالبصمات الموجودة لدينا! لقد كان واضحاً أن أوامر قد صدرت لإيقاف التحقيق.

ضابط أمن دولة، متقاعد، تذكر الحادثة بعد سنوات يقول فيها لصديق إن الصيانة التي تمت في العيادة قبل الحادث عطلت أجهزة التجسس، فصار لا بد من استبدالها، وهذا عمل مباحث أمن الدولة. والغريب أن وزير داخلية سابقاً يقول في ديوانه بأنهم يسجلون أحاديث الدكتور حتى في حجرة نومه!

قال لي أحد الأصدقاء من الصباح بأن أمن الدولة يقومون بتسجيل النقاش الذي يدور في ديوانيتي يوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء تكون نسخة من الشريط على مكتب المسؤولين الكبار من العائلة، فصرنا نسجل نحن أحاديثنا يوم الثلاثاء ونوزع الأشرطة مجاناً يوم الأربعاء حتى نخرّب على أمن الدولة تزويرهم لكلامنا، لأن هذه الأجهزة تعيش على تخويف المسؤولين من الناس وأنهم هم وحدهم الذين يحمون النظام من أعدائه الكثيرين والخطيرين!

تتدنى تصرفات بعض المسؤولين أحياناً إلى مستوى سخيف وحقير مثلما حدث لإحدى بناتي. كان هناك برنامج إذاعي أسبوعي يقدمه الحربان اسمه «مع الطلبة» يقدم كل يوم اثنين الساعة الثانية بعد الظهر، يحتوي البرنامج على نشاطات الطلبة في المدارس الكويتية، وفي كل أسبوع يقدم مدرسة. وأخبرتني ابنتي، وكانت في المدرسة الابتدائية، بأنها اشتركت في البرنامج وحددت موعد بثه في الإذاعة، ولما كانت أول طفل للعائلة فقد تحمسنا جميعاً، نحن وخالها وخالاتها، وكل أحضر مسجلة لتسجيل البرنامج. ولما حان الموعد تحلقنا حول جهاز الراديو نستمع للبرنامج. كانت مدة البرنامج نصف ساعة ولكن تلك الحلقة اختصرت إلى 23 دقيقة فقط، ولم نسمع شيئاً لابنتنا مع أنها قدمت قطعة موسيقية على القيثارة التي تجيدها، واشتركت في مسابقة المعلومات ولما سئلت من هو أول دكتور كويتي لم تعرف الجواب. قالت ابنتي: وين كلامي يا بابا؟ قلت لها: عندما تكبرين سوف تعرفين السبب. وحين سألت وزير التربية جاسم خالد المرزوق عن سبب قطع البرنامج واستبعاد ابنتي قال إن وزارة التربية ليس لها علاقة بالبرنامج وإن وزارة الإعلام هي التي تشرف عليه. فسألت وزير الإعلام جابر العلي، فأنكر معرفته بالموضوع واستنكر ذلك وقال إنه سيشكل لجنة برئاسة محمد السنعوسي للتحقيق، وحتى الآن لا زلت أنتظر نتيجة التحقيق، هذا إذا كان قد شكل فعلاً مثل هذه اللجنة.

علمت بعد ذلك بأن أوامر عليا قد صدرت لأجهزة الإعلام الرسمية والتابعة لها بعدم بث أي شيء يمت إلى الخطيب بصلة.

في حفل تخريج المتميزين من جامعة الكويت دعيت لحضور الحفل بمناسبة تخرج ابنتي وكان الاحتفال بأحد الفنادق، ولم يحضر أي من الوزراء هذا الاحتفال. كنت وقتها عضواً في مجلس الأمة عام 1992 وقد طلب مني المسؤول أن أشترك في تقديم الشهادات، وعرض الحفل في التلفزيون ولكني لاحظت أن الصورة تنقطع كلما قربت الكاميرا باتجاهي ولم أظهر وأنا أوزع الشهادات، مما أزعج الطلبة المعنيين وأهاليهم، فاتصلت بوزير الإعلام آنذاك سعود الناصر الصباح فانزعج من هذا التصرف السخيف، واكتشف عندها أن الجماعة في الإعلام ينفذون التعليمات الرسمية التي عندهم، فأمر بإعادة بث الحفل كاملاً.

علمت أن تلك الأوامر قد طلب التشدد فيها وتعميمها علينا جميعاً بعد حلقة الحوار الذي دار بين عبدالله النيباري ووزير النفط في ذلك الوقت عبدالرحمن العتيقي التي ساهمت في رفض مشروع المشاركة الذي تقدمت به شركات النفط الأجنبية مما أدى إلى تأميم النفط. كما أوقف البرنامج الناجح «مع النواب» الذي كان يقدمه المحامي مصطفى الصراف كي لا نظهر في هذا البرنامج.

back to top