نشأة التصوير الإسلامي... المدرسة العربية مذاق خاص وتصاوير معبرة

نشر في 13-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 13-09-2007 | 00:00

من الأخطاء الشائعة عند الحديث عن تراث الحضارة العربية الإسلامية ما يتردد من انصراف المسلمين عامة والعرب خاصة عن ممارسة فن التصوير، حتى ان البعض يذهب إلى حد القول إن «فن التصوير الإسلامي يكاد إنتاجه يكون قصراً على مساهمات فناني إيران وتركيا، ثم الهند في حقبتها المغولية».

لكن الواقع التاريخي يؤكد أن العرب لم يتخلفوا عن اللحاق بركب الإبداع في هذا الفرع المهم من مجالات الفنون التشكيلية طوال الحقب الإسلامية، وتقف مقتنيات المتاحف العالمية الكبرى دليلاً ناصعاً على صحة ما نذهب إليه.

وفي نظر مؤرخي الفنون فإن العرب قد منحوا فن التصوير الإسلامي مدرسته التصويرية الأولى والتي تعرف في مؤلفات تاريخ الفن باسم «المدرسة العربية».

العقيدة الإسلامية

وينبغي الاعتراف بداية بأن موقف العقيدة الإسلامية المتحفظ تجاه التصوير والمصورين قد حدد مجال هذا الفن وحصره بعيداً عن دور العبادة أو الكتب الدينية. وهو ما أعطى التصوير الإسلامي مذاقاً خاصاً باعد بينه وبين التصوير البيزنطي المسيحي الذي عني بتماثيل وأيقونات الكنائس، بل إلى أبعد من ذلك ذهب البيزنطيون أنفسهم فيما بعد، وتحت تأثير التقاليد الإسلامية، إلى حد تحطيم ما بالكنائس من تصاوير ومجسمات في ما يعرف تاريخياً بحركة «الأيقونيزم» أو تحطيم الأيقونات.

والذي لا خلاف عليه أن الإسلام قد نهى عن التصوير بقصد العبادة، وثمة أحاديث نبوية شريفة تفيد هذا المعنى، وكان الغرض منها إضافة إلى التباعد عن التقاليد الوثنية في عبادة الصور والأصنام، دعوة المسلمين إلى التقشف وعدم الإسراف في الكماليات.

وليس بصحيح أن الدين الإسلامي قد حرم التصوير أياً كان الغرض منه، فالثابت أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) قد أقر التعامل بالدنانير البيزنطية والدراهم الكسروية، وهي تحمل بين نقوشها صوراً لأشخاص (كسرى وهرقل)، ويؤيد ذلك أن ابن عباس (رضي الله عنه) قد أباح لصانع التصاوير الذي جاء يستشيره في أمر صناعته أن يصور فقط الشجر وكل شيء ليس فيه روح، أي أنه أباح تصوير غير الكائنات الحية، أو ما ليس له قدرة ظاهرة حتى لا يظن المصور أنه قادر على الخلق، وحتى لا يزعم إنسان أن له قدرة أو قوة العمل.

المدرسة العربية

وتعد المدرسة العربية أولى مدارس تصوير المخطوطات الإسلامية، وقد انتشرت تقاليدها الفنية سريعاً في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وإن تركز إنتاجها في الأقاليم العربية كالعراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، وبقيت أسسها الفنية حية في ما بين القرن السابع الهجري (13م) والقرن التاسع الهجري (15م)، وتتألف مخطوطاتها عامة من كتب سطرت باللغة العربية، فضلاً عن بعض المخطوطات الفارسية.

ويمكن إجمال المميزات الفنية الرئيسية لتصاوير هذه المدرسة في وضوح الطابع العربي بها سواء في ملامح الوجوه أو الثياب وأغطية الرؤوس أو في تمثيل مظاهر المعيشة اليومية، ثم في بساطة التصميم وعدم التعقيد في أسلوب توزيع الصورة والاكتفاء برسم الأشخاص أو الأدوات التي تتصل مباشرة بالموضوع المراد توضيحه بالصور، فضلاً عن البعد قدر الطاقة عن محاكاة الطبيعة، لاسيما في رسوم الكائنات الحية.

وتصنف المخطوطات المزودة بتصاوير أنتجت وفقاً لتقاليد المدرسة العربية إلى ثلاثة أقسام رئيسية طبقاً لموضوعاتها، فهناك الكتب العلمية أو شبه العلمية، ومنها ما هو مترجم عن اليونانية، ثم كتب علم الحيوان المختلفة، وأخيراً يضم القسم الثالث المخطوطات ذات الصبغة الأدبية والتاريخية.

وعلى الرغم من كثرة المخطوطات العلمية المزوقة بالتصاوير فإن الطابع الفني لا يبدو واضحاً فيها، ذلك أنه لم يقصد بهذه التصاوير إلا تفسير المتن وشرحه وتوضيحه من دون زيادة، بمعنى أنها جزء لا يتجزأ من نصوص الكتب العلمية ذاتها.

وقد أدى توخي هذا الغرض إلى أن المصورين كانوا ينقلون الصور ذات الموضوع الواحد بطريقة شبه حرفية من المخطوطات الأولية، مما جعلها تتشابه أحياناً من دون اختلافات مؤثرة، رغم تباين الفترات الزمنية أو اختلاف الأقاليم التي أنتجت فيها.

والواقع أنه إذا لم نعثر على ما يفيد تاريخ ومكان نسخ المخطوط العلمي وتصويره طبقاً لتقاليد المدرسة العربية، فإنه من الصعوبة بمكان أن نقطع بصورة حاسمة بنسبة هذا المخطوط إلى أي من المدن العربية في الشرق أو الغرب.

كليلة ودمنة... كتاب الأحلام والحكم والأمثال

من أوائل المخطوطات التي زوقت بالتصاوير في العالم الإسلامي، تلك النسخ التي جرى إنتاجها بكميات كبيرة من كتاب كليلة ودمنة، كتاب الهند الشهير الذي كان ومايزال موضع ترحيب من القراء وموئل للكتاب والمؤلفين ينهلون من قصصه، ويفيدون من معانيه في تقريب ما يريدون تفسيره، يحدث ذلك على الرغم من مرور أكثر من ألفي عام على تصنيفه.

فمن المعروف أن مؤلف هذا الكتاب، الذي يقف في تاريخ الشرق الآسيوي صنواً لكتاب مكيافيللي الإيطالي «الأمير»، هو الحكيم «بيدبا»، وقد عاش الرجل في الهند وقت اجتياح الإسكندر الأكبر لبلاده، وذلك قبل أن يلقى الأخير حتفه وهو عائد من الهند في عام 31ق.م.

الروايات التاريخية

أما السبب الذي دعا بيدبا لتأليف الكتاب فهو تكليف ملك الهند دبشليم له «لكي يضع له كتابا بليغاً تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما نحتاج إليه في معاناة الملك، وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب بعدي ذكرى على غابر العهود».

وحسبما تشير الروايات التاريخية فإن دبشليم، الذي ولي الملك خلفا للقائد الإغريقي الذي تركه الإسكندر على الهند، سرعان ما طغى وتجبر وأساء السيرة بين رعيته حتى أنه لم يوجد بالهند من يجرؤ على مواجهته سوى بيدبا أشهر حكماء عصره ورأس البراهمة.

وقد مضى بيدبا إلى الملك باذلا النصح لأنه على حد قوله لتلاميذه «إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم مثل راكب البحر إن سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المخوفات عُد من الحمير التي لا نفس لها».

وبعد مقدمات مطولة فاجأ بيدبا الحكيم الملك دبشليم بقائمة من الاتهامات، واستشاط الملك غضباً وأمر بيدبا فحُبس انتظاراً للقتل والصلب، ثم عاود الملك الأمر واستدرك فارطه فأخرجه من السجن وقربه إليه، وأوكل له الوزارة فجلس بمجلس العدل والإنصاف يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف ورد المظالم، ووضع سنن العدل وأكثر من العطاء والبذل.

ولما تلقى بيدبا تكليف الملك له بعد ذلك بتصنيف هذا الكتاب جمع تلاميذه سائلاً إياهم المشورة، فتحيروا في الأمر فقرر الحكيم أن يخلو هو وتلميذ له مدة عام في مقصورة ومعهما من القوت والأوراق ما يكفيهما طوال تلك المدة «ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب ويراجع هو فيه حتى استقر الكتاب على غاية الاتقان والإحكام، ورتب فيه أربعة عشر باباً كل باب منها قائم بنفسه، وفي كل باب مسألة والجواب عنها».

حكمة بيدبا

واقتضت حكمة بيدبا ألا يجعل كتابه في النصائح السياسية المباشرة، وإنما جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهر الكتاب لهواً للخواص والعوام، وهم يتعجبون من أحاديث تجري على ألسنة الحيوان، أما باطن الكتاب أو ما يفهم منه تأويلاً فهو رياضة لعقول الخاصة.

وضمن كتابه، الذي أسماه كليلة ودمنة «وهما ابنا آوي المتحدثات في الكتاب» أيضاً، ما يحتاج اليه الإنسان لسياسة نفسه وأهله وخاصته وجميع ما يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه وآخرته وأولاه ويحضه (وهذا هو بيت القصيد) على حسن طاعته للملوك، ويجنبه ما يكون فيه هلاكه وتلفه.

ولذا فقد لاقى الكتاب استحسان دبشليم الملك إذ لبى طلبه في أن يكون «لهوا وحكمة»، وطلب من بيدبا أن يتم نى عليه فلم يطلب الحكيم مالاً ولا متاعاً، وإنما قال «يأمر الملك أن يدون كتابي هذا، كما دون أباؤه وأجداده كتبهم، ويأمر بالمحافظة عليه، فإنني أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به، فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة».

وتمضي الروايات التاريخية تتحدث عن ولع كسرى أنوشروان ملك الفرس بالكتب وأخبار الأوائل، وجده في طلب هذا الكتاب حتى أرسل «بروزيه الطبيب» إلى الهند لينجح في نقل نسخة من الكتاب، ليترجم إلى البهلوية ويحفظ في خزائن فارس.

وعندما فتح العرب بلاد فارس وجدوا هذا الكتاب مشهوراً لديهم، ومن ثم عنوا به لما فيه من أدب سياسي وحكمة، وقد قام بترجمته إلى العربية الكاتب عبد الله بن المقفع، وإذا كان الهنود ومن بعدهم الفرس قد اعتبروا كتاب كليلة ودمنة سراً لا ينبغي إذاعته على العامة فإن المسلمين قد فعلوا النقيض تماماً، إذ استنسخوا الكتاب طوال العصور الوسطى، حتى وصل إلى أوروبا مترجماً عن الأصل العربي لابن المقفع.

back to top