الكويت من الإمارة إلى الدولة (10)

نشر في 19-06-2007
آخر تحديث 19-06-2007 | 00:00
 د. أحمد الخطيب في الحلقة العاشرة يواصل الدكتور أحمد الخطيب ذكرياته، فيتطرق إلى المراحل التي صاحبت إعلان استقلال البلاد، ومواقف الإنجليز من ذلك، وتداعيات تلك المواقف من الحركات الاصلاحية في دول الخليج العربي بشكل عام. وهنا يعرض الدكتور أحمد الخطيب أكثر من واقعة واكثر من موقف، يدلل فيها على الموقف السلبي الحقيقي للإنجليز من الحركات الاصلاحية بشكل عام.

ثم يتناول ما عرضته الصحافة البريطانية حول الموقف الإنجليزي من دولة الكويت، وضرورة منحها استقلالها، وقيام دستور فيها، خشية انزلاق الكويتيين إلى المد القومي العربي والفكر الناصري الذي اصبح سائدا في المنطقة.

كذلك يتحدث الدكتور في هذه الحلقة عن انتخابات المجلس التأسيسي، والخلاف الذي كان دائرا حول تقسيم الدوائر الانتخابية، حيث أصر عدد من أفراد الأسرة على تقسيم الكويت الى عشرين دائرة انتخابية، تنتخب كل دائرة عضوا واحدا، بينما كانت القوى الشعبية تنادي بدائرة واحدة، ثم جاءت صيغة وسط، وهي تقسيم الكويت الى عشر دوائر، تنتخب كل دائرة عضوين، ويعرض بعدها نجاحه في منصب نائب رئيس المجلس التأسيسي، وكيف لم يوضع له مقعد على منصة الرئاسة وكيف كانت الجلسات تلغى اذا غاب رئيس المجلس كي لا يرأسها نائب الرئيس.

الاسـتـقـلال والإنجليز والمجلس التأسيسي

حصلت الكويت على استقلالها يوم 19 يونيو 1961، وقد كان ذلك إيذاناً بإطلاق يد الكويت في ترتيب شؤونها الخارجية وخلافه. أما بالنسبة إلينا فقد كانت هذه فرصة لإيجاد كيان سياسي قادر على أن يؤدي دوراً إيجابياً في الإصلاح السياسي وتقوية الأمة العربية، وأن يكون كياناً داعماً لحركات التحرر في العالم.

كان العالم يشهد منذ عام 1959 مرحلة تاريخية مهمة سادت فيها موجة التحرر من الاستعمار بقيادة دول عدم الانحياز ودعم المعسكر الاشتراكي، وكان المد القومي والناصري هو السائد في المنطقة العربية مما شكل تهديداً خطيراً للمصالح الاستعمارية فيها وخطراً حقيقياً للأنظمة المعادية لهذا التيار. وكان واضحاًً حرج الموقف في الكويت، فحتى قبيل الاستقلال بقليل وجدنا أن بعض أفراد العائلة ممن كانوا عقبه أمام التطور مثل فهد السالم وعبدالله المبارك، قد اختفوا من المنافسة على السلطة في ظروف مختلفة.

فقد توفي الشيخ فهد السالم فجأة عام 1958 عندما كان في رحلة بحرية قرب الشواطئ السعودية. أما الشيخ عبدالله المبارك فقد أثير الكثير حول اختفائه المفاجئ قبيل الاستقلال بحوالي الشهرين بما يمكن تشبيهه بعملية إبعاد عن البلاد إذ استمر في المنفى مدة طويلة، وقد قيل الكثير حول أسباب رحيل عبدالله المبارك، وهل كان ذلك الابتعاد بإرادته أي أنه استقال ذاتياً وقرر مغادرة البلاد أم أنه أجبر على ذلك، فقد أكدت بعض الآراء أنه قرر الاستقالة والابتعاد لأسباب تشمل من ضمنها موقف الشيخ عبدالله السالم من محاولة عبدالله المبارك حل الإشكالات القائمة بين الكويت والعراق. كذلك يذكر ضمن ذلك خوف بعض الشيوخ منه بعد الاستعراض العسكري الكبير الذي أشرف عبدالله المبارك عليه، كذلك يذكر ضمن الأسباب أنه كان له موقف معارض لقانون الجزاء الذي لا يسمح بالضرب. أما ما أراه أقرب إلى الواقع فهو تراكمات كانت في مجملها تتلخص في الموقف السلبي والمضايقات التي كان يقوم بها عبدالله المبارك ضد الشيخ سعد العبدالله، فمن المعروف أنه كان قد تم دمج الأمن العام والشرطة في جهاز واحد في فبراير 1958 إذ أصبح عبدالله المبارك رئيساً للجهاز الجديد بينما أصبح الشيخ سعد العبدالله نائباً له، أما رئيس الشرطة الشيخ صباح السالم فقد أصبح رئيساً لدائرة الصحة. وقد كان مدير الأمن عبداللطيف ثويني على علاقة سيئة بالشيخ سعد العبدالله، وقد شهدت ذلك أكثر من مرة عندما كنت في مكتب الشيخ سعد العبدالله، وقد تطور الأمر كما أخبرني الشيخ سعد العبدالله نفسه بأن يقوم ثويني بالتجسس على سعد ذاته. وقد أدى ذلك الأمر إلى قيام سعد بفصل ثويني وإيقافه عن العمل، لكن عدداً من الشيوخ وتحديداً الشيخ محمد الأحمد وسمو الشيخ صباح الأحمد توسطوا لدى الشيخ سعد العبدالله مما أدّى إلى إعادته إلى العمل، إلا أن عبدالله المبارك استمر في التضييق على سعد العبدالله بصورة غير مقبولة، مما دفع سعد العبدالله إلى إعلان عزمه على الاستقالة، وقد أدى ذلك وربما أسباب أخرى إلى أن يقوم عبدالله السالم بإبلاغ عبدالله المبارك بمغادرة البلاد فوراً ودون تأخير وذلك من خلال رسالة نقلها إليه حمد الصالح الحميضي، وقد عاب جلساء عبدالله المبارك عليه استجابته السريعة دون نقاش. وفي تقديري وبغض النظر عن أي أسباب أخرى فإن موقفه من سعد العبدالله كان هو السبب الرئيس لإبعاده عن البلاد.

أما الإنجليز، دولة الحماية، فقد كانت الكويت مهمة جداً لهم، فمعظم استهلاك بريطانيا من النفط يأتي من الكويت، وكانت كل أرصدة الكويت مودعة بالجنيه الإسترليني في بريطانيا. كانوا يهتمون كثيراًً باستقرار الوضع والحفاظ على الامتيازات التي يتمتعون بها. وكانوا قلقين لتردي الأوضاع الداخلية في الكويت وتصرفات بعض أفراد الأسرة الحاكمة التي أخذت تثير السخط عند الكويتيين; فمثلاًً اتصل بي الدكتور بيتر ويلسون وهو يعمل في المستشفى الأميري وكانت تربطني به صداقة زمالة ونقل إليّ رسالة من المعتمد البريطاني يقول فيها إنه يشاركني قلقي من تصرفات بعض الشيوخ، وقال إنه مكلف من الحكومة البريطانية بأن أطلب إليك أن تضع قائمة بأسماء الشيوخ الذين ترى أن وجودهم في الكويت يعرقل عملية الإصلاح، وتوقع عليها مع اثنين من الكويتيين وهم مستعدون لينفوهم إلى الخارج.

الحقيقة أنني صعقت من هذا الكلام والتدخل الصارخ في شؤوننا الداخلية فقلت له: يجب أن يعرف أن الصباح كويتيون وأنا كويتي، والكويتيون قد يختلفون بعضهم مع بعض إلا أنهم يحلون مشكلاتهم بينهم ولا يمكن أن يسمحوا للأجنبي أن يتدخل في شؤون الكويت الداخلية، لأن ذلك يرقى إلى مستوى الخيانة. وكان هذا الرد هو سبب مقاطعة السفارة البريطانية لي بعدها، حتى إنني عندما كنت نائباً في المجلس لا أدعى إلى احتفالات السفارة كبقية النواب وإلى يومنا هذا.

بالطبع لم أخبر أحداً بذلك إطلاقاً لأن مجرد بحث الموضوع أعدّه خيانة.

ولا أستبعد أنهم اتصلوا بكويتيين آخرين غير أني أتوقّع أن يكونوا قد تلقوا الجواب نفسه.

 

الإنجليز ومحاربة الإصلاح

 

هذا العرض الغريب جعلني أتمعن في سياسة بريطانيا في الخليج، وأستعرض مواقف البريطانيين من الحركات الإصلاحية في المنطقة، فهم حكام المنطقة بلا منازع، ومشايخ المنطقة يعلمون أن بقاءهم في السلطة مرهون برضا «المعازيب» عنهم.

هذا يجعلني أعتقد أن ضرب الحركات الإصلاحية من قبل هؤلاء المشايخ هو بتدبير من البريطانيين. لماذا؟ دعونا نستعرض بعض الوقائع التاريخية لنفهم الدور البريطاني أكثر.

الحركة الإصلاحية في البحرين عام 1956 لم تلاق معارضة من السلطات البريطانية، بل فهمها بعض المراقبين وكأنها تلقى التشجيع منهم، ولكن بعد أن قويت المعارضة قام النظام بضرب الحركة الإصلاحية بشدة على مرأى من السلطات البريطانية وبمشاركة من المستشار البريطاني، وهي التي قامت بنقل المساجين بسفنها الحربية إلى المنفى. لا بل شاهدنا موقفاًً متشدداً من إطلاق سراح زعماء المعارضة البحرينية المسجونين في سانت هيلانة. القضاء وحده في سانت هيلانة تحدى إجراءات الحكومة البريطانية وأطلق سراحهم.

الحركة الإصلاحية في الكويت عام 1938 لقيت التشجيع من السلطات البريطانية في البداية، ثم تفرجت على عملية ضرب هذه الحركة بقسوة أدت إلى مقتل اثنين وسجن آخرين وتشريدهم وإلغاء جميع نشاطات المجتمع المدني في الكويت.

كيف إذاً نفسر ذلك؟ أعتقد أن الجواب واضح. فبقاء هذه الأنظمة هو قرار بريطاني يضمن مصالح بريطانيا في المنطقة، وما دامت الأنظمة تعرف أن استمرار بقائها يعتمد على رضا البريطانيين، فهي مستعدة لأن تلبي جميع رغبات هؤلاء. أما مصلحة شعوب المنطقة فهي لا تدخل في اهتمامات الحكومة البريطانية كما أكد ذلك وزير الدفاع البريطاني بروفيمو ليوسف الشيراوي عندما كان الشيراوي مدعواً إلى حفل عشاء أقامه المستشار بلغريف على شرف وزير الدفاع البريطاني آنذاك بروفيمو، وقد جلس الشيراوي إلى جانب وزير الدفاع، وخلال الحديث سأله لماذا لا تستغل بريطانيا نفوذها في البحرين لإقناع الحكام بإجراء إصلاحات وإشراك الشعب في الحكم، خاصة وأن البحرين كانت تعاني أزمة سياسية وعدم استقرار. وكان جواب الوزير البريطاني ذا دلالة كبيرة إذ قال للشيراوي: «نحن لا يهمنا ما يجري في البحرين أو غيرها من دول الخليج، ما دام الوضع في السعودية مستقراً فهو الأمان، وإذا انهار هذا النظام ما علينا سوى الرحيل». وهنا تتضح اللعبة البريطانية في المنطقة، هم يراقبون كل حركة إصلاحية في المنطقة، فإذا اعتقدوا أنها ربما شكلت خطراً حقيقياً لهم قاموا بتشجيعها حتى تبدو أنها تشكل خطراً على النظام، وعندها يشجعون النظام على القضاء على هذه الحركات الإصلاحية بمباركتهم ودعمهم، فلا يلطخون أياديهم بدماء هؤلاء المصلحين ولا يتحملون أية مسؤولية سياسية أو إنسانية عن هذه الجرائم، وهكذا يظهرون أنفسهم أمام شعوبهم وأمام العالم بأنهم أبرياء.

وهنا لا بد من التعرض لمقابلة تلفزيونية تثير الاشمئزاز بثتها محطة Discovery قبل سنوات مع القنصل البريطاني المتقاعد لعُمان، فمقدم البرنامج سأل القنصل: كيف سكتّم عن سياسة سعيد بن تيمور في منع التعليم والعلاج الطبي في السلطنة؟ فرد قائلاً: إننا لم نسكت فقد أثرت هذا الموضوع معه، فقال لي السلطان: أنا منعت العلاج في السلطنة لأننا دولة فقيرة لا تتحمل الزيادة في السكان، ومعالجة المرضى تساهم في زيادة السكان مما يزيد في إفقار الشعب، أما منع التعليم فقد تعلمته من تجربتكم في الهند فأنتم سمحتم بالتعليم هناك مما خلق مجتمعاً هندياً متعلماً مكنه من طردكم من بلاده، وأنا لا أريد لهذه التجربة أن تتكرر عندي. هذا هو رد القنصل البريطاني المتقاعد الذي يقول إنه لا حول له ولا قوة على سعيد بن تيمور. والحقيقة أن هذه السياسة كانت تلقى التأييد الكامل من بريطانيا، ولكن عندما بدأ الشعب بالثورة على هذه الأوضاع، ورأت بريطانيا أن هذه السياسة قد تهدد مصالحها في السلطنة، لم تتردد في إقصائه واستضافته عندها معززاً حتى وفاته! وهل هي مصادفة أن ذلك تم بعد اكتشاف النفط هناك؟

ومن طرائف سعيد بن تيمور أنه كان يمنع شعبه من استعمال النظارات الطبية وكذلك لبس الأحذية! وغير مسموح لأي شخص بالتنقل من مدينة إلى أخرى بغير تصريح منه شخصياً. وقد ذهلت عندما ذكر لي سفير باكستان في الكويت أن سعيد بن تيمور قد درس في الجامعة معه في الباكستان، فلم يكن جاهلاً لهذه القرارات الظالمة. فالخلاصة أن السياسة البريطانية هي تشجيع الحركات الإصلاحية التي ترى فيها خطراً على مصالحها حتى إذا بدأت تخيف المشايخ شجعتهم على القضاء عليها.

هذا الفهم حمانا من الوقوع في شراكهم الخبيثة.

في صيف 1958 نشرت بعض الصحف البريطانية والأمريكية مشروعاً أعدته وزارة الخارجية البريطانية للتعامل مع الوضع الخطير في الكويت، بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة والانقلاب الذي حصل في العراق والخوف من تأثير تلك الأحداث في الكويتيين، وهذا التقرير يتضمن ما يلي:

أولاً : ضرورة أن يستفيد المواطن الكويتي العادي من الدخل الكثير للنفط ولا يكون حكراً على فئة محصورة من الأمراء وبعض التجار.

ثانياً : ضرورة أن يشارك الشعب في السلطة.

ثالثاً : إعطاء الكويت الاستقلال تمشياً مع موجة التحرر السائدة في العالم التي لها صداها في الكويت وخصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر.

وعند تنفيذ هذا المخطط لن تكون للكويتيين رغبة في التغيير مقارنة بالأوضاع المجاورة، مما سيشكل سوراً يحميها من حمى الوحدة العربية، فستكون عندها دولة مستقلة وديمقراطية، ويعيش الكويتيون في بحبوبة يحسدون عليها مما يشكل حماية للوضع وبالتالي تضمن بريطانيا مصالحها في الكويت.

إلا أن الصباح لم يقبلوا بالمشاركة في الحكم، كما أنهم يعلمون أن الكويت دولة صغيرة بين دول أكبر منها لها أطماع في الكويت، وهي غير قادرة أن تحمي نفسها فلا بد من وجود حماية أجنبية. وقد اتضح أن عبدالله السالم كان يحث الإنجليز على إعطاء الكويت استقلالها إلا أنه مع ذلك كان يرى أن الحماية ضرورية مما يفرغ الاستقلال من محتواه.

أما موضوع إيصال ثروة النفط إلى بقية أفراد الشعب فكان اقتراحاً مقبولاً بالنسبة إلى النظام ضمن حدود معينة، فوضع قانوناً للموظفين وأقر التقاعد، وكان التوسع في بناء بيوت لذوي الدخل المحدود وتوزيع قسائم وقروض لمتوسطي الدخل، والتوسع والسخاء في تثمين الأراضي... إلخ.

كل هذا لم يخفف مطالبة الناس بالمشاركة في الحكم لوقف الفساد ولم يحدّ طموح الناس في التحرر والاستقلال من السيطرة الأجنبية.

ولكن الإنجليز أصروا على تنفيذ مخططاتهم بالنسبة إلى الكويت، فاتصل المعتمد البريطاني ببعض الكويتيين وأخبرهم بأن المعارضة البريطانية سوف تطالب الحكومة البريطانية بإعطاء الكويت استقلالها وتحولها إلى دولة ديمقراطية، وعندها ستكون الحكومة البريطانية مضطرة إلى إعطاء الكويت استقلالها مما يرفع الإحراج عنها أمام الصباح، وهو دور اتفق عليه بين الحكومة البريطانية والمعارضة كعادة البريطانيين في معالجة الأمور الأمنية الحساسة.

ومعروف أن هناك اجتماعاً أسبوعياً سرياً بين رئيس الحكومة البريطانية وزعيم المعارضة تُبحث فيه المسائل المهمة التي تتعلق بالمصلحة العليا، ويتم الاتفاق على طريقة معالجتها. هذا الاجتماع الدوري بين رئيس الحكومة وزعيم المعارضة يعدّ جزءاً مهماً من دستور بريطانيا غير المكتوب لا يجوز المساس به. حتى إن تاتشر في إحدى المرات وفي حالة غضب من زعيم المعارضة هددت بوقف هذا الاجتماع، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن هذا التهديد لردود الفعل العنيفة التي سببها هذا التصريح الطائش.

 

الوثائق البريطانية

 

في محاضر جلسات مجلس العموم نجد ما يؤكد التفاهم بين الحكومة البريطانية والمعارضة، ففي جلسة مجلس العموم بتاريخ 1961/6/19 أثار السيد Mr. Brochway في بند الأسئلة أهمية الديمقراطية في الكويت، فأجابه مستر هيث Mr. Heath رئيس مجلس الوزراء بأن الأمير بدأ باتخاذ بعض الخطوات في هذا الاتجاه ونحن نشجعه على ذلك.

ولعله يفيد أيضاً أن نقرأ النقاش الذي دار بين زعيم المعارضة مستر جيتسكل Mr. Gitskell ورئيس مجلس الوزراء هيث Mr. Heath في بند الأسئلة بجلسة 1961/7/3، حول أهمية أن تساهم الكويت مالياً في تمويل المشاريع التنموية في البلاد العربية، مما يدعم تحرك الكويت من أجل حصولها على الاعتراف باستقلالها، ورد رئيس الوزراء بأن ذلك قد بدأ فعلاً من قبل حاكم الكويت.

أدى عبدالكريم قاسم دوراً مهماً في تنفيذ هذا المخطط الذي طالب بضم الكويت إلى العراق ناظراً إليها على أنها ليست دولة إنما هي مشيخة وتحكم قبلياً، مما جعل مجلس الأمن يتردد في الاعتراف بالكويت، وكذلك الموقف السوفييتي.

في هذه الفترة جاءني الصديق محمد أحمد الغانم، وقال لي إن أخاه يوسف أحمد الغانم الذي له علاقة جيدة مع الأوساط الحاكمة في بريطانيا قد وصل من لندن ومعه رسالة من الحكومة البريطانية إلى عبدالله السالم تحثه على العمل لقيام نظام دستوري في الكويت، بدل النظام العشائري كما يقول عبدالكريم قاسم لتسهيل مهمتها في دعم الكويت. وطلب أن أتعاون معه في إعداد مذكرة إلى عبدالله السالم لحثه على قبول المشاركة الشعبية في الحكم، إلا أنني اعتذرت، وقد علمت وقتها أن الخبر قد انتشر وقامت بعض الشخصيات الكويتية بإرسال مذكرات إلى عبدالله السالم تنصحه بالعمل على المشاركة في الحكم. فالاستقلال والدستور جاءا بسبب الوضع الشعبي المطالب بالاستقلال والمشاركة في الحكم ودور عبدالله السالم في إقناع العائلة بذلك.

والجدير بالذكر أن النشرة السرية لمجلة Economist قد ذكرت أن بريطانيا هي التي أقنعت دول حلف بغداد بعدم التدخل لإفشال ثورة 14 تموز 1958، بعد أن تم حشد قوات حلف بغداد بما فيها القوات الأمريكية لدخول العراق، عندما أكدت أن الوضع تحت السيطرة ولا داعي للقلق. وقد ذكر لي د. عبدالله النفيسي أنه التقى السفير البريطاني الذي كان في بغداد في تلك الفترة، همفري تريفيليان - وهو متقاعد الآن - في إحدى حلقاته التلفزيونية «المائدة المستديرة» وتحدث السفير مطولاً عن علاقته الحميمة بعبدالكريم قاسم، واللافت للنظر أن الحكومة الكويتية منعت إذاعة هذه الحلقة من تلفزيون الكويت.

ومع أننا نعدّ الاستقلال والمشاركة الشعبية في الحكم هما أهم أهدافنا في الكويت، فإننا أصدرنا بياناً باسم حركة القوميين العرب في الكويت وليس باسم الأندية كي لا نحرج غيرنا، يؤكد إيماننا بأننا جزء من هذه الأمة وسنعمل على إفشال محاولة الإنجليز التي تهدف إلى عزلنا عن أمتنا العربية بتأكيد هويتنا العربية، ورأينا أن الاستقلال والديمقراطية هما من أسلحتنا في تحقيق ذلك على عكس ما يريده البريطانيون.

المجلس التأسيسي ومشروع الدستور

 

وعلى أية حال وبغض النظر عن التوجه البريطاني، فللكويت كما أسلفنا شخصيتها الخاصة، وإمكاناتها الذاتية في التحرك نحو الانفتاح السياسي. ولذا واستناداً إلى عناصر عدة انطلقت الكويت لتأسيس نظام ديمقراطي دستوري كما سيأتي لاحقاً. أما الخطوة التي سبقت ذلك فقد كان تحديد عدد الدوائر الانتخابية كما يذكر الدكتور غانم النجار في كتابه «مدخل للتطور السياسي في الكويت» بأنه تمّت الدعوة لانتخاب 20 عضواً للمجلس التاسيسي، ولم ينس المشرع إصدار قانون يحكم الفترة الانتقالية وهي الفترة التي يتم فيها المجلس التأسيسي مداوالاته ويصادق بعدها الأمير على الدستور. إن إصدار قانون الفترة الانتقالية بحد ذاته كان خطوة متقدمة وتنم عن توجه جاد من قبل الحكومة، إلا أنه كانت هناك نقطة خلاف رئيسة بين الحكومة من جهة وبين ما يمكن تسميته بالقوى الشعبية من جهة أخرى. كانت نقطة الخلاف الرئيسة تلك تدور حول عدد الدوائر الانتخابية التي سيجري على أساسها الانتخاب للمجلس التأسيسي، فقد كان للأسرة الحاكمة وجهة نظر أن يتم تقسيم الكويت إلى 20 دائرة انتخابية يتم فيها انتخاب فرد واحد عن كل دائرة، بينما كان إصرار الجانب الشعبي على أن تكون الكويت دائرة انتخابية واحدة، وبعد شد وجذب حول هذه النقطة تم التوصل إلى حل وسط وهو 10 دوائر انتخابية يتم انتخاب شخصين عن كل دائرة. وهكذا جرت انتخابات المجلس التأسيسي في 30 ديسمبر 1961 وخاض تلك الانتخابات 73 مرشحاً.

 

التعيين أم الانتخاب؟

 

اقترح المجلس الأعلى أن تتم توسعة أعضاء المجلس المشترك (½ المجلس الأعلى + اللجنة الاستشارية) بالتعيين ليكون هو المجلس التأسيسي. إلا أن الأعضاء من المجلس الاستشاري رفضوا ذلك وأصرّوا على أن تجرى انتخابات عامة لمجلس تأسيسي يضع الدستور. وتم لهم ذلك.

وقد خضت الانتخابات في مقر سكني وهي الدائرة الثانية وتشمل كل من الشويخ والصليبخات وقرية الجهراء. الشويخ حي أرستقراطي والصليبخات ضاحية فقيرة والجهراء قرية اشتهرت بمعركة صدّ قوات الوهابيين السعودية وكان هدفها محاربة أهل الكويت الكفرة كما يقولون وضم الكويت إلى المملكة السعودية. تحالفت مع عبدالله اللافي من قرية الجهراء وهو من قبيلة شمر وفزنا في الانتخابات وقد اقتصرت تحضيراتنا على زيارة بعض الدواوين وعائلات في المنطقة. لم نعرف وقتها الاجتماعات ولا طرح البرامج المتكاملة أو أي شكل من أشكال الدعاية. كذلك لم تكن هناك مشاحنات بين المرشحين.

كانت الانتخابات هادئة جداً ونظيفة. فهي أول تجربة انتخابية عامة والجميع تقريباً ليست له خبرة في مثل هذه الانتخابات.

المجلس التأسيسي:

عقدت الجلسة الأولى بتاريخ 1962/1/20 وقد حضر عبدالله السالم الجلسة كما حضر الاجتماع الأعضاء المنتخبون والوزراء وهم:

- أحمد خالد الفوزان . - الدكتور أحمد الخطيب .

- جابر الأحمد الجابر الصباح. - جابر العلي السالم الصباح .

- حمود الزيد الخالد. - خالد عبدالله السالم الصباح.

- خليفة طلال محمد الجري. - سالم العلي السالم الصباح.

- سعد عبدالله السالم الصباح. - سعود عبدالعزيز العبدالرزاق.

- سليمان أحمد الحداد. - صباح الأحمد الجابر الصباح.

- صباح السالم الصباح. - عباس حبيب مناور المسيلم.

- عبدالرزاق سلطان أمان. - عبدالعزيز حمد الصقر .

- عبدالله الجابر الصباح. - عبدالله فهد اللافي الشمري .

- عبداللطيف محمد ثنيان الغانم. - علي ثنيان صالح الأذينة.

- مبارك عبدالعزيز الحساوي. - مبارك عبدالله الأحمد الصباح.

- محمد أحمد الجابر الصباح. - محمد رفيع حسين معرفي.

- محمد وسمي ناصر السديران. - محمد يوسف النصف.

- منصور موسى المزيدي. - نايف حمد جاسم الدبوس.

- يعقوب يوسف الحميضي. - يوسف خالد المخلد المطيري.

- مبارك الحمد الصباح (لم يحضر الجلسة) .

ثم ألقى عبدالله السالم خطاباً قوبل بالتصفيق الحاد والمتواصل:

 

 

حضرات الأعضاء المحترمين ،

السلام عليكم ورحمة الله،

باسم الله العلي القدير نفتتح الآن أعمال المجلس التأسيسي لدولة الكويت المستقلة، هذا المجلس الذي تقع على عاتقه مهمة وضع أساس الحكم في المستقبل.

لقد كان إعلان استقلال الكويت في التاسع عشر من شهر يونيو الماضي فاتحة عهد جديد للكويت التي ما عرفت منذ وجدت إلا الحرية والكرامة، وهذا مجلسكم يمثل دوراً من أدوار الرقي والتقدم المطرد في تاريخ هذه البلاد.

لقد كانت مصلحة شعب الكويت هي هدف الحكومة دائماً تسعى إليه بمختلف وسائل الإصلاح في جميع الشؤون العمرانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهذا التطور في حياة الكويت في هذه الحقبة القصيرة من الزمن لأكبر شاهد على ذلك.

وستستمر الكويت دائماً - بإذن الله - في طريقها الذي اختطته لنفسها، دولة عربية تتضامن مع شقيقاتنا الدول العربية في كل ما يعود بالخير على الأمة العربية، وتسعى جهدها إلى تدعيم الجامعة العربية.

دولة مستقلة تؤيد حق كل بلد في نيل حريته واستقلاله.

دولة محبة للسلام تسعى إلى إقراره وتؤيد كل ما يسعى إليه، متمسكة في كل ذلك بميثاق الأمم المتحدة.

وإني لأدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ هذه الأمة من كل سوء، وأن يسدد خطاكم ويعينكم على كل ما فيه مصلحة البلاد وأمنها ورخائها.

وأختتم كلمتي بالنصح لكم - كوالد لأولاده - أن تحافظوا على وحدة الصف وجمع الكلمة حتى تؤدوا رسالتكم الجليلة في خدمة هذا الشعب على أكمل وجه وأحسنه، والله ولي التوفيق.

 

 

بعد كلمات الافتتاح جرت انتخابات الرئيس ففاز بها عبداللطيف الثنيان الغانم بالتزكية وكنت ومنصور المزيدي المرشحين لمنصب نائب الرئيس بعد أن انسحب يعقوب الحميضي لمصلحتي بعد أن أصررت على ترشيح نفسي عندما لمست أن هناك اعتراضاً على ترشيح شخص عادي مثلي لاعتلاء المنصة وترؤس الشيوخ وعلية القوم. وكانت النتيجة كما يلي:

د. أحمد الخطيب 19 صوتاً

منصور المزيدي 10 أصوات

امتناع صوت واحد.

ومع ذلك فإن المفهوم العنصري الجاهلي تم تنفيذه بدقة، وظلّ هذا العرف مستمراً إلى يومنا هذا. فمنصة الرئاسة احتوت كرسياً واحداً للرئيس فقط، مما جعلني أجلس مع بقية الأعضاء، وعندما يمرض الرئيس تلغى الجلسة كي لا أترأس المجلس. ولما اجتمعت اللجنة المخصصة لتقدير مكافآت أعضاء المجلس قررت المكافأة للرئيس والأعضاء، ولما أثار أحد أعضاء اللجنة، يوسف المخلد، عن مكافأة نائب الرئيس، رد وزير المالية الموجود في اللجنة بأن مكافأته نفس مكافأة الأعضاء، وإذا أراد أكثر فليراجعني بالوزارة! معتبراً أن القرار بيده وليس بيد المجلس. وبما أن أعضاء اللجنة حديثو العهد بالعمل البرلماني تقبلوا كلام الوزير وعُدَّ قراراً للجنة.

ولمّا أخبرني الأخ يوسف المخلد بذلك لم أستغرب القرار; فالوزير شيخ وهو يتصرف كشيخ والأعضاء لا يعرفون صلاحياتهم فسكتوا، وبالطبع لم أثر الموضوع مع أحد لأنني لم أرشح نفسي للمكافأة وعاملتهم جميعاًً على «قد عقولهم» كما يقول المثل، فهم لا يعلمون بأنهم هم السلطة التشريعية التي تقرر مخصصات الأمير والوزراء ومن بينهم وزير المالية! وكل هذا أمر بسيط أمام المظهر الشاذ والمخجل الذي شاهدناه عندما بدأ الأعضاء يصلون إلى المجلس قبل الجلسة الأولى (جلسة الافتتاح). لقد وقف بعض الأعضاء في الطابور ليسلموا على الوزراء من الصباح وهم يقبّلون خشومهم ورؤوسهم، غير مدركين أنهم يمثلون السلطة التشريعية التي هي مسؤولة عن محاسبة كل الوزراء ومن بينهم الشيوخ. هذا المنظر دفعنا إلى الاتصال برئيس المجلس وطلبنا إليه إفهام هؤلاء الأعضاء بأن يحافظوا على كرامتهم وعلى كرامة الشعب الذي انتخبهم، ويتركوا هذه العادة، وهكذا كان.

وبعد انتخاب الرئيس ونائب الرئيس كان الرأي بتأجيل انتخابات اللجان حتى توضع اللائحة الداخلية، وانتخبت لجنة لذلك مكونة من سليمان الحداد ونايف الدبوس ويعقوب الحميضي.كان ذلك في الجلسة الثانية للمجلس، وفيها أثرت ضرورة علنية الجلسات، وعارض ذلك بعض الوزراء من الصباح وطالبوا بأن تكون سرية، ولكن بعد الإصرار تمّت الموافقة على أن تكون الجلسات علنيـة، على أن يتـرك لرئيس المجلس أن يجعل أي جلسة سرية إذا رأى في ذلك مصلحـة عامة.

ثم دار نقاش مطول حول اقتراح بعض الوزراء من آل الصباح بأن يشترك الوزراء في لجان المجلس وإصرارهم على ذلك باعتبارهم أعضاء في المجلس. وبعد شرح مطول من الخبير القانوني على أهمية فصل السلطات وعدم جواز اشتراك الوزراء في لجان المجلس تمت الموافقة على أن تقتصر لجان المجلس على النواب المنتخبين وتعطى اللجان الحق بأن تستدعي أي وزير مختص لإبداء وجهة نظره.

كما أثار كل من الشيخ سعد العبدالله والشيخ جابر العلي ضرورة أن يكون التصويت في كل الأمور علناً لمعرفة رأي كل نائب في كل موضوع، مما أثار الاستياء من بعض الذين رأوا في ذلك محاولة للضغط عليهم من قبل عائلة الصباح ففشل الاقتراح، وهو ما أثار غضب جابر العلي بشكل غير مبرر.

في جلسة 1962/3/3 وبعد إقرار اللائحة الداخلية تمّت انتخابات اللجان.

 

لجنة الدستور

 

كان الاتفاق أن تكون لجنة الدستور مشكلة من رئيس المجلس وأحد أعضاء الحكومة من الكويتيين والشيخ سعد العبدالله ويعقوب الحميضي عن المجلس، وتنتخب اللجنة بالإجماع إلا أن سعد العبدالله فاجأنا بالإيعاز إلى العضو سعود العبدالرزاق بترشيح نفسه ليخل في هذا التوازن، مما حدا بي أن أرشح نفسي كرد فعل على ذلك.

ومع أنني لم أنجح ودخل سعود العبدالرزاق اللجنة إلا أنه للأمانة لم يشكل أية مشكلة داخل لجنة الدستور.

تشكلت لجنة وضع الدستور من خمسة أعضاء: يعقوب الحميضي ونال 28 صوتاً، عبداللطيف ثنيان الغانم 26 صوتاً، حمود الزيد الخالد 25 صوتاً، الشيخ سعد العبدالله 24 صوتاً، سعود العبدالرزاق 17 صوتاً.

أما أنا فقد حصلت على 15 صوتاً.

لا أريد أن أستعرض أعمال المجلس ولجنة إعداد الدستور فليس هذا مكانه، إنما أريد أن أبرز المشكلات التي واجهتنا في إعداد هذا الدستور على الرغم من تواضع مواده التي أقرت.

back to top