كذبة بيضاء وشهادة زور وتحوير الواقع... الكذب... متى يتحوّل مرضاً؟

نشر في 18-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 18-07-2007 | 00:00

بحسب كثيرين «الغاية تبرّر الوسيلة»، هؤلاء لا يوفّرون جهداً في الحصول على ما يبغون مهما بلغ الثمن. ودرّج البعض موضة التغاضي عن قول الحقيقة أو تحوير الواقع، إجتزاء الأمر أو الشهادة بالزور، لتحقيق غاية في نفس يعقوب. بات الكذب جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس وعنصراً أساسياً للتهرّب من الآخرين أو من عمل يرفض صاحبه القيام به بغية التخلّص من ورطة أو الحصول على مطلب. للكذب درجات وأنواع وأسباب مختلفة منها العابر ومنها الممتدّ حتى حدود المرض.

يسرد المرء قصّة من حياته. قد يتّعمد إضفاء النكهة عليها، مشدّداً على بعض الأمور أو مضيفاً بعض التفاصيل التي لم تحصل البتة، بغية جعل الموضوع أكثر تشويقاً أو مبالغة. من جهة أخرى قد يُسرع، من حيث يدري أو لا يدري، إلى إختلاق قصص من محط الخيال لدحض الواقع الأليم الذي يتبرأ منه. هذا نتيجة أنّ الكذب إبن البيئة، يولد مع الإنسان وينمو معه مشكلاً طريقة دفاعية عن النفس وتبريرية حيناً، تارة يلعب دوراً هجومياً مشيراً بإصبع الإتهام وطوراً يورط الآخر زارعاً الشك بعيداً عن صاحب العلاقة الذي يلجأ إلى الكذب. تقول الإختصاصيّة في علم النفس لمى شديد: «النقص في الإنتباه والإهتمام وضعف العلاقات الإنسانية والعاطفية بين الناس من أبرز دوافع الكذب بحيث يحاول الإنسان التعويض عمّا عاناه خاصة في الطفولة فيعمد إلى تغيير الحقيقة المُرّة. من جهة أخرى قد يكون السبب نتيجة ترسّبات من جرّاء إضطرابات في تأسيس الشخصية التي تؤدي إلى حاجة عدم قول الحقيقة!»

يبقى أنّ مرجع شخصية الانسان الناضج مرتبط بشكل وثيق بتكوين شخصيته المستقلة منذ الولادة وحتى الثالثة من عمره، إثر بداية الطفل بالتفاعل مع الآخرين، لتتكوّن شخصيته الإجتماعية وقيمه وحسّه الإدراكيّ، ما يخلق عنده دافعاً داخلياً للتفريق ما بين الصواب والخطأ والخير والشر. هذا ما تؤكّده شديد: «أحياناً لا يكون الكذب نابعاً من خبث أو أذيّة أو مشكلة نفسية، بل يكون طريقة بسيطة لتفادي العواقب الوخيمة، أو خوفاً من إكتشاف الحقيقة».

 كذبة بيضاء

 من منا لم يطلق ولو «كذبة بيضاء»؟ ألا تخفي كلّ إمرأة بعض جوانب حياتها عن شريكها؟ مَن من الرجال لا يكذب على زوجته لتفادي العراك والمساءلة؟ من من الأولاد لا يكذب على أهله أو في المدرسة أو على الرفاق؟... إنّ كلّ هذه الأكاذيب تصنف بسيطة ولا تؤذي مبدئياً، بل من شأنها تلطيف الأجواء وتسهيل العلاقات اليومية. لا مجال أحياناً للتهرّب من مناسبة أو من عمل أو من زيارة سوى بتلفيق «أكذوبة» صغيرة بمثابة ذريعة واهية لنجاة صاحبها من المأزق. ترى شديد انّ: «المجتمع الذي نعيش فيه يؤثر على الناس، وخاصة على الأطفال. فقبل السابعة من العمر، لا يميّز الطفل بين الحقيقة والكذب. وقد ينشر أكاذيب بسيطة، بتشجيع من الأهل الذين يعتبرونه ناضجاً وذكياً وقادراً على التخلّص من الورطة! ما من محاسبة بل دعم وتشجيع. تظهر المشكلة فور تفاقم الأمور واتساع الخلل في التصرّف».

يقلّد الطفل ما يراه متمثلاً بأهله. حين يكذبون أمامه متساهلين في العقاب تكون النتيجة تلبية غرائز ورغبات تتماشى إلى حدّ ما مع حدود المسموح والمرغوب التي تكون مطاطة نظراً إلى موضوع الكذب. لذا من شأن عدم التشدّد في قول الحقيقة والامتناع عن التلفيق والكذب أن يتعدّى الكذبة البيضاء إلى شهادة الزور!

 عواقبه

 تنوّعت الأسباب والأشكال والنتيجة واحدة: يولّد الكذب علاقات اجتماعية ونفسية مضطربة وسيئة. في كثير من الأحيان يشعر الكاذب برغبة ملحّة وحاجة دفينة إلى غضّ النظر عن الواقع فينشر الأكاذيب، غير مدرك مدى البحث عن صورة يُقبل فيها في محيطه. تشير شديد الى: «انّ الأشخاص القليلي الثقة بنفوسهم يحتاجون إلى هويّة اجتماعية فيُقدمون غالباً على الكذب. قد يصل الأمر إلى الكذب المرضيّ الذي يشوّه العلاقات الإنسانية والمهنية والعائلية والإجتماعية، إذ يفقد الشخص مصداقيّته واحترامه ويُفضح أمره فتتزعزع علاقاته».

 أنواعه

 يعني الكذب بعامّة عدم قول الحقيقة! لكن تختلف أنواع الكذب ويمكن تصنيفها في فئات ثلاث:

• الكذب الذي يحقق غاية ويهدف إلى تفادي مشكلة أو الهروب من عقاب أو الحصول على مطلب. هذا النوع منتشر بين الجميع ولا يشكّل عائقاً، يحوّر في التفاصيل أو يتغاضى عن قسم منها من دون الإساءة وإلحاق الأذية.

• الكذب الاجتماعيّ الذي ينتج من حاجة إلى إختراع شيء ما للتأقلم داخل المجتمع والتكيّف مع الآخرين. منتشر بكثرة بين المراهقين الذي يبحثون دوماً عن هويّة اجتماعية فينسجون بعض الأكاذيب لتتناسب مع الجوّ ليندمجوا فيه.

• الكذب المرضيّ الذي هو أخطر أنواع الكذب ويكون «المريض» مصاباً بهاجس اختراع وتركيب روايات لا صلة لها بالواقع لصنع صورة مثالية يريدها، تنتج من نقص عاطفي مبكّر وخطير. في مرحلة ما لا يعود قادراً على التمييز ما بين الحقيقة وأكاذيبه الخاصة، فيصدّق ما ألفه ويعيش مضطرباً في حالة ضياع.

 علاجه

 من يعش في بيئة بائسة يمل الى الكذب أكثر من سواه فيعانيِ اضطرابات في العلاقات. إنّ محاولة قول الحقيقة مهما كانت عواقبها تبدأ بجرعات بسيطة واقعية. تختم شديد: «يؤدي الكذب المرضي أحياناً إلى ارتكاب جنح أخرى كالتزوير والاحتيال والنصب والشهادة زوراً، ولا يتوقف الشخص من تلقاء نفسه بل يحتاج الى مساعدة. لذلك يكون العلاج عبر التحليل والاستماع والمشاركة والعلاج النفسي، وهذا يتطلّب جهداً ووقتاً ومثابرة».

يجب ألاّ نشجع الاولاد منذ صغرهم، على اختلاق الأمور وطمس الحقيقة وتأليف الأكاذيب، بل مواجهة الصعاب دائماً، بالطريقة الفضلى: الصدق والأمانة والحقيقة...

back to top