أشرف مروان... عاش غامضاً ومات لغزاً (1)

نشر في 03-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 03-07-2007 | 00:00
No Image Caption
حلقة في سلسلة قتل العرب في مدينة الضباب.
قد تبقى قصة موت آشرف مروان تتغذى على التخمينات والاستنتاجات، وتقترب أو تبتعد عن الحقيقة الغائبة في ضوء شاحب تحدده المعلومات المتاحة، وهي قليلة إلى حد تصديق قصة السقوط، وكثيرة إلى حد التشويش.
عاش أشرف مروان حياة يكتنفها الغموض، وكان صعوده السريع علامة استفهام كبرى، حتى أن الكاتب موسى صبري وصفه بــ«الطفل المعجزة»، فقد كان في منتصف العشرينيات ويدير أمورا في غاية الخطورة، ويترأس هيئات ومؤسسات يتولاها وزراء.

مروان من مواليد 2 أبريل 1944، لأسرة ثرية، والده كان ضابطا في الجيش المصري، وتخرج من كلية العلوم - قسم الكيمياء - بتفوق عام 1965، والتحق بعدها بالعمل في المعامل المركزية للقوات المسلحة. ثم تزوج عام 1966من منى ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان وقتها زعيما للعروبة كلها وشخصية لها ثقلا عالميا، ثم عمل بمكتب الرئيس مساعدا لوزير شؤون رئاسة الجمهورية سامي شرف. وبعد رحيل عبد الناصر جعله خلفه أنور السادات سكرتيره لشؤون المعلومات، ثم مبعوثه الخاص الى الرؤساء والملوك.

حصل مروان بعد ذلك على دكتوراه في الاقتصاد من لندن عام 1974، واختير عضوا في لجنة الإشراف على تطوير وصناعة الأسلحة في الجيشين المصري والليبي، ثم عضوا في المجلس الأعلى للمشروعات الطبية في مجال الطاقة النووية، وتنقل في المناصب المهمة حتى عام 1978، حين منحه السادات وسام الجمهورية من الدرجة الأولي ونقله إلى وزارة الخارجية ليعمل سفيرا لمصر لدى لندن.

إلا أنه ترك العمل العام، وانطلق في عالم الأعمال، وارتبط بعلاقات قوية مع الدكتور كمال ادهم، طبيب الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، ثم بالملياردير السعودي عدنان خاشقجى، تاجر السلاح المعروف، واتسعت دائرة أعماله في لندن وعدد من العواصم الأوربية، فأسس شركات مالية وسياحية، وامتلك فندقا في مدريد، وعمل بتجارة السلاح، واقتربت ثروته من المليار دولار، وكان واحدا من القلة الذين يمتلكون طائرات خاصة، إلا أنه في كل مراحل حياته كان يلفه الغموض، فعاش وسط كم من علامات الاستفهام، لا يعرف أحد عنه شيئا، وفي كل مراحل حياته كانت هناك محطات تثير التساؤلات.

 قربه من السادات

بعد موت عبد الناصر، اقترف السادات تصرفات أثارت تحفظات أسرة الرئيس الراحل، وحدثت قطيعة بين الأسرتين، لكن السادات استثنى أشرف مروان، فقربه إليه، وعينه سكرتيرا خاصا بدرجة وزير.

وقيل أن مروان هو الذي قدَّم للسادات التسجيلات التي تدين من أطلق عليهم السادات «مراكز القوى» وأطاح بهم في حركة مايو 1971، فيما عرف وقتها بـ «ثورة التصحيح»، ثم صعد به لمركز أعلى على الرغم من حداثة سنه، ويقول الدكتور محمود جامع أحد أصدقاء الرئيس السادات المقربين أن السادات كان شديد الإعجاب بأشرف وبذكائه، وأنه كان يثق به جدا، ولولا الهجوم المستمر الذي تعرض له مروان من الكتاب الذين انقلبوا على الثورة، وفى مقدمتهم جلال الدين الحمامصي، لكان أشرف قد استمر في صعود مع السادات، لكنه أمام هجوم عدد من الأقلام عليه اضطر إلى إقصائه من موقعه كرئيس لمجلس إدارة الهيئة العربية للتصنيع، وعينه سفيرا في الخارج.

قصة العمالة... أو العمالة المزدوجة

في عام 1992 قدمت السينما المصرية فيلما للنجمة نادية الجندي بعنوان «مهمة في تل أبيب»، ويحكي الفيلم الذي كتب قصته السيناريست بشير الديك قصة سيدة مصرية تعمل لحساب المخابرات المصرية، ضد المخابرات الإسرائيلية، ولكي تحوز ثقة المخابرات الإسرائيلية قدمت لها المخابرات المصرية معلومات عن عملية فدائية سيقوم بها الفدائيون الفلسطينيون عبارة عن ضرب طائرة تخصهم بصواريخ ستريللا الروسية، وتأكدت الموساد من صدق المعلومة، فمنحوها ثقتهم، ومن خلال موقعها سربت للمخابرات المصرية معلومات ثمينة، ونجحت بجدارة في مهمتها.

وفى فبراير من عام 1973 ضلت إحدى طائرات الركاب الليبية طريقها لمطار القاهرة، ودخلت سيناء، فظنت إسرائيل أن الطائرة في طريقها لضرب مفاعل ديمونا في صحراء النقب، فأسقطتها الصواريخ الإسرائيلية ومات ركابها البالغ عددهم 108 ركاب، فطلب الزعيم الليبي معمر القذافي من السادات أن يقوم بالثأر لكرامتهم، وكان السادات يعد لدخول الحرب الشاملة، وأي عمل عسكري صغير قد يعوق الحرب المنتظرة، فطلب من أشرف مروان إعداد خطة لعملية يرضي بها القذافي ولا تعوق الحرب الجاري التحضير لها، فاتفق مروان مع خمسة من الفدائيين الفلسطينيين بأن يقوموا بضرب طائرة إسرائيلية أثناء إقلاعها من مطار روما بصواريخ ستريللا الروسية، ثم قام بتسريب المعلومة للمخابرات الإسرائيلية، فحاذ ثقتهم، وتفادى الحرب الشاملة، وحقق مطلب القذافي، تقريبا هو نفسه ما جاء في الفيلم الذي عرض بعد واقعة مروان بعشرين سنة.

في عام 2004، صدر كتاب «الأسطورة في مواجهة الحقيقة... حرب يوم كيبور... الإخفاقات والدروس» الذي كتبه رئيس المخابرات الإسرائيلية السابق إيلى زعيرا، وفاجأ العالم بأن مروان صهر الزعيم عبد الناصر كان عميلا للمخابرات الإسرائيلية، ثم بدأت الصورة تتكشف بعدما دخل الدائرة أطراف جديدة وأدلوا بدلوهم، واتجهت بوصلة المحللين والسياسيين إلى التقرير بأن مروان كان عميلا مزدوجا، وأنه خدع المخابرات الإسرائيلية وقدم خدمات جليلة للمخابرات المصرية، واعترف عدد من المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم بأن مروان ضللهم، لكن ليس هناك دليل مقنع ينفى أو يؤكد ما نسب إليه.

وفاته... وسوابق الموت في لندن

ومثلما كانت حياته غامضة، كان موته أيضا غامضا ومثيرا للاستفهام، ولن يستطيع جهاز الـ«اسكوتلنديادر» حل لغز وفاة أشرف مروان، فالسنوات الماضية شهدت اخفاقات عدة لهذا الجهاز، ومنها عجزه عن كشف المجرم في كل جرائم الاغتيال التي طالت شخصيات عربية على الأراضي البريطانية.

لكن حالة موت مروان تخضع للتحليلات السياسية أكثر من خضوعها للمعايير الجنائية، وذلك بالنظر إلى تاريخه، ولن تستطيع جهة ما رسمية أو غير رسمية أن تقدم دليلا قاطعا ضد الجناة الذين اقترفوا الجريمة، إذا كانت هناك جريمة.

ففى 27 يونيو الماضي سقط مروان من شقته في الطابق الخامس في إحدى بنايات شارع سان جيمس بارك الكائن في أحد أرقى أحياء العاصمة البريطانية لندن، إذ يقع على بعد عدة أمتار من قصر باكنغهام الملكي، وأيضا على مسافة قريبة منه يقع مبنى الحكومة البريطانية فى داونينغ ستريت.

وكان مروان المصري الثالث الذي يلقى حتفه بهذا الشكل في لندن، فقد مات بنفس الطريقة من قبل الفريق الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري أيام السادات، إذ وجدت جثته ملقاة من الطابق 11 في مبنى ستيوارت تاور في لندن، يوم 24 أغسطس 1973، وفى يوم 20 يونيو 2001 ومن نفس المبنى وجدت جثة النجمة سعاد حسني ملقاة من الطابق السادس.

والشرفة التي سقط منها مروان يلي سورها حوض للزهور، ومستحيل أن يمارس رجل ناضج مثله نوعا من العبث الطفولي يجعله يفقد اتزانه فيسقط هكذا. ولم يكن الرجل من مدمني الخمور أو المخدرات للقول انه ترنح وهو في الشرفة. وبات الاحتمال الأخير هو القائم، وهو أن مروان قد ألقي به من الشرفة، لقد امتدت يد مجهولة أو أكثر من يد وألقت به، لكن إثبات ذلك يكون من الأمور الصعبة ما دام ليس هناك شاهد، فالطب الشرعي يعجز عن التفريق بين من ألقى بنفسه ومن أُلقي به، ولذلك فقد أصبحت هذه الطريقة هي أسهل الطرق فى عمليات التصفية الجسدية، خاصة تلك التي يكون وراءها أجهزة ذات إمكانات عالية كأجهزة المخابرات.

لقد شهدت العاصمة البريطانية لندن العديد من عمليات التصفية الجسدية لعدد من رموز العمل السياسي العربي، ففيها اغتيل العديد من الرموز الفلسطينية، يأتي في مقدمتهم ناجى العلي (عام 1988) ومن قبله عصام سرطاوى (1983)، وفى صيف 1977 وجد مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر العقيد علي شفيق مقتولا فى شقته في لندن وبجواره حقيبة بها مليون دولار كانت عربون كتابة مذكراته، ولم يشعر أحد بموته إلا بعد مرور أكثر من عشرة أيام حيث تسربت رائحة جثته التي تعفنت.

كما قتل في لندن العالم الألماني المشرف على برنامج الصواريخ المصري (القاهر والظافر) عام 1962، وفيها أيضا قتل المستر بول عالم الصواريخ الألماني المشرف على مشروع المدفع العراقي العملاق (مدفع يوم القيامة)، والقائمة كثيرة لم يفكر أحد في عمل حصر لها، لكنها تشير إلى أن هناك عيوناً تترقب الضحايا وسط زحام لندن وضبابها.

اقرار الإعلام الإسرائيلي

لقد اعترف الإعلام الإسرائيلي بأن أشرف مروان خدع المخابرات الإسرائيلية، وقالت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي إن الموساد تعرض لأكبر مقلب في تاريخه، وأن أشرف مروان ضللهم قبل وأثناء حرب أكتوبر، وسبب لهم إخفاقا غير مسبوق، ويتفق ذلك مع رواية الرئيس المصري الراحل أنور السادات في كتابه «البحث عن الذات» فقد أكد أن أعمال الخداع التي قام بها الطرف المصري كانت السبب الرئيسي في تحقيق النصر، وقال السادات أنه سرب لإسرائيل موعد بدء العمليات العسكرية ثلاث مرات خلال عام 1973، الأولى في مايو، والثانية في أغسطس، وفى هاتين المرتين قام الجيش المصري بمناورات فقط في حين أعلنت الحكومة الإسرائيلية التعبئة العامة، وكلفها ذلك ملايين الدولارات، وفى المرة الثالثة انطلقت الرسالة لهم من لندن مساء يوم 5 أكتوبر 1973 تؤكد أن الحرب ستبدأ في السادسة من مساء اليوم التالي، فلم يأخذها الجانب الإسرائيلي مأخذ الجد، فتحققت المفاجأة التي مكنت الجيش المصري من إنشاء جسور على القناة مكنته من عبور معداته الضفة الشرقية والاستيلاء على مواقع استراتيجية قبل أن يفيق الجانب الإسرائيلي.

وكان الرجل الذي قام بهذا الدور، وساهم في خطة أكبر خداع استراتيجي لجيش الدفاع هو محمد أشرف ابن اللواء أحمد أبو الوفا مروان، الرجل الذي عاش لغزا ومات لغزا.

غدآً حلقة ثانية وأخيرة.

back to top