ما الذي يجري في الكويت؟

نشر في 14-07-2007 | 00:06
آخر تحديث 14-07-2007 | 00:06
أصل النجاح وأصل الفشل واحد، فالنجاح يحتاج إلى فكرة سليمة وقرار سليم، بتوقيت مناسب، وتنفيذ ملتزم، ولو كانت الفكرة والقرار والتنفيذ سيئين، فالفشل هو الحصاد الحتمي.

ولو استعرنا دليلا من التاريخ، لكانت حكاية قناة بنما مناسبة، فقد كانت فشلا فرنسيا ذريعا، ونجاحا أميركيا باهرا، يومها أي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت العظمة لقباً أقرب إلى فرنسا منه إلى أميركا، فبعد أن منحت كولومبيا فرنسا حقا مطلقا لإنجاز بناء القناة، استعارت فرنسا رجلها فرديناند دليسيبس، الذي حقق للتو نجاحاً في إنجاز مشروع قناة السويس في عام 1879، وكان مبهوراً بنجاحه إلى حد فقدان توازنه، وبعد 8 سنوات من أصل 11 سنة، بلغت التكاليف نحو ضعف المقدر، ومن أصل 234.795 مليون دولار أميركي تم صرفها ما بين 1880و1888 لإنجاز 40 % من المشروع فقط، صرف ثلث التكلفة على المشروع، والثلث الثاني تم تبديده برعونة، والثلث الأخير سُرق، بعدها ببضع سنوات أُعلن إفلاس الشركة، وحكم على دليسيبس بطل قناة السويس وابنه بالسجن 5 سنوات، ولكن الحكم لم ينفذ لأن عمره حينها كان 88 سنة، وكان أحد الأسباب الرئيسية لفشل المشروع، بلوغ نسبة الوفيات لعمالته 24 % بسبب وباء الكوليرا والحمى الصفراء، وأعلى معدلات الموت كان في المستشفيات بسبب قرار تعيس بوضع قوائم الأسرة في أوعية ماء لمنع الحشرات من تسلقها، ولكنها كانت مرتعاً خصباً لتوالد البعوض.

وعندما باع الفرنسيون المشروع فاشلاً، بـ 40 مليون دولار أميركي فقط، الى الأميركان، أرسل الأميركيون فرقاً طبية لرش المبيدات الحشرية وتطهير المنطقة من الأوبئة قدر الإمكان. وبعد 11سنة من العمل بلغت وفيات الأميركان 5609، أي ربع وفيات الفرنسيين التي بلغت 22189 في 8 سنوات - وتم إنجاز المشروع كاملاً بعد توفير سنة كاملة من زمن الإنجاز، وتوفير 23 مليون دولار أميركي من تكاليفه، أساس الفكرة كان واحدا وهو ربط المحيطين الأطلسي بالهادي، وبينما فشل الفرنسيون في تطوير الفكرة، وفشلوا فشلاً ذريعاً في اتخاذ القرار الصحيح وفي وقته المناسب، وفشلوا أكثر في أسلوب التنفيذ، نجح الأميركيون نجاحاً باهراً، ولا عجب أن تتحول فرنسا بعدها إلى دولة من الدرجة الثانية، وتتسلق الولايات المتحدة الأميركية سلم العظمة.

الأمر (أي وحدة الأصل للنجاح والفشل) يشرحه مثالنا الأوسع حول عالمنا المعاصر، ففي القرن التاسع عشر ساد العالم الفكر الاقتصادي للمدرسة الرأسمالية، وفي أواخر ذلك القرن، ونتيجة افتقار ذلك الفكر إلى البعدين الإنساني والاجتماعي، ظهرت إلى الوجود مدرسة الفكر الاشتراكي التي مثلت تحديا رئيسيا للفكر الرأسمالي، وبلغ هذا التحدي أقصاه عندما وُضعت النظرية حيز التطبيق بعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وسقوط معظم الأنظمة البرجوازية في أوروبا نتيجة للحرب العالمية الأولى، وبينما مثل الفكر والتطبيق الجديدان عاصفة هوجاء هددت بزوال الفكر الرأسمالي، كان لابد من فكرة وقرار لاجتياز المحنة، ومثلت أفكار لا تمت إلى الرأسمالية بصلة مثل الضمان الاجتماعي، التقاعد، الضمان الصحي، الحد الأدنى للأجور، ومحاربة الاحتكار مخرجاً يمكن اطلاق مصطلح الطريق الثالث عليه، ونجح انحناء الفكر الرأسمالي للعاصفة في اجتيازها، رغم محنة الكساد العظيم عام 1929.

ولم تسعف الفكرة الصحيحة معظم المعسكر الاشتراكي، فعندما بدا في نهاية سبعينيات القرن الفائت أن نموذجه الاقتصادي قد فشل، وعندما ترجم مؤشر الفشل إلى واقع بثورة عمال ليش فاليسا ضد دولة العمال والفلاحين في بولندا، وبات انهيار الاتحاد السوفييتي ومعظم توابعه في أوروبا وآسيا نتيجة حتمية ومسـألة وقت، التقطت الصين وحدها الإشارة مبكراً، وابتدعت طريقاً ثالثاً جديداً، وهي فكرة مبتكرة، جمعت بين المتناقضين، مركزية السياسة ولامركزية الاقتصاد، ومنذ عام 1979، والصين تنمو بمعدل 9.5% سنويا حتى خربت الكثير من نظريات النمو الاقتصادي، ومقدر لها أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول منتصف القرن الحالي، وهو الموقع الذي خسرته قبل نحو 200 عام.

بعد هذه المقدمة الطويلة، والمملة ربما، ما علاقة مثالينا بما يجري للكويت، فأنا أفترض أن التشخيص السليم ضرورة قصوى إذا كان لابد لنا من اجتياز واقعنا غير المريح، وأعتقد أن مشروع الكويت التنموي تأرجح تماماً كما فيالمثالين السابقين، فالكويت بدأت عكس مشروع قناة بنما الفرنسي، شيئاً مشابهاً لما حدث للصين ضمن المعسكر الاشتراكي، ففي خمسينيات القرن الفائت، كان تدفق الأفكار السليم متلازماً مع جرأة سرعة القرار، ودقة التنفيذ، فالفكرة الاستراتيجية كانت تحويل الكويت من مشيخة إلى دولة، والقرار كان جريئاً بإبعاد معارضي الفكرة النافذين جداً، وبتأكيد أن الأمة وليس الحاكم هي مصدر السلطات، والتنفيذ كان حاسماً، بإجراء انتخابات لمجلس تأسيسي يحتكم إليه في إقرار الدستور، بما يعنيه من فصل للسلطات وتداولها، وحتى عندما تعرضت الكويت للتهديد بغزوها وضمها إلى العراق في بداية ستينيات القرن الماضي، كان القرار باستدعاء قوات أجنبية للحماية، حاسما وسريعاً وبتفاهم تام بين الحاكم والشعب، رغم غليان كل المنطقة آنذاك ضد قوى الاستعمار، ثم قوات عربية -قوات الردع- للحلول مكانها، وفي ذاك الزمن، زمن الفكرة الصالحة والقرار السليم وسلامة التنفيذ، ولدت مع مشروع الدولة مؤسسات سابقة زمنها، مثل الهيئة العامة للجنوب والخليج، وصندوق التنمية الكويتي، ومجلة العربي، وثانوية الشويخ التي عجزت الكويت بعدها عن إنشاء جامعة تضاهيها، وبعثات الإناث، وبيت الطالبات في القاهرة، والمسرح والرياضة المتفوقين جداً، وخط التنظيم لحماية أملاك الدولة، والإحصاء السكاني الدقيق لعام 65، لقد كانت بيئة صحية وصحيحة، لأن كلا من الفكر والقرار والتنفيذ كان بحجم صناعة دولة، قال عنها (أي عن الكويت) أحد زعماء المنطقة يوماً، إنها القوة العظمى السادسة، وعرفها عامة الناس بلؤلؤة الخليج، لقد كان عبدالله السالم قائدا تاريخيا، ولست مع من يقول إنه فعل ما فعل بحكم الضغوط، وليس بحكم القناعة، لأن المهم أنه سياسي وقائد قام بالعمل الصحيح والمتفوق، ولا معنى للتمييز في مبررات ما جاء صحيحاً.

وما يجري اليوم من تراجع مخيف، ليس وليد الحاضر، إنما بدأ مع حرب الردة التي استهدفت العودة إلى اختزال الدولة في المشيخة، فبعد وفاة عبدالله السالم، بدأت إذاعة الكويت طبقاً لرواية الدكتور أحمد الخطيب تبث، وتكرر بث أغنية «راح وقت المزاح... يوم جانا صباح» وليتها كانت مجرد أغنية خاطئة، فنحن نعرف حينها أن الصراع فتح على مصراعيه لوأد الدستور، ووسمت الفكرة الصحيحة بالخطيئة، وتأجل القرار وأجل تنفيذ أي شيء، حتى حسم ذلك الصراع الخاسر، فبعد وفاته بسنتين، زُوّرت أول انتخابات نيابية في عام 1967، وفي عام 1976 حُل أول مجلس أمة حلا غير دستوري، وشكلت لجنة لتفريغ الدستور من محتواه، وقبل العودة إلى أول انتخابات نيابية بعد خمس سنوات أي في عام 1981، فُتّتت الدوائر الانتخابية لنزع الولاء من المواطنة الشاملة إلى الانتماء الطائفي والقبلي والعائلي والعرفي لتسهل الرشوة والضغط وكسر القوانين، وبدأ معها تفتيت الوطن الصغير والجميل، ومع وأد الدستور ومطاطية القوانين، جاءت أزمة المناخ الطاحنة مالياً واجتماعياً وسياسياً، ثم جاء حل غير دستوري آخر في عام 1986، ومجلس وطني مسخ، وضياع كامل لمفهوم الأمن الوطني، حتى ضاع البلد في ساعتي زمان، وسرقت مدخرات الأجيال المقبلة وقطاع النفط.

ثقافة هذه الحقبة مزقت ولاءات الوطن، وأصبح الولاء حتى في الخطيئة هو مقياس الكفاءة، وغاب الفكر والتحديث، وترهلت الادارة العامة، وانتشر الفساد، وكلها خطايا تملك قوة ذاتية تدفع باتجاه مزيد من التخلف، انه النصف السيئ في بناء دولة الكويت الحديثة، ومعه أصبحت معركة الكويت معركتين، الاولى معركة وقف التدهور أو الاعمال الجذرية للصيانة والترميم، والثانية معركة بناء لتعويض ما فات، والاستعداد الكفء لما هو آت.

وما يجري للكويت حاليا، هو محصلة ما جرى لها، فهي-أي الكويت- مزيج لا يختلط، نصفه الآخر جميل، ويمثل قواعد صنعَتها فكرة الدولة، ففي الكويت دستور مجروح، وقواطع وإن كانت باهتة بين السلطات الثلاث، وقوى سياسية، وشعب قاوم بشدة كل محاولات اختزال الدولة في المشيخة وقاوم وأد الدولة أثناء احتلالها، وطبقة وسطى هي الأوسع في الاقليم العربي ومحيطه، ومنظمات مجتمع مدني استطاعت إدارة دولة تحت الاحتلال، وتعليم واسع وان كان متخلفا، وثروات طبيعية وإن كذبنا بحجمها، وثروات مالية. وهي من هذا المنظور، ورغم كل ما يجري لها، الفضلى في محيطها، وبفارق شاسع، صحيح أن أفضل السيئين لا يعني الجودة المطلقة ولكنه يعني التفوق النسبي.

وبين ذلك النصف السيئ الذي هو نتاج حرب الردة الشرسة، وهذا النصف الجميل الذي حافظ على كل قواعد بناء الدولة الحديثة، تقع أزمة الكويت وخلاصها. فإذا صرفنا النظر عن جهود اختزال الدولة في المشيخة، وبدأنا نزيح القوى المعارضة والنافذة لمشروع الدولة كما فعل عبدالله السالم، استطعنا ان نكرر قصتي النجاح الأميركية في بنما والصينية في عالمنا المعاصر، أما اذا انتصر المعسكر الآخر، فمآلنا مآل الفرنسيين أو النموذج الاقتصادي في الفكر الاشتراكي. وأكاد أجزم أن في الكويت كفاية من البشر القادرين والمخلصين، وكفاية من الموارد، لتكرار -وإن متأخرا– نموذج عبدالله السالم في صناعة الدولة المتفوقة، فأساس الفكرة الصحيحة وقواعدها موجود.

وما نحتاج إليه هو أمران، الاول حسم أمرنا نهائيا بشأن الالتزام الشديد بقواعد بناء الدولة، أي احترام الدستور وكل القوانين بالتبعية نصا وروحا لاستعادة الانتماء إلى الوطن، والأمر الثاني هو المصالحة الوطنية الشاملة، فالعودة الى محاكمة الماضي او البكاء على أطلاله لن تنفعنا سوى في هدر كل طاقاتنا في صراع عبثي، بينما لا يتبقى ما يكفي من وقت أو طاقة لصناعة المستقبل الأهم بكثير. نوعان من البشر يمثلان استثناء من المصالحة: الفاسدون والسراق، والمعارضون جهلا او طمعا في سلطة، لمشروع بناء الكويت الدولة. حينها فقط، يحق لنا كمستمعين، ان نستمتع بصوت عوض الدوخي الجميل، وهو يصدح «راح وقت المزاح».

back to top