هل خان ناسك الشخروب عهد الصداقة؟ رسائل مثيرة بين نعيمة والريحاني...محورها جبران خليل جبران

نشر في 07-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 07-08-2007 | 00:00

بعد أكثر من سبعين عاماً على صدور كتاب الأديب والمفكر ميخائيل نعيمة عن حياة صديقه جبران وأدبه وفكره وخصوصياته تحت عنوان «جبران خليل جبران» كاشفاً فيه أموراً حميمة عن صديقه، ما زالت هناك حوادث وحقائق مطوية ومتوترة في علاقة الرجلين، كان الكاتب الكبير أمين الريحاني طرفاً في جزء منها. صدور الكتاب شكَّل مناسبة لتفجير خلاف كبير استحكم طويلاً بين كبيرين نهضويَّين في الفكر والأدب اللبناني ــ العربي ــ العالمي. (نشرا بالانكليزية في أميركا كتباً عديدة ترجمت الى العربية والفرنسية والروسية والإسبانية...).

في ذلك الحزيران من العام 1934 صدّر نعيمة كتابه عن جبران «باعتذار» جاء فيه: «ترددت كثيراً قبل أن أقدمت على وضع هذا الكتاب، لأني لست أؤمن بأن في الناس من يستطيع أن يصف في حياته، حتى لحظة واحدة بكل ما فيها من معانٍ مشتبكة بمعاني الحياة الكونية... وأنا قد وقفت على البعض من أسرار جبران وفاتني منها الكثير، فهل يليق إلاَّ أبوح ببعض البعض الذي أعرفه؟ وإن أنا كتمته فما معنى الذي أكتبه؟ أأخون نفسي والقارئ وجبران بكتمان ما ليس مكتوماً في سجل الحياة الكبرى؟».

سجل الحياة

ذات يوم مطلع الثمانينات ــ من القرن الماضي ــ في لقاء مع صديقي الأديب الراحل جورج مصروعة، وكان الحديث يدور على صديقه الأديب الكبير أمين الريحاني وعلاقته بجبران وبنعيمة، راح مصروعة يتذكر: «في صباح من شتاء 1935، دخلت الى غرفة أمين الريحاني في بيته على كتف وادي الفريكة (قرية الريحاني في جبل لبنان) فإذا هو مضطرب مغتاظ، بادرني: «هل قرأت كتاب «ميشا» (ميخائيل نعيمة) في جبران؟» قلت: كلا، ما الخبر؟ قال: «يا أخي هذا لا يجوز، ميخائيل ألقى الأضواء على شؤون خاصة حميمية هي ملك جبران وحده!» قلت: «لعله بدافع الأمانة للتاريخ!» أجاب الريحاني: «وهل الأمانة تقضي بنشر المبتذل؟ وهل يكون مؤرخ ملكة بريطانيا فيكتوريا، مثلاً، أميناً للتاريخ إذا افتتح سيرتها بما تعمل في الفراش والحمّام؟! إذاً قل معي أنّ ميشا أخطأ، ومن الواجب أن يعلم قبل سواه... ثم سكت الريحاني فأدركتُ أنه حسم أمراً...». ثم تطلع جورج مصروعة صوب مكتبته، وأخرج منها رزمة صحف قديمة، تناول منها عدداً من جريدة «البلاد» البيروتية، الصادرة بتاريخ 6 كانون الثاني 1935 وفي صدر صفحتها الأولى عنوان كبير: «من أمين الريحاني الى ميخائيل نعيمة». كتاب مفتوح بصياغة تعمّد فيها الريحاني نقد نعيمة بشدة وقساوة. جاء في النص: «أخي ميخائيل حفظه الله، تفضّلت فاهديتني نسخة من كتابك «جبران خليل جبران» فأشكرك، وأدعو لك بالمزيد من الإثمار الأدبي. ولكني رأيت في جذع شجرتك أثراً للسوس، أخشى عليها منه (...) لقد بان لي وأنا أطالع الكتاب أنك ما أشفقت على أبدك من أنانيتك، ومما أمسى عندك، على ما يظهر، شبه مهنة! فأنت الداعي لمبدأ الحلول والتوحيد الكلّي، ولا أنانية تستقيم معها أو تدوم (...) فكيف أوفِّق بين هذا النبل فيك وبين ما كتبتَ في صديقك وحبيبك جبران؟!

فهلاَّ خشيت أن تقع في ما تعيب جبران، وأنت تحاسبه في الكبيرة والصغيرة، الظاهرة والخفية من أعماله الشخصية والأدبية؟ ما كان أغناك عما كتبت في الصفحات (63 ـ 64 ـ 104 ـ 105 ـ 116) فتكشف الستار بيد التعسف عن أمور هي تافهة، أو هي محض شخصية لا يجوز نشرها على الملأ! ومن قال لك ما «قال جبران في قلبه؟» لقد وثق جبران كل الثقة بك يا ميخائيل، وكان يحيّي فيك «القلب الكبير والروح الطيبة»، أفما كان أجدر أن تسدل ستاراً على معايب أخيك الشخصية؟ وجل من لا عيب فيه! أنت تعلم أني لم أكن قريباً من جبران قربكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته، ولكني عرفته قبل أن عرفتموه، وأحببته قبل أن أحببتموه! أني أحفظ أطيب الذكريات لحب نشأ بيني وبين جبران في باريس ولندن، ونما في شارعين متقاربين في نيويورك، وعرف شيئاً من مكنونات قلبين غريبين في بلاد الغربة... وأذكر من تلك الأيام الجميلة، كيف كنا، جبران وأنا نأكل في لوكندا صغيرة وحقيرة في «الافنيو» السادس في نيويورك، أوائل القرن (العشرين) ذلك الجحيم في قتامه وازدحامه وضجيجه، ثم نعود الى كوخي أو صومعته، فنجلس على ديوان المجد المفقود ونلعن كل ما في الوجود، ثم نسكر بمقال كتبناه، أو قصيدة نظمناها، فنرتّل الآيات في مديح رب الكائنات، ونبيع نيويورك ثانية بخمسة وعشرين دولاراً!!!».

«عندما أذكر ذلك يا ميخائيل، لا أذكر غير حب صاف كصفاء الغجر، ونظرات الأطفال والأنبياء، وجهاد أدبي حلمنا في سبيله أنواراً من هياكل قديمة (...) لا دفاعاً عن الحب والصداقة، فبأسمها أقول: لقد أخطأت... سامحك الله.

وقبل أن أختم هذه الرسالة أقول كلمة أخيرة: أني معجب بأدبك يا ميخائيل، فأوده منزها عن كل ما يشوبه من الأنانية الجارحة ومن الاسترسال في التحقير والتزييف (...) لولا هذه الآيات لما كان في كتابك أغوار وادغال. أما القنن العالية كفصل «المصطفى» وفصلك في مدينة نيويورك، فأني أقف أمامها اعجاباً واجلالاً (...)

 

بيروت في 5 ك 2 1935.أمين الريحاني

وجاء رد ميخائيل نعيمة سريعاً وقاسياً، فأضاء على مشهد أدبي ـ سياسي لخلاف بين الريحاني ونعيمة وكان الريحاني عرض على ميخائيل نعيمة المشاركة في جهاده لتحرير لبنان من الانتداب الفرنسي، فرفض نعيمة يومذاك لعدم اقتناعه «بالتراتبيات»، وبأن «الحرية التي ينشدها للبنان ليست في دساتير الممالك...».

الصداقة

في 14 كانون الثاني من العام 1935 نشرت صحيفة «البلاد» البيروتية رد ميخائيل نعيمة على أمين الريحاني، ومما جاء فيه: «... أنت تعلّمين كيف تكون الصداقة؟ وماذا يتوجب على الصديق أن يكتب في صديقه؟ وتذكرني «بصداقة» قديمة كانت بينك وبين جبران؟ ألا أعذرني يا أمين، أعذرني إذا ما قلت لك، بصراحة ما بعدها صراحة، أني لو كنت أجهل من الصداقة حتى الألف باء، ولم يكن في الأرض معلّم سواك، لما رضيت أن أدرسها عليك! تقول لي في رسالتك: «أنت تعلم أني لم أكن قريباً من جبران قربكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته». بلى يا أمين. لقد كانت بينك وبين جبران صلة في بدء نشأته الأدبية، صلة ما أظنها بلغت حدّ الصداقة. لكن جبران، بعد أن بلغ أشدّه في أدبه، نبذك من حياته، وأني مذكّرك، وما أنت بالناسي، بليلة رفع عصاه فوق رأسك، ولو لم يتداركه بعض الحاضرين، لما كنتَ اليوم في عداد الأحياء! منذ تلك الليلة، وقد غمرتها أمواج أربع عشرة من السينما، لم يرَ جبران لك وجهاً ولا وقع بصرك على وجهه... مات جبران وأنت لا ترى في أدبه أكثر من «عاطفة مائعة كريهة المذاق»...

(...) أنت لم تحسن قراءة كتابي، يا أمين، فأنا ست اعتقد أن في الحياة الكبرى أسراراً، ويأبى عليّ ذوقي الفني أن أصوّر حياة جبران من نور صاف أو ظل كثيف، لأنها لم تكن ذاك وحده ولا هذا وحده (...) فلو أحسنت قراءة المقدمة لسمعتني أقول: «أجمل ما في حياة جبران هو صراعه المستتب مع نفسه لينقّيها من كل شائبة... فجبران من الذين حلموا الحلم وأفسدوه بمرارة أهوائهم الأرضية. وجبران لا يخفي ذلك، بل يعلنه في كتاباته ويقول أنه «سيعود» الى العالم هذا، لينقّي حلمه من كل حرارة، وأني أذ أجهل حياة جبران قبل أن عرفته، تراني أطلقت على ذلك القسم منها اسم «خيالات»... خيالات بشريّ وخيالات بوسطن(...).

بقي عليَّ أن أشكر لك، يا أمين، جميل اهتمامك «بشجرة» أدبي. فأنت قد رأيت في جذعها أثراً للسوس، وما ذلك السوس الاّ «أنانيتي»، وأنا ما كنت أفقه لتلك الأنانية معنى، لولا حديث حدّثتنيه منذ أسابيع في بيروت، عرفت منه أنك تريدني شريكاً لك في «جهادك» السياسي، وأنك لا تفهم كيف يمكن أديباً مثلي أن يحبّ بلاده ويخدمها من غير أن يعمل على تحريرها من «الفرنسيس»... (تعبير كان الريحاني يطلقه على الانتداب الفرنسي على لبنان والمنطقة العربية).

فكيف لي أن أبيّن لك أن الحرية التي انشدها لبلادي ولكل بلاد، ليست في دساتير الممالك ولا معاهدات الدول؟ وأن القيود التي يرسف فيها العالم هي قيود لا تفكّها المناورات والمماحكات والطلاسم السياسية، هي شياطين في النفس لا خارجها. وفرنسا ولبنان وسواه، من هذا القبيل سواء!!!

وأنا، نيتي هي أنني أسلك إلى حريتي سبيلاً مقفراً من الرفاق، وحيثما عثرت فيه على آثار أقدام تكاد لا تبصر، خضّبتها بدم قلبي ومشيت.

سر في طريقك، يا أمين، وأنا سائر في طريقي. وطريقي وطريقك لن يلتقيا، حتى في فضاء أينشتاين!!!

بسكنتا «كانون الثاني 1935» ميخائيل نعيمة.

رحل جبران، رحل الريحاني، رحل نعيمة، ومعهم همومهم... وكانت اهتمامات عصر، لا تشبه في شيء عصرنا الحديث... زمان كانت الصحيفة يتصدّر صفحتها الأولى عنوان كبير حول حوار ساخن ــ أو بارد ــ بين أديبين! يبدو الأمر سوريالياً كأنه من كوكب آخر... أنه زمن آخر. «الزمن السياسي»، بحساباته واقتصاده وحروب نفطه وغزواته واحتلالاته والجرائم وتدمير بيئة كوكب الأرض...

أنها «قيم» أخرى... نقيضة!

ذات يوم، نزل عسكري فرنسي على شاطئ النورماندي ومعه رجال وسيوف وبيارق وأشرعة وصفحات من مبادئ الثورة في حقوق الشعوب... قطعوا الأطلسي صوب أميركا لمناصرة الحرية والاستقلال، كرمى لعين الديمقراطية... النقية!

كان عصر لا فاييت!

back to top