وجهة نظر مسألة الركود والتضخم

نشر في 04-01-2008
آخر تحديث 04-01-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت نيويورك: لقد شهد الاقتصاد العالمي أعواماً عديدة طيبة، فقد تزايد النمو العالمي قوة، وضاقت الفجوة بين العالم المتقدم والعالم النامي، فتقدمت الهند والصين الطريق، إذ بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلدين 11.1% و9.7% على التوالي أثناء عام 2006، ثم 11.5% و8.9% على التوالي أثناء عام 2007، حتى ان الأداء الاقتصادي في افريقيا كان طيباً، إذ تجاوز النمو 5% أثناء عام 2006 وكذلك أثناء عام 2007.

ولكن ربما اقتربت هذه الأيام الطيبة من نهايتها، فلأعوام ظلت المخاوف تتفاقم بشأن الخلل في التوازن العالمي نتيجة للمبالغ الهائلة التي تقترضها الولايات المتحدة من الخارج، بيد أن أميركا ردت على تلك المخاوف زاعمة ان العالم لابد وأن يكون شاكراً، إذ ساعد ذلك الميل إلى الحياة وفقاً لمستويات أعلى من المتناول في استمرار الأداء الطيب للاقتصاد العالمي، بفضل معدلات الادخار المرتفعة بصورة، خصوصا في آسيا التي كدست مئات المليارات من الدولارات كاحتياطيات، لكنه كان من الواضح للجميع دوماً أن النمو الأميركي في ظل حكم جورج دبليو بوش لم يكن مقدراً له أن يستمر، والآن بات يوم الحساب قريباً.

لقد ساعدت الحرب الأميركية الارتجالية في العراق في ارتفاع أسعار النفط إلى أربعة أمثال ما كانت عليه في عام 2003. أثناء فترة السبعينيات من القرن العشرين، أدت الصدمات النفطية إلى التضخم في بعض البلدان، وإلى الركود الاقتصادي في بعضها الآخر، إذ لجأت الحكومات إلى رفع أسعار الفائدة سعياً إلى مكافحة ارتفاع الأسعار، وكانت بعض البلدان أسوأ حظاً فعانت من التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي.

حتى وقتنا هذا، تمكن العالم من تحمل أسعار النفط التي ارتفعت إلى عنان السماء بفضل ثلاثة عوامل حاسمة، الأول، نجاح الصين بفضل الزيادة الضخمة في معدلات الإنتاجية لديها استناداً إلى مستويات الاستثمار المرتفعة، بما في ذلك الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا في تصدير الانكماش، والثاني أن الولايات المتحدة انتهزت الفرصة التي سنحت لها نتيجة لذلك بتخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي أدى إلى ظهور فقاعة الإسكان، إذ توافرت قروض الرهن العقاري لكل راغب. وأخيراً، تلقى العمال في كل أنحاء العالم الصفعة مذعنين فقبلوا انخفاض أجورهم الحقيقة وتضاؤل حصتهم في الناتج المحلي الإجمالي.

بيد أن هذه اللعبة قد انتهت، فالصين تواجه الآن ضغوطاً تضخمية هائلة، والأسوأ من هذا أنه في حال نجاح الولايات المتحدة في إقناع الصين برفع قيمة عملتها، فلسوف ترتفع تكاليف المعيشة في الولايات المتحدة وغيرها من الأماكن في العام، وفي ظل صعود أشكال الوقود الحيوي أصبحت أسواق الغذاء والطاقة في العالم مدمجة في سوق واحدة. ومع ما يصاحب ذلك من ارتفاع الطلب من قِبَل ذوي الدخول المرتفعة والإمدادات المتضائلة نتيجة لمشاكل الطقس المرتبطة بتغير المناخ، فإن هذا يعني ارتفاع أسعار الغذاء وهذا يشكل تهديداً قاتلاً بالنسبة إلى البلدان النامية.

أما التوقعات بالنسبة إلى استمرار حالة العربدة الاستهلاكية الأميركية فهي أيضاً لا تقل كآبة، فحتى إذا ما استمر بنك الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة في تخفيض أسعار الفائدة، فلن يسارع المقرضون إلى إبرام المزيد من عقود الرهن العقاري الرديئة. ومع انحدار أسعار الإسكان فلسوف يتقلص عدد الأميركيين الراغبين أو القادرين على الاستمرار في إسرافهم.

الآن تتمنى إدارة بوش أن تنجح على نحو ما في منع حدوث موجة من حبس الرهن العقاري، وبالتالي تمرير المشاكل الاقتصادية إلى الرئيس القادم تماماً كما تفعل فيما يتصل بمستنقع العراق. إلا أن فرص نجاح الإدارة في تحقيق هذه الأمنية ضئيلة للغاية، فالسؤال الحقيقي بالنسبة إلى الأميركيين اليوم هو ما إذا كانت دورة الهبوط الاقتصادي سوف تكون قصيرة وحادة، أم ان الأمر سوف ينتهي إلى تباطؤ اقتصادي أكثر طولاً وأقل حدة.

لقد ظلت أميركا طوال الأعوام الماضية تصدر مشاكلها إلى الخارج، ليس فقط ببيع عقود الرهن العقاري الفاسدة والممارسات المالية الرديئة، بل وأيضاً بالدولار الذي أصبح يعاني الضعف المتواصل نتيجة للسياسات الشاملة الرديئة، فأوروبا على سبيل المثال سوف تجد صعوبة متزايدة في التصدير. وفي ظل الاقتصاد العالمي الذي قام على أساس من «الدولار القوي»، فلسوف تكون حالة انعدام الاستقرار في الأسواق المالية نتيجة لتدهور الدولار باهظة التكاليف بالنسبة إلى الجميع.

في نفس الوقت شهد العالم عملية إعادة توزيع هائلة للدخل العالمي، من الدول المستوردة للنفط إلى الدول المصدرة له وأغلب هذه الدول تحكمها أنظمة غير ديموقراطية ومن العاملين في كل مكان إلى أصحاب الثراء الفاحش. والآن لم يعد من الواضح ما إذا كان العمال سوف يستمرون في تقبل الانحدار في مستويات معيشتهم باسم العولمة غير المتوازنة التي تحولت وعودها إلى أحلام. وفي الولايات المتحدة يستطيع المرء الآن أن يستشعر تصاعد ردود الأفعال الغاضبة.

كل هذه الحقائق تشكل أنباءً غير طيبة على الإطلاق بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعتقدون أن العولمة الجيدة الإدارة قادرة على تحقيق المنفعة لكل من بلدان العالم المتقدم والعالم النامي، وأولئك الذين يؤمنون بالعدالة الاجتماعية العالمية وأهمية الديموقراطية (والطبقة المتوسطة النشطة التي تدعمها). الحقيقة ان التعديلات الاقتصادية من هذا الحجم الهائل لابد وأن تكون مؤلمة في كل الأحوال، إلا أن الآلام الاقتصادية أصبحت اليوم أعظم لأن الأطراف الكاسبة في لعبة العولمة أصبحت أقل ميلاً إلى الإنفاق.

إن الوجه المقابل «لعالم غارق في السيولة» هو عالم يواجه طلباً متضائلاً في الإجمال، فأثناء السنوات السبع الماضية كانت العربدة الأميركية في الإنفاق والاستهلاك سبباً في سد هذه الفجوة، أما اليوم فمن المرجح أن يتقلص إنفاق الأسر الأميركية والحكومة الأميركية، في ظل الوعود التي يبذلها مرشحو الرئاسة عن الحزبين بالعودة إلى المسؤولية المالية. ولابد وأن تكون هذه أنباءً طيبة بالنسبة إلى الأميركيين بعد أن شهدوا سبع سنوات ارتفع خلالها الدين الأميركي الوطني من 5.6 تريليونات دولار إلى 9 تريليونات دولار إلا أن التوقيت جاء سيئاً للغاية.

قد تحمل هذه الصورة الكئيبة الموحشة نقطة وحيدة إيجابية، فقد أصبحت مصادر النمو العالمي اليوم أكثر تنوعاً مما كانت عليه منذ عقد من الزمان، بعد أن أصبحت الدول النامية بمنزلة المحرك الحقيقي للنمو العالمي أثناء الأعوام الأخيرة.

بيد أن تباطؤ النمو أو ربما الكساد في الدولة صاحبة الاقتصاد الأضخم على مستوى العالم لابد وأن تترتب عليه عواقب عالمية، ولابد أن يتباطأ الاقتصاد على مستوى العالم. وإذا ما استجابت السلطات النقدية بالصورة اللائقة للضغوط التضخمية المصاحبة للنمو بإدراكها أن القدر الأعظم من هذه الضغوط مستورد وليس ناجماً عن ارتفاع في الطلب المحلي فقد يكون بوسعنا أن نتلمس طريقنا عبر هذه الأزمة، أما إذا لجأت السلطات النقدية إلى رفع أسعار الفائدة بلا هوادة سعياً إلى تلبية أهداف التضخم، فلابد أن نعد أنفسنا لمواجهة الأسوأ، أو موجة أخرى من التضخم المصحوب بالكساد.

إذا ما سلكت البنوك المركزية هذا المسار، فلسوف تنجح في النهاية في انتزاع التضخم من النظام بلا أدنى شك، إلا أن الثمن الذي سيتحمله العالم خسارة الوظائف وخسارة الأجور وخسارة المساكن سوف يكون باهظاً.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top