الكويت من الإمارة إلى الدولة (3)

نشر في 11-06-2007
آخر تحديث 11-06-2007 | 00:00
 د. أحمد الخطيب في الحلقة الثالثة، يتحدث الدكتور أحمد الخطيب عن أيام الدراسة في الجامعة الأميركية، ويتذكر مواقف وأحداثا خلال تلك الفترة، التي بلورت تنامي الوعي السياسي وبدايات مسيرة العمل القومي التي بدأها مع عدد من رفاق الدراسة..

وفي هذه الحلقة يعرض الدكتور الخطيب بدايات حضوره للمحاضرات التي يقيمها الدكتور قسطنطين زريق عن القومية والفكر القومي، والتي كان يحضرها قبله خليفة الغنيم، وقد رشحه لحضورها بعد تخرجه، كما يتطرق إلى أزمة تقسيم فلسطين عام 1947 وقيام إسرائيل عام 1948 وكيف انعكس ذلك على زملائه: وديع حداد، وجورج حبش، ويعبر عن انطباعاته وما شاهده في المخيمات الفلسطينية التي نزح إليها الكثير، وعن انتشار مرض السل بين تلك المخيمات.

بعد التقسيم، اضطر وديع حداد وجورج حبش أن يتقاسما الموجود مع الدكتور كما يقول، حيث أمضيا ثلاثة أيام يأكلون سندويش «فستق العبيد» (أي السبال)، وكان الصوماليون يبيعونه في ساحة البرج.

كذلك يستعرض معارفه بعدد من زملائه السعوديين وما تعرضوا له بعد تخرجهم، كما يتحدث عن المظاهرات وقرار الجامعة حول فصله هو ووديع حداد، وكيف تظاهر الطلبة، وقرروا احتلال الجامعة حتى تعود الإدارة عن قرارها، وتعيدهما للدراسة وهما في السنة النهائية، ويشرح بعضا من صور تعامل الفرنسيين والدرك مع المظاهرات التي كان طلبة الجامعة الأميركية يقودونها.

أيـام الدراسـة وأحداثـها

إذاً، فطفولتي وحتى فترة مراهقتي بعيداً عن الوطن وبداية تعليمي بالخارج لم تكن عادية على الإطلاق، إلا أن تلك الأجواء العامة الجميلة وبوجود شخصية كخالد العدساني وصديق كمرزوق فهد المرزوق، جعلتنا نفكر ونحن طلاب في المرحلة الثانوية أن نعمل شيئاً من أجل الكويت ونبدأ بإنشاء نادٍ أدبي في المرحلة الأولى من عملنا الوطني. فاتصلنا نحن الثلاثة، أنا ومرزوق فهد المرزوق وعبدالله يوسف الغانم، بالطلبة الكويتيين الدارسين في مصر نطلب منهم التعاون والتنسيق، وكان ردهم إيجابياً. واتفقنا أن نلتقي في إجازة الصيف بالكويت لنطرح الموضوع على بعض الأصدقاء الموجودين في الكويت، وتم ذلك.

النادي الأدبي

وبما أن كافة الأنشطة كانت ممنوعة، فلم يكن مسموحاً بوجود أندية أو صحافة، كإجراءات ظلت مستمرة منذ حل المجلس التشريعي عام 1939، فقد اتفقنا على الاتصال بيوسف أحمد الغانم والد عبدالله يوسف الغانم ليساعدنا على الحصول على الرخصة من الشيخ أحمد الجابر، وكان مقرباً من الأمير، فوعدنا خيراً، وكان أن حصلنا على موافقة الشيخ أحمد الجابر.

وهكذا تشكلت مجموعة من الإخوة الموجودين في الكويت للبدء بالعمل لإيجاد مقر للنادي وجمعت تبرعات لذلك. وكان أن تم تأجير أحد البيوت لذلك. إلا أنه للأسف، وحال عودتنا إلى بيروت عقب انتهاء الإجازة الصيفية، نشأ نزاع لا معنى له بين الموجودين في الكويت أدى إلى موت فكرة النادي قبل أن تولد. كذلك فقد حاول أحمد السقاف بعد تخرجه في بغداد أن يشكل «نادياً متنقلاً» يعقد حلقات أدبية في دواوين متفرقة، إلا أنه منع من ذلك بعد أن اشتهر عمله.

نجحنا نحن الأربعة أنا ومرزوق فهد المرزوق وعبدالله يوسف الغانم ويعقوب يوسف الصقر في المرحلة النهائية للثانوية العامة، وعندها أخذ كل منا وجهة مختلفة.

فقد سافر عبدالله الغانم إلى بريطانيا لإكمال دراسته، أما مرزوق فهد المرزوق فقد استدعاه والده للعمل معه في كراتشي وتوفي هناك بمرض التيفوئيد. وأعتقد أن الكويت بوفاة مرزوق الفهد خسرت مناضلاً وطنياً من نوع فريد، كان بإمكانه أن يقدم الكثير في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الكويت. وكذلك استدعى يوسف الصقر ابنه يعقوب للعمل معه في كاليكوت في الهند، وبقيت وحدي في الجامعة.

إلا أن تلك الوحدة لم تدم طويلاً إذ انضم إلى الثانوية طلاب جدد، أذكر منهم عبدالعزيز أحمد البحر، وبدر عبداللطيف الثنيان، وجاسم محمد الغانم، وعبدالعزيز ثنيان الغانم، ومصطفى بودي، وكنت مشرفاًً مسؤولاً عنهم بعد تخرج خليفة الغنيم من الجامعة إذ كان هو المسؤول عنهم. بدر ثنيان كان ذكياً وديعاً وقومياً حتى النخاع، وعبدالعزيز ثنيان الغانم كان مشاغباً ومتعباً، أما مصطفى بودي فقد حرص على مرافقتي وكنت آخذه معي إلى مطعم فيصل المشهـور المقابل للجامعة وأعزمه على الغداء، وتعرف على، وصادق، أصحابي مثل جورج حبش ووديع حداد.

كان الانضمام إلى الجامعة الأمريكية ببيروت بالنسبة إلى الطلبة الكويتيين مقصوراً على الميسورين، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة مصاريفها، وهو ما أدى إلى أن يكون طلبتها الكويتيون من أبناء الطبقة الغنية، وقد أدى هذا الوضع إلى أنني وجدتني أعيش وأرتبط مع شريحة اجتماعية من الكويتيين لم أكن أعرفها سابقاً. وقد تمكنت حينها من التعرف على هذه الطبقة، وهي طبقة مهمة كويتياً بسبب وضعها المالي، وقربها من السلطة ومتخذي القرار، وللدور التاريخي الأساسي لبعضهم في مسيرة العمل الوطني. وقد ساعد ذلك كثيراً على إثراء العمل الوطني في الكويت بعد انتكاسة المجلس التشريعي عام 1939، التي قلصت الفجوة السائدة حينها بين عامة الشعب وهذه الطبقة. فلقد كان العامة بعيدين عن تلك الأحداث ومهمشين، مما جعلهم يحسون بالمرارة ويعدّون ما يجري لا يعنيهم بشيء، لأن ما كان يجري في نظرهم صراع على النفوذ بين مجموعتين، التجار والشيوخ.

الجامعة

لم تكن الجامعة إلا صورة مكبرة عن الوضع في الكلية الثانوية بتشكيلتها الطلابية المتنوعة، إذ كان عدد الطلبة آنذاك نحو 2500 طالب.

وكان نشاطنا السياسي بالثانوية يقتصر على العمل على الاهتمام بالحالة السياسية في الكويت، إلا أنه وبعد مغادرة الطلبة الكويتيين بيروت، وبعد تعثّر مشروع إنشاء النادي الأدبي في الكويت، صار واضحاً صعوبة أي عمل في الوقت الحاضر، وبالتالي فقد تم تجميد أنشطتنا حتى عودة بعض الخريجين إلى الكويت، لذلك تعطل اهتمامي بالعمل السياسي. وإذ إنني كنت الطالب الكويتي الوحيد في الجامعة الأمريكية فقد أقمت علاقات اجتماعية مع بعض زملاء الدراسة، وخصوصاً مع وديع حداد (فلسطيني) من صفد، وآمال قربان (لبناني) وكان والده أستاذ مدرسة بصفد يديرها والد وديع حداد وتربطهما صداقة قوية، ووالدة وديع من عائلة الخوري الفلسطينية المعروفة، وتعرفت أيضاً إلى عائلتيهما وأصبحنا كإخوة.

كان ملحوظاً آنذاك هدوء الأوضاع السياسية في الجامعة بعد استقلال لبنان من الاستعمار الفرنسي عام 1943، فقد شارك طلاب الجامعة بالمظاهرات التي عمّت لبنان بعد اعتقال الفرنسيين لأعضاء من الحكومة اللبنانية. وكانت المظاهرات تتجه إلى البعثة البريطانية Spear’S Mission تطالب الحلفاء بالتدخل وقد أصيب الكثيرون من الطلبة برصاص القوات الفرنسية. أما نحن طلاب الثانوية فلم يكن يسمح لنا بالخروج من الكلية لصغر سننا طوال تلك الفترة الصعبة، فكان أن تم وضع برنامج رياضي مكثف لنا إضافة إلى نشاطات مسلية أخرى كعرض الأفلام أو الحفلات المسرحية والموسيقية.

وحتى ذلك الوقت فإن أمريكا لم يكن لها حضور يذكر في المنطقة، وكانت إدارة الجامعة متعاطفة مع الشعب اللبناني، فلم تمنع الطلبة من المشاركة في المظاهرات ضد الفرنسيين وربما شجعتهم. وما بقي في ذاكرتي هو تلك الصورة القبيحة لجندي إفريقي من القوات الفرنسية يحمل بندقية بطرفها سكينة طويلة يهاجم اللبنانيين صائحاً: «جئت أمدنكم Moi Civilize Vous»، استهزاء بالدور الحضاري الذي كان يقول الفرنسيون إنهم يؤدونه في لبنان.

كان عدد الطالبات في الجامعة لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، فالطالبات لهن كلية خاصة بهن، لذلك كان التنافس شديداً، وكسب ود الطالبات كان أمراً مستحيلاً، لذلك لجأ الطلبة إلى أمر واقعي حضاري وهو تشكيل ما يمكن تسميته روابط المعجبين أو المفتونين، كل مجموعة تتحلق حول طالبة واحدة، خصوصاً أن الاقتراب من الطالبات ممنوع عرفياً، فلم تكن هناك علاقات مباشرة، لا في الصفوف ولا المطعم أو مقصف الجامعة، حتى ولا في مطعم «فيصل» المقابل لبوابة الجامعة، وهذا ما يجعل العلاقة بين أفراد رابطة المعجبين بعيدة عن الغيرة والتنافس بل التعاون على تحمّل مشقة هذا الحب العذري من بعيد! فكل مجموعة تحرص على الجلوس على سياج مبنى مكتبة الجامعة المقابل لمدخل الجامعة بانتظار قدوم الحبيب والعيون تحملق في الحبيب وهو داخل إلى الجامعة وتتعقبه حتى يختفي داخل إحدى كليات الجامعة. وكم من طالب وقع من الجدار تجاه المكتبة من شدة الولع، وكما يبدو كان الأستاذ زين الزين أستاذ التاريخ يرصدنا ويواسي المجروحين ضاحكاً مما يسبب لهم حرجاً كبيراًًً.

إذاً كنا مؤدبين داخل الجامعة، هل نحن كذلك خارجها؟ أهل بيروت عندهم مثل يقول: «ما في أزعر من الشوفيرية (سواقي التاكسي) غير أولاد الكلية (الجامعة الأمريكية)». في تلك الفترة لا يمكن لي أن أدافع كثيراًً عن طلبة الجامعة.

التصقت في تلك الفترة بمجموعة أخرى وتطورت صداقتي معهم إلى حد بعيد، وهم كمال صليبي (لبناني)، ويوسف الشيراوي من البحرين، ورجا أبو الجبين من فلسطين، وكانت أهواؤنا السياسية مختلفة، إلا أن ذلك لم يمنع أن تكون علاقاتنا حميمة. فمثلاً أثناء الصيف عندما يذهب أهل كمال صليبي إلى بحمدون نسكن بيتهم في بيروت ونطبخ أكلنا في البيت.

وكان أن تعرفت من كمال على معاناة المسيحيين اللبنانيين وتعرضهم للاضطهاد وحتى القتل إبان الحكم العثماني المسلم للبنان. لم أكن أفهم لماذا يتمركز المسيحيون في الجبل حتى علمت أن من عادة العثمانيين، وهم يهتمون كثيراً بجيوشهم، أن يقيموا تدريبات ومناورات عسكرية سنوية إلا أنها كانت بمثابة الحرب الحقيقية لا تدريبات، ففيها يقومون بمهاجمة المسيحيين، وقتلهم، مما اضطر أكثرهم إلى اللجوء إلى الجبال للحماية. وحتى الوثائق الرسمية - تملك العقار مثلاً - كان اسم المسيحي يقترن بألفاظ مسبّة نابية. وهكذا أصبح المسلم أي مسلم بالنسبة إلى المسيحيين في لبنان «بعبعاً»، وهو ما يفسر الأعداد الهائلة من المسيحيين في المهجر.

البطش العثماني

وقد خلقت حقبة الحكم العثماني للوطن العربي مآسيَ نعيشها حتى اليوم بسبب موقفهم الديني المتعصب، حتى المسلمون الشيعة لم يسلموا منهم، ففي العراق مثلاً منعوا الشيعة من الالتحاق بالجيش ودفعوهم لأخذ الجنسية الإيرانية ليكونوا تابعين للحكم الإيراني الشيعي، وهذا ما استغله صدام فيما بعد لنزع الجنسية عن الألوف من العرب العراقيين الشيعة وطردهم إلى إيران.

كمال صليبي أصبح في فترة منظّراً لحزب الكتائب اللبناني على ما أعلم، إلا أنه الآن عاد إلى جذوره العربية، أمد الله في عمره. وكتائبي آخر أعتز بصداقته لمصداقيته وطرافته وعمق ثقافته، وهو مكرم عطية.

ربطتني أيضاً علاقات حميمة مع بعض الطلبة السعوديين أمثال عبدالعزيز المعمر وعمر السقاف وعبدالرزاق الريس وزياد الشواف، حتى بعد تخرجنا كنا نغتنم بعض العطل الرسمية لنلتقي في أوتيل بريستول في بيروت.

ذهب عبدالرزاق الريس بعد تخرجه للدراسة في أمريكا، وبعدها تم تعيينه موظفاً في الحكومة لشؤون عمال النفط في أرامكو، أما عبدالعزيز المعمر فقد عمل مترجماً عند الملك عبدالعزيز بعد تخرجه في الجامعة. وفي إحدى اللقاءات، حذر عبدالعزيز المعمر عبدالرزاق الريس من مغبة الاندفاع في تأييد مطالب العمال السعوديين، كي لا يتعرض للمساءلة فلم يمتثل، وبعد مدة حصل إضراب للعمال هناك واتهم عبدالرزاق بأنه كان محرضاً لهم ففصل من عمله، واضطر إلى ترك السعودية إلى الزبير، إذ إنه كان من مواليد الزبير، وتم تعيين عبدالعزيز المعمر مكانه. ويحكي عبدالعزيز المعمر عن حادثة حصلت له أثناء عمله مترجماً للملك عبدالعزيز عندما رجع إلى السعودية، وقبل أن ينتقل إلى عمله الجديد، يقول عبدالعزيز المعمر إنه في إحدى المرات جاء مدير شركة أرامكو الأمريكي إلى الملك عبدالعزيز، وعندما رآني سألني من أنا ومن علمني اللغة الإنجليزية فقلت له إني خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، فالتفت إلى الملك قائلاً: كيف تعين شخصاً خريج جامعة عندك؟ المتعلمون يشكلون خطراً عليك. فترددت في ترجمة ذلك للملك لكنني خشيت أن الملك يعرف بعض الإنجليزية وإذا لم أترجم ما قاله فقد يفقد ثقته بي، فترجمت ما قاله حرفياً. فقال الملك: قل له إنني أعتبرك واحداً من أبنائي ولا خوف منك، لأن والد عبدالعزيز المعمر من أهم الشخصيات التي مكنت الملك عبدالعزيز من عودة السعوديين إلى حكم الجزيرة بعد أن رفض عرض الإخوان عليه بأن يتزعم حركتهم.

ومع ذلك فإن عبدالعزيز المعمر اتهم هو الآخر، كما كان الريس قد اتهم من قبله، بأنه كان له يد في اضطرابات عمالية حدثت إبان مسؤوليته. أما في عهد الملك فيصل فقد أدخل عبدالعزيز السجن ولم يخرج منه إلا بعد وفاة الملك فيصل، وكانت صحته قد تدهورت كثيراً، ولم يسمح له بالسفر للعلاج فتوفي - رحمه الله - بعد ذلك بفترة قصيرة. ويبدو - رحمه الله - أنه نسي نصائحه لصديقه عبدالرزاق الريس.

لو أردت أن أعدد جميع الأصدقاء والأحباء من جميع الأحزاب الذين عرفتهم لاحتجت إلى مجلد كامل، فلهم كل محبتي واعتذاري عن ذكر أسمائهم خشية أن أنسى واحداً منهم.

النشاط القومي

في هذه الفترة تم الاتصال بي من قبل أحد الأساتذة بالجامعة لحضور حلقات ثقافية يديرها د. قسطنطين زريق عن القومية. وقد علمت أن خليفة الغنيم، وكان قد تخرّج لتوه من الجامعة وكان يشارك في هذه الحلقات، ربما هو الذي رشحني للحضور، فاستهوتني الفكرة وكذلك وديع حداد، أما آمال قربان فلم تكن له اهتمامات سياسية ولذا لم يشارك في هذه الحلقات.

وقد اتضح لنا فيما بعد أن هاجس د. زريق كان نشر الوعي القومي والتبشير به، دون أن تكون له نية لتشكيل حزب سياسي. ويبدو أن موقفه ذاك قد جاء بعد استقالته من رئاسة الحزب القومي العربي السري، أي جماعة الكتاب الأحمر التي تولاها من بعده كاظم الصلح الذي ترك لبنان بسبب الوضع السياسي الصعب وجعل من بغداد مقراً له وللحزب.

كانت «جمعية العروة الوثقى» في الجامعة الأمريكية قد أوقفت نشاطها أثناء الحرب، وبعد الحرب عاودت النشاط برعاية د. قسطنطين زريق، فكان من الطبيعي أن ننضم أنا ووديع إلى الجمعية. ولم يكن يسمح للطلاب الجدد (طلاب الصف الأول) Freshman بالانضمام إلى الجمعية وذلك لحصر العضوية في طلاب السنة الثانية وما بعدها دون تمييز، مما جعل الجمعية تضم اتجاهات سياسية مختلفة. أما نشاطات الجمعية فقد كانت ثقافية متنوعة، والحق يقال بأنها كانت المحور الرئيسي لكل النشاطات الثقافية في لبنان التي كان يشارك فيها كثيرون من غير الجامعة، وحتى من خارج لبنان (اقرأ كتاباً عن العروة الوثقى، لأمجد غنما) وكانت تصدر مجلة دورية باسمها. وهنا تعرفنا على جورج حبش وهاني الهندي وصالح شبل وعماد حراكي وناجي ضللي وآخرين.

الشباب القومي

ليس هناك من شك في أن قرار هيئة الأمم بتقسيم فلسطين عام 1947، وقيام إسرائيل عام 1948، وهزيمة العرب العسكرية على يد الصهاينة، قد أحدثت انقلاباً في تفكيرنا، أما على المستوى الشخصي فلربما كان تأثيرها عميقاً لدرجة من الصعب التعبير عنها. ربما كان تأثيرها فيّ شخصياً عميقاً لأنني وجدت أصدقائي من الفلسطينيين الذين يدرسون معي وقد أصبحوا بين ليلة وضحاها مفلسين، ويذهبون كل يوم إلى الحدود الفلسطينية ليفتشوا عن أهلهم بين النازحين، وكنت أشاركهم في كل ذلك، فقد عشت استقبالهم الحزين المؤلم، ودخلت معهم المخيمات البدائية التي أقيمت لهم، وكيف كانت العائلات تتكدس في الخيام، و»الجبرات» المقسمة بشراشف إلى دور، كل دار تسكنها عائلة، والمجاري المفتوحة تمر وسط «الجبرات» وبين الخيام. وقد كنت أحياناً أجد عائلتين تسكنان في خيمة واحدة. ومع أننا لم نتخرج أطباء بعد، إلا أننا اضطررنا إلى الاهتمام بصحة هؤلاء اللاجئين. وبسبب سوء التغذية أو انعدامها أحياناً والسكن غير الصحي بدأ مرض السل ينتشر في المخيمات، وكان علاج السل في ذلك الوقت غالياً نسبياً لا يمكن أن يوفر للمرضى، فكان كل جهدنا هو عزل المصابين في خيام خاصة اكتظت بهم ولم تستطع استيعابهم، فكلما مات واحد منهم ننقل مصاباً جديداً إلى مكانه.

وهكذا وبعد أن انقطعت الموارد المالية لجورج ووديع تشاركنا فيما تبقى معي. وقد حدث في إحدى المرات أن كان طعامنا الوحيد ولمدة ثلاثة أيام هو سندويش «فستق عبيد» (سبال) وكان يبيعه بعض الصوماليين في ساحة البرج وسط بيروت، فكان فطورنا وغداؤنا وعشاؤنا خبزاً وسبالاً. بعد الأيام الثلاثة شعرنا بالغثيان وكرهنا الأكل وبقينا من دون أكل حتى جاءني الفرج.

تمركز عملنا في مخيم عين الحلوة القريب لنا، وهكذا عشت النكبة بكل مآسيها، رأيتها بأم عيني ولمستها بيدي وانحفرت في ذاكرتي إلى الأبد. وعندما وصل إلى بيروت المناضل إبراهيم أبو دية من أبطال طولكرم للعلاج، إذ كان قد أصيب في العمود الفقري مما سبب له الشلل مع الألم الشديد، وكان يرافقه كل من محمد نمر عودة وأبي عبدالله محمد خليفة الذي كان يحمله ليساعده في تنقلاته، كنا نزوره في مستشفى الجامعة الأمريكية ويطلب منا أن ننشد الأناشيد الوطنية، ليحمسنا ويحفزنا على العمل الوطني والتضحية من أجل قضايانا القومية مما أحدث أكبر الأثر في نفوسنا. وهنا تملّكنا القهر والغضب على الصهاينة والدول التي ساعدتهم والحكومات العربية والأحزاب العربية التي خذلت الفلسطينيين. وهكذا بدأنا بالتفكير في كيفية الرد والتعامل مع ذلك الوضع المهين. ومن هنا بدأت المسيرة من مجرد حلقات ثقافية إلى «الشباب القومي» ثم إلى «حركة القوميين العرب» لإيماننا بأن القضية هي عربية بالدرجة الأولى.

تشكلت مجموعتنا الأولى من تلاميذ حلقات د. زريق وبعض أنصار العروة. بدأنا ننظم عملنا ونتوسع باسم «الشباب القومي» واتخذنا من بيت أسماء الموقع السورية في رأس بيروت ملتقى لنا، للنقاش والحوار والعمل، ومن ثم أصبحت جمعية «العروة الوثقى» واجهة لنشاطنا، وتحوّل نشاط «العروة الوثقى» من نشاطات ثقافية إلى نشاطات سياسية، فعلى سبيل المثال كان من ضمن أنشطتنا إقامة حفلة تأبين للزعيم اللبناني عبدالحميد كرامي في إحدى دور السينما، ودعونا إليها المسؤولين اللبنانيين والسياسيين. وكان الشاعر مهدي الجواهري من ضمن المدعوين، وحالما اعتلى المنصة، وكانت وراءه صورة كبيرة للمرحوم عبدالحميد الكرامي، وأمامه رئيس الوزارة وغيرهم من المسؤولين، ألقى قصيدته الرثائية العظيمة بالقول مشيراً إلى الصورة «باق وأعمار الطغاة قصار» هو يشير إلى المسؤولين في الصفوف الأمامية، وما إن انتهى من قصيدته حتى قمنا بتهريبه وإخفائه ثم تسفيره. لقد سبب لنا إحراجاً كبيراً. زادت أهمية الجمعية وخطورتها، فبدأت الأحزاب الأخرى، بعث عربي، قومية سورية، كتائبية وشيوعية بالانضمام إلى الجمعية. وكانت سياسة الجمعية كما أوصى الدكتور زريق أن لا يرفض أحد من الانضمام إليها مهما كان لونه السياسي. وكان علينا قبول هذا التحدي إذا أردنا السيطرة عليها، حتى وصل أعضاء الجمعية إلى أكثر من ثمانمئة عضو، وأصبحت الحملات الانتخابية لإدارة الجمعية نشيطة وصعبة، تقام فيها المهرجانات الخطابية التي تظهر طبيعة الصراعات العقائدية. ومع ذلك احتفظنا كشباب قومي بالسيطرة على «العروة الوثقى» حتى حلها عام 1954.

ورغبة منا في تحقيق المزيد من الانضباطية فقد وضعنا لأنفسنا قواعد سلوكية صارمة، كان من أهمها عدم إضاعة الوقت في «الأمور التافهة»، كالجلوس في المقهى أو الذهاب إلى السينما! فهي مضيعة للوقت والمال الذي كنا بأمسّ الحاجة إليه في عملنا، وقد كنا «قساة» في احترام المواعيد، لأن التأخير كنا نراه أيضاً مضيعة للوقت، فمثلاً يحرم العضو من الاشتراك في أي اجتماع يتأخر عنه أكثر من خمس دقائق.

كذلك حرصنا على القراءة وبالذات الكتب عن القومية العربية والوحدة الألمانية والإيطالية، وقد اقترح عليّ جورج حبش أن أقرأ كثيراً عن الإعلام والدعاية، بعد أن اتضحت له قدراتي في هذا المجال.

كذلك كان اهتمامنا أيضاً بالنشاط الرياضي كبيراًً، وذلك لأننا كنا نربط بين القوة الجسدية والقدرة على المواجهة، فانخرطنا في عضوية أحد الأندية الرياضية في بيروت، وركزنا على الملاكمة لكونها رياضة قوية وهجومية، وقد جربنا استخدام تلك القوة الجسدية في صراعنا مع الشيوعيين.

الصراع مع الشيوعيين

ففي أحد الأيام كان حامد الجبوري وهو عراقي من مجموعتنا الأولى، جالساً في مقهى الجامعة (Soda Fountain) وحده، وجاءته مجموعة من شيوعيي الجامعة وأهانوه ولم يكن بمقدوره وحده أن يتصدى لهم، وقد عَدَدْنا تلك الحادثة مؤشراً خطيراً، وأننا إن جعلناها تمر هكذا فإنها قد تكون بداية لتصرفات استفزازية أخرى، مما قد يؤدي إلى التأثير سلباً في قواعدنا وإخافتهم، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى انهيار ما بنيناه. وهكذا قررنا أن نرد على ذلك بقوة فرسمنا خطة لتحقيق ذلك.

كانت العادة قد جرت بأن تقيم الجمعية حفلة تكريم للطلبة الجدد في آخر السنة لتعريفهم إلى العروة وحثهم على الانتساب إليها، فقررنا أن نستعمل هذه المناسبة لتنفيذ الخطة. ولأن هذه الحفلة يحضرها جميع أعضاء الجمعية ومن بينهم الشيوعيون، فقد قررنا استفزازهم أثناء هذه الحفلة، ليبدأوا الشغب كي نلقنهم درساً لا ينسونه ونعمق ثقة الأعضاء بأنفسهم. وقد تم اختياري لإلقاء كلمة الترحيب بالضيوف وإثارة الشيوعيين، وكنت عند حسن ظن الإخوان، فلم يتحمل الشيوعيون هجومي عليهم فأثاروا بعض الشغب في القاعة. فنزعت نظارتي الطبية وبدأنا حفلة الملاكمة، مما أدى إلى جرح بعضهم ونقلهم إلى المستشفى للعلاج. في اليوم الثاني حققت معي إدارة الجامعة وأنذرتني بالفصل إن تكرر ذلك. وهكذا انتقمنا لحامد الجبوري وحافظنا على هيبتنا.

مواقف وأفكار

لقد كان موضوع الزواج مثار تفكير بيننا وقد تكونت عندنا فكرة سلبية عن الزواج باعتباره يشكل عبئاً على الفرد إذ يلزمه بواجبات عائلية على حساب العمل القومي. ومع أن الموضوع لم يناقش بشكل رسمي أو يصدر فيه قرار إلا أنه كان انطباعاً سائداً عند الشباب. فمثلاً كان إقدام جورج حبش على الزواج قد أحدث استياء كبيراًً عند الكثير من الشباب، مما أوجب بحث الموضوع بشكل جدي وأخذ موقف صريح من ذلك. وأذكر أنه عندما رجعت إلى الكويت دار نقاش عفوي في إحدى الأمسيات في النادي الثقافي القومي بدأه المرحوم عبدالله حسين عندما طارده الشيخ عبدالله الأحمد الصباح بعد إحدى الندوات. وبعد أن تدخّل بعض المخلصين في إنهاء هذه الأزمة، قال إن أشد ما كان يخشاه هو تعرض أطفاله للأذى، فلو هدد بأطفاله لأذعن لكل طلبات الشيخ عبدالله الأحمد لأن العائلة تشكل نقطة ضعف قاتلة للإنسان. فالتفت إليَّ المرحوم عبدالرزاق البصير قائلاً: إياك يا دكتور أن تفكر في الزواج، أخشى أن نخسرك فيما لو تزوجت. وهذا ما جعلني أفكر في مسألة الزواج بشكل جدي مع أنني في تلك الفترة لم يكن عندي أي مشروع من هذا النوع. والحقيقة أن الزواج الموفق لا يكون عبئاً على العمل الوطني بل بالعكس يوفر ظروفاً أحسن للعمل الوطني، وهذا ما تأكدت منه بعد زواجي. فقد وفرت لي زوجتي فاطمة ملا صالح الملا الظروف المثالية لنشاطي سواء باهتمامها بتربية الأطفال وتوفير الجو المريح في البيت أو التشجيع على التفاني في العمل من أجل الكويت وأهل الكويت فلها مني كل الشكر والامتنان.

كذلك كانت عندنا حساسية شديدة لتدخّل الجيش في السياسة، فكنا ضد الانقلابات العسكرية، وكنا نعلق عضوية كل شخص ينتسب إلى الجيش، فعندما حدثت الثورة المصرية عام 1952 لم نرحب بها بل وقفنا موقفاً معادياً منها ولم يتغير موقفنا بشكل واضح إلا بعد تأميم القناة والعدوان الثلاثي عام 1956.

محاضرات عفلق

كانت علاقتنا بحزب البعث جيدة، وكنا نحضر محاضرات ميشيل عفلق عندما يأتي إلى لبنان، ولكن سلوك مسؤوليهم في الجامعة لم يكن بالمستوى المطلوب، وكان عقبة أمام توسيع نفوذ الحزب، فعندما اشتكت قواعد الحزب من المسؤول رفضت القيادة هذه الشكوى وتبنت هذا المسؤول. وحدث مثل ذلك مع أعضاء الحزب في جنوب لبنان حيث كان للحزب وجود واسع هناك، مما أدى إلى تقلصه بسبب سلوك المسؤول هناك أيضاً.

كذلك فقد كانت عنجهية بعض قياديي الحزب وغرورهم وتصرفاتهم المنفرة سبباً في تكوّن موقف غير ودي، فقد كانت هناك مجموعة من الشباب في الكلية الثانوية تقوم بنشاطات قومية، وكان إيلي بوري من أبرزهم وقد التحقت المجموعة بالجامعة، فأقمنا لهم حفلة تعارف في قهوة «محيو» برأس بيروت لتشجيعهم على الانضمام إلى العروة. ولما جاء دور البعث ألقى قائدهم في بيروت «إياه» كلمة قاسية انتقدهم فيها وسفههم بشدة بسبب تأخرهم في طلب الانضمام إلى حزب البعث، مما أثار استياءهم من هذا الأسلوب الفج، وكان ذلك سبباً في أننا كسبناهم.

إن هذه التصرفات جعلتنا نغض النظر عن انضمامنا إلى حزب البعث الذي كان قريباً من تفكيرنا ، فالبعض كان يقول إنه بالإمكان إصلاح الخلل من الداخل، إلا أن هذه الأحداث أكدت لنا أن الإصلاح من الداخل مستحيل. واتخذنا قرارنا بتشكيل حزب جديد، وبعدها لم تكن علاقتنا مع حزب البعث حميمة كالسابق.

كثّفنا عملنا في المخيمات الفلسطينية بالعمل الإنساني ونشر الوعي القومي، وكان لأحمد اليماني (أبو ماهر) الدور الرئيسي في المخيمات، وكذلك وديع حداد.

كذلك شكّلنا لجنة لمقاطعة بضائع الدول ال تي ساعدت الصهاينة، بدأت عملها بإصدار منشور مطول للدعوة إلى المقاطعة وزّعناه على نطاق واسع وكملصق على الجدران، وكان هذا المنشور بداية تعرفنا على علي ناصر الدين، الأمين العام لعصبة العمل القومي، التي كانت تضم بعض الشخصيات العربية (لبنانية وسورية وفلسطينية) المتزعمة حركة التحرر من الاستعمار الفرنسي والإنجليزي.

أعجب علي ناصر الدين بالبيان، وحرص على اللقاء بنا، وعرض تجربته السابقة في عملية المقاطعة وكيف كانت تجربة صعبة إلا أنها كانت مفيدة، كان يقول إنه كان مضطراً أن يكوي بدلته مرتين في اليوم لسوء نوعية القماش المحلي.

كنا نزوره في بيته في فترات متقطعة، وأخرجناه من عزلته بعد الصدمة التي حصلت بإخفاق العصبة على حد قوله بالتزام مفاهيمها وبالذات بعد أن تسلم بعض أعضائها السلطة. وأقنعناه أن يلقي محاضرة للشباب فوافق، وأقمناها بقاعة في مدينة طرابلس اللبنانية باسم «الثأر» ودخلت كلمة الثأر في قاموسنا السياسي. فلما أصدرنا نشرة دورية للمخيمات أسميناها «الثأر»، فكان أن دخلت كأحد شعاراتنا الرئيسة فيما بعد. وهكذا تجاوز عملنا ونشاطنا «كشباب قومي» محيط الجامعة ليمتد إلى بقية الطلبة في جنوب لبنان وطرابلس. وأقمنا علاقة طيبة مع ملحم كرم وكان رئيس طلبة الثانوية في لبنان، كما قامت لمياء رياض الصلح بدور بارز بين الطالبات وخصوصاً في المدارس المسيحية وتزعمت مدارس البنات في لبنان.

وهكذا وجدنا أنفسنا في إطار جمعية العروة الوثقى وقد تحولنا إلى قيادة العمل الطلابي العربي القومي، وخصوصاً بعد أن أقمنا علاقة حميمة مع الجامعة السورية والشباب القومي في العراق وحركة الشباب في حزب الوفد المصري، وكان وزير الخارجية المصري آنذاك صلاح الدين الأب الروحي لهذه المجموعة الوفدية، حتى إنه عندما بدأت مصر حملة لإنهاء الاحتلال الإنجليزي وقرر الطلبة هناك الصيام عن الطعام حتى خروج الإنجليز قررنا مشاركتهم، وكنت الوحيد من القياديين الذي كان عنده جواز سفر، فذهبت إلى السفارة المصرية في بيروت أطلب فيزا لدخول مصر ومشاركة الطلبة في صيامهم، إلا أن السفارة رفضت طلبي. وتوطدت علاقتنا بوزير الخارجية حتى إنه بعد الثورة في مصر وحل حزب الوفد كنا ندعوه لإلقاء المحاضرات في النادي الثقافي العربي في بيروت والنادي الثقافي القومي في الكويت.

زيارة دمشق والعراق

قامت «العروة» بزيارة الطلبة في الجامعة السورية بدمشق، وذهب أيضاً وفد برئاستي إلى العراق بدعوة من الشباب القومي هناك وأقمنا علاقات حميمة معهم وبالذات مع المحامي الشاعر عدنان الراوي والمحامي فيصل الخيزران، وحرصت الحكومة العراقية آنذاك على أن تكون إقامتنا على نفقتها ووضعت لنا برنامجاً لمشاهدة معالم العراق. وكنا نغادر بغداد في الصباح الباكر ونرجع في المساء ونحن مرهقون. وتبين أن من أهداف الضيافة هذه إفشال البرنامج الذي أعده لنا الشباب القومي هناك للقاء القوى الوطنية والقومية في العراق. وفي حفلة أقيمت لنا حضرها عدد كبير من المسؤولين والشخصيات القومية ألقيت كلمة هاجمت فيها كل الحكومات العربية ومن بينها العراق، وكان في مقدمة الحضور فاضل الجمالي الذي كان يصفّق بحماسة، وقد تقلد الجمالي مناصب رفيعة، وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء. وزالت دهشتي حين علمت أنه كان عضواً في «العروة الوثقى». ويبدو أن النمو السريع للعلاقات التي نشأت بيننا وبين دمشق وبغداد ربما كان نتاجاً لنشاطات الحزب القومي العربي السري أي «مجموعة الكتاب الأحمر».

في هذه الفترة اتصل كامل مروة ببعضنا وقدم اقتراحاً بتشكيل حزب قومي عربي، ونشأت صداقة معه، وبعدها أصدر جريدة «الحياة» وطوي الموضوع، وكنت أنا مع بعض الرفاق نزوره في الجريدة ونتناول الموضوعات العامة. كذلك أقمنا علاقة مع شهيد الحرية نسيب المتني الذي أعطانا نصف صفحة في جريدته نكتب فيها عن الشؤون الفلسطينية، وكنت أنا ووديع حداد وصالح شبل نقوم بذلك، وكان المتني شخصية فريدة، فهو طيب ومنفتح على الجميع، وكثيراً ما كنا نرى بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب عنده وكان يشجعنا على الحوار معه.

في هذه الفترة بدأ التململ من الاستعمار في شمال المغرب العربي، وانطلقت الشرارة في البداية في المغرب وتم نفي الملك محمد الخامس، فدعونا إلى التضامن مع المغرب ونظمنا المظاهرات المؤيدة للمغرب والداعية إلى طرد الاستعمار، وتجاوب معنا الطلبة في مصر وسورية والعراق، ودعونا إلى مساعدة المغرب وبعدها جاء دور تونس ثم الجزائر واستمر الدعم حتى بعد أن تركنا الجامعة.

والحقيقة أنه كان عملاً متواصلاً حتى إنني أذكر أنه عندما انتصرت الثورة في تونس برجوع الحبيب بورقيبة وبدأت الثورة في الجزائر أرسلنا من الكويت المبالغ التي كانت مقررة لدعم النضال التونسي أرسلناها إلى الجزائر من خلال مكتب حركات التحرر لشمال إفريقيا الموجود بدمشق، وكان عبدالحميد المهري - أطال الله في عمره - ممثلاً للجزائر في ذلك المكتب. وبعد مدة بعث إليّ برسالة موقعة من محمد خيضر، أحد الأبطال الخمسة، ومنهم بن بللا، الذين أسرهم الفرنسيون بعد اختطاف طائرتهم وهي في الجو ، يخبرني فيها بأن تبرع الشعب الكويتي هو أول تبرع يأتي إلى الثورة الجزائرية من أي جهة عربية أو أجنبية رسمية أو شعبية.

في بيت الصلح

كانت مظاهراتنا الطلابية في لبنان من أجل القضايا العربية دائماًً ما تكون عنيفة نصطدم فيها بقوى الأمن التي كانت شرسة في معاملتنا. وأذكر آخر مرة خرجنا فيها من الجامعة دارت معركة حول الجامعة بعد أن كسرنا باب الجامعة وخرجنا، فاشتبكنا مع قوات الأمن، ولما صار موقف قوات الأمن محرجاً بدأوا يطلقون النار علينا، فأصابوا عاطف دانيال السوري وكان يقف على يميني فوقع على الأرض، ثم أصيب وديع حداد الذي كان على يساري ووقع على الأرض، وعندها أطلقت لرجليّ العنان بعد أن سحبتهما إلى المستشفى الذي كان بقربنا (مستشفى الجامعة). وتمت ملاحقتي وإطلاق النار عليّ حتى منطقة الصنائع، وكنت أحتمي بالأشجار الموجودة في المنطقة آنذاك حتى وصلت إلى بيت رياض الصلح واحتميت به. وهكذا استفدت من موهبتي في قطع المسافات الطويلة والسرعة التي عادة ما تكون أكبر في حالات الخوف، مما جعلهم يتعبون ويتوقفون عن ملاحقتي.

لم تكن إصابة وديع أو عاطف دانيال خطيرة فهربا من المستشفى، وبعد أن تأكد لنا أنني ووديع حداد مطلوبان للأمن اختفينا في أوتيل صغير قرب سوق الطويلة أخذنا إليه هاني الهندي لاختصاصه بقضايا التخفي. وفي الصباح اكتشفنا أن الأوتيل لا يقدم فطوراً، وحاولنا أن نجد محلاً قريباً يقدم الفطور فلم نجد، فاقترحت على وديع أن نذهب إلى مطعم فيصل المقابل للجامعة لنفطر هناك فرفض، فقلت له: أنا سأذهب وحدي لأنني لا بد أن آكل مربى مع الفطور، فانهال عليَّ بمسبات بذيئة لا يمكن ذكرها، إلا أنه أذعن لطلبي لمعرفته أنني عنيد جداً، وذهبنا إلى هناك وأفطرنا ثم رجعنا إلى الفندق سالمين. من كان يعتقد بأننا سنكون في مطعم فيصل؟

بعد تدخّل القوى الوطنية في لبنان تم غض النظر عنا، وعدنا إلى الجامعة، فوجدنا أن رئيس الجامعة قد قرر فصلي مع وديع من الدراسة وكانت هذه هي السنة النهائية لنا. ورغم الجهود التي بذلت من بعض الأساتذة والطلاب فإن رئيس الجامعة (بنروز) أصر على قراره. وهنا تحركت جموع الطلبة في لبنان من كل مكان متجهة إلى الجامعة الأمريكية واحتلت الجامعة، وحاصرت رئيس الجامعة في بيته الموجود داخل الجامعة وأخذت تهتف بسقوط (بنروز) حتى الليل. وكان طلبة طرابلس قد أحضروا معهم الديناميت المستعمل لصيد السمك لينسفوا البيت على من فيه، بقيادة مجموعة من الشباب القومي الرائع: معن كرامي وأنيس السراج ومصطفى زيادة وطلعت كريم إلا أننا منعناهم من ذلك. وهنا تدخلت القوى السياسية القومية في لبنان مطالبة بإرجاعنا إلى الجامعة، وهكذا اضطر بنروز أن يلغي قراره قائلاً: من هو رئيس الجامعة أنا أم أحمد الخطيب؟

بعدها مباشرة عدت إلى الكويت حسب البرنامج الدراسي التدريبي في آخر سنة دراسية للعمل في المستشفى الأميري لمدة شهرين. وبعد مدة تظاهر طلاب الجامعة الأمريكية لموضوع لا أذكره، وكان حقد قوات الأمن علينا عظيماً، فلأول مرة يقتحمون الجامعة ويصطدمون بالطلاب قبل خروجهم. وكانوا يفتشون عني فوجدوا طالباً من الحبشة يدرس في المكتبة فأخذوه وأشبعوه ضرباً ولم يفرجوا عنه حتى علموا بأنه ليس أحمد الخطيب، وطلبت من الله أن يغفر لي على ما سببته له من أذى.

في 27 مارس عام 1954 قام طلبة الجامعات في بيروت بمظاهرات احتجاجية كبيرة ضد مشروع حلف بغداد الذي بدأ الإعلان عنه والترتيب له بين دول المنطقة وجر بغداد إليه، وقد تعرضت قوات الأمن اللبنانية لتلك المظاهرات واستشهد فيها الطالب حسان أبو إسماعيل، كذلك أصيب الطالب مصطفى نصر الله بشلل تام بسبب اختراق رصاصة عموده الفقري وجرح العديد من الطلاب ومن رجال الشرطة، وكنت وقتها في الأردن وكنا نتابع الأخبار بالهاتف من بيروت، وكانت الأخبار تأتي مبالغاً فيها كالعادة في مثل تلك الظروف عن قتلى وجرحى، فشعرت بالحزن وتأثرت كثيراً واستغرب مني ذلك د. جورج حبش، ولكنني شعرت بعظم المسؤولية وأننا كنا السبب في موت هؤلاء الشباب وجرحهم ولأنني شخصياً أكره العنف والقتل، وهذا ما جعلني أجنب الشباب أي عمل فيه خطورة، وإذا كان ذلك ضرورياً أقوم به بنفسي أو أكون مع المنفذين.

وقد استغلت الجامعة فترة العطلة الصيفية لتبعث برسائل طرد إلى مجموعة من الطلبة القياديين منهم: باسل الكبيسي ، ثابت المهايني ، يوسف التميمي، فيصل الخضرا ، سامي صنبر، أسامة عفيفي، زياد حبش. وكان الغرض تخويف الطلبة الآخرين ومنع نشاط الطلبة المعادي، ولكن الطلبة سرعان ما نظموا صفوفهم وخصوصاً شباب «العروة الوثقى» وأعلنوا مواقفهم الواضحة من المخططات الغربية ومن مشروع حلف بغداد، مما حدا بالجامعة الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات تعسفية بحق القيادات الطلابية أعلنت عنها في يناير 1955 وعاقبت بعض هذه القيادات بالطرد النهائي من الجامعة والبعض بالطرد إلى نهاية ذلك العام ووجهت إنذارات إلى آخرين.

بعد التخرج من الجامعة ذهب كل منا إلى بلده لمواصلة المسيرة، أنا رجعت إلى الكويت، ووديع إلى الأردن ولحقه جورج حبش بعد أن استقال من مستشفى الجامعة ، وحامد جبوري إلى العراق. ذهبنا إلى العمل تحت الاسم نفسه «الشباب القومي العربي».

back to top