الحرية وثقافة التسامح

نشر في 31-08-2007
آخر تحديث 31-08-2007 | 00:00
 محمد خلف الجنفاوي

مع غياب أهم عنصرين للنهوض والتحضر، خسرنا نحن، محبي هذا البلد، العراق، الذي ما إن يخرج من محنة حتى يلج إلى أخرى، وكأن قدره أن يعيش أسيراً لأحد السجنين، إما الدكتاتورية وإما الفوضى.

في كتابه «مقال في الحضارة» يشرح الكاتب دي ميرابو تعريفه لكلمة حضارة المستمدة من جذور عدة في اللغة اللاتينية؛ فإما أنها تنبع من لفظة «مدنية» أو ساكن المدينة، وبعيداً عن أصل وجذور اللفظ في حد ذاته، فإن التفسير الأكثر شيوعاً لها يتلخص في «جملة من المفاهيم والأفكار والمبادئ والظواهر التي تتبلور داخل مجتمع ما في صورة سلوكيات وسبل وأنماط وقوانين يعيش بموجبها الفرد والمجتمع بصورة تكافلية تتعاطى مع الآخر في سبيل الارتقاء والنهوض».

وليس بوسع مجتمع مدني ما يسعى إلى الارتقاء أو التحضر أن يستمر في الحياة والتعايش من دون ركيزتين أساسيتين؛ حرية الفرد، وثقافة التسامح، وكلاهما يكمل الآخر ويغذيه.

الركيزة الأولى، المتصلة بالفرد وحريته متى ما ضاقت هوامشها، سواء من قبل جماعة أو فكر أو حتى مؤسسة منتخبة، فإن النتيجة الحتمية ستقود إلى سيطرة فكر مؤدلج شمولي عاجز عن التأقلم والتفاعل مع ما يطرأ حوله من تغيرات ومعتقدات وأفكار وتيارات، وتصبح المحصلة آنذاك توليد مجتمع هش جامد، ما إن يخرج من أزمة حتى ينزلق في أخرى.

أما الركيزة الأخرى، وهي ثقافة التسامح، فإذا ما انحسر معناها وصداها في أي مجتمع فهي تكون بمنزلة الكارثة التي تنزل على أركان المجتمع وتصيبه في مقتل.

وهناك أمثلة عدة، فالدكتاتور أدولف هتلر وصل إلى سدة الحكم في ألمانيا عبر صناديق الاقتراع، بموجب انتخابات ديموقراطية، لكنه سلب حرية الفرد بفكره النازي الذي ارتكز في الأساس على نظرية «التفوق العرقي»، وهو ما قاد ألمانيا وجرَّ العالم معها إلى مآسٍ غير مسبوقة.

ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى كثير من الأحزاب الدينية التي تعمل في السياسة، وهنا أقول كثير منها حتى أكون أكثر موضوعية. ولاسيما أن موقف أعرقها وأكثرها تنظيماً لا يشذ عن ذلك من حيث الانتهازية والفكر الشمولي الرامي إلى تنميط المؤسسات التي تقع تحت أيديهم لتصبغ بلون واحد، فضلاً عن محاربة النقد والرأي الآخر.

وثقافة النقد تعد إحدى الأدوات الجوهرية في إثراء بيئة الحرية وإبراز مفهوم التسامح في آن، فلا يمكن لأي مجتمع أن يعرف مسار الارتقاء والنهوض من دونها. وأحد الأمثلة الشاخصة أمامنا فيه هذا الإطار هو دولة العراق، التي تملك مرتكزات الحضارة كلها، من حيث التاريخ والأرض والثروة الطبيعية الهائلة، فضلاً عن أهم عنصر، وهو البشر المتعدد الأديان والمذاهب والأعراق، أي أنها باختصار دولة تحتضن فسيفساء جميلة وراقية، لكن بغياب حرية الفرد وثقافة التسامح تحول هذا البلد الجميل الغني بكل أدوات التحضر إلي حقل يضم أسوأ أشكال الديكتاتوريات المتعاقبة وممارسات إلغاء الأخر.

ومع غياب أهم عنصرين للنهوض والتحضر، خسرنا نحن محبي هذا البلد، العراق، الذي ما إن يخرج من محنة حتى يلج إلى أخرى، وكأن قدره أن يعيش أسيراً لأحد السجنين؛ إما الدكتاتورية وإما الفوضى.

لذا يتعين أن تتضافر جهودنا في ديرتنا المحببة من أجل تعزيز هذين العنصرين لنعيش، وتعيش أجيالنا المقبلة، بأمان وحرية وطمأنينة.

***

«الرأي الحر هو الجانب الأفضل من الشجاعة» مثل إنكليزي

back to top