الفنان التشكيلي حسن جوني: لوحتي مستقاة من عنف الواقع

نشر في 21-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 21-08-2007 | 00:00

حسن جوني فنان تشكيلي عاش حروب الداخل وذلّ الاحتلال. درس في فالنسيا (إسبانيا) فنون أوروبا ـ النهضة والمعاصرة. تأثر بالفنان العالمي غويا وبالمدرسة الاسبانية عامة. «يستأنس» بضبابية لوحة الفنان الانكليزي ترنر Turner.

لسنين مديدة بقي حسن جوني يرسم لوحة الحنين والرحيل والانسلاخ وأنسنة مشهد عالم هارب على متن ضبابةٍ ناساً ومطارح وقرميداً في قريته رومين على أرض الجنوب.

استمر الفن معه تداعيات ذاكرة الزمن المهدور والأحلام المؤجلة. ترحالات تتكرر عبر المشهد في لحظة انسانية مؤثرة، في عيون شخوصه، على رصيف الحياة، تختزن الألم مثل أبطال غوركي وانكسار شخوص تشيخوف.

واستمرت مع ذلك مشهديته اللونية زاهية، على طرب وقيافة ونظافة ريشة، وظلت نشيد حنين لعودة دائمة الى مطارح الطفولة والوعي الأول.

ومع عصف التحولات الحياتية وتمزيق الحروب لجسد الأرض وروح الانسان اللبناني وتقدم الفنان في رحلة العمر ونضج معرفة مسار الحياة ـ الرحلة القصيرة، كان الوعي لديه قرين القلق.

حصل التحوّل في لوحة حسن الجوني. صارت أشدّ تعبيراً عن قسوة الحياة ألواناً وخطوطاً.

حدثنا على الحرب والانسلاخ وشتات الروح والعولمة والفرادة وبوح الفن للحياة.

هذا المدار من القلق والعنف الذي يعيش فيه لبنان واضح الانعكاس على أعمالك.

لديّ همّ انتاج لوحة فردية، شخصية جداً ومختمرة. من تجربتي في الرسم واللون والخط، أتوّجه عبرها إلى زمني وأبناء مجتمعي. أتمنّى أن تشكل لوحتي «ظاهرة تبشيرية» ضد العنف، هذا المدار الذي يلفّنا جميعاً. أريد لوحتي رسالة سلام تحرّض على اعادة السلام المفقود وايجاد وسيط بين الانسان وروحه وعقله وحضارته وتذكيره بأنه «إنسان» وليس أداة!

ما مدى قدرتك على التركيز اليوم؟

نعرف جميعاً أن بعض الحروب الكبرى والأزمات الدموية أنتج روائع وفنوناً كبيرة في العالم. «غيرنيكا» بيكاسو طلعت من مآسي إسبانيا.

هذا المدار العنفي في لبنان اليوم يحضك على رد فعل فني، خاصة أن لوحتك الحالية لا تشبه أعمالك في مراحل سابقة ولبنان كان في ثمانينات القرن الماضي في حالة حرب أيضاً.

للعنف وجه واحد، العنف. قد تأخذ اللوحة وجوهاً متعددة من التعبير وقد تحصل اختيارات لونية لم تكن موجودة في مراحل سابقة، أو تضاف عناصر خطوطية. لوحتي اليوم تستقي تعبيريتها من الواقع العنفي. ثمة بلورة لشخصية العنف في اللوحة، بحيث أنني عندما أرى ما أرسم أحسّ بحال من الرعب الحقيقي.

بعد لوحة الهناءة وجمال سكينة الريف اللبناني، مراتع طفولتك، ثمة تحوّل جذري في بناء لوحتك وتشكيلها. البيوت القديمة أخذت تتشظى وتتناثر، بالاضافة الى ظهور ألوان حادة كالأسود والأحمر القاني الى أشكال «كوابيسية». كأن اللوحة العنيفة صارت تعكس حالاً كئيبة من الاحباط واليأس والقرف. لِمَ هذا التحول في مفاتيح اللوحة ودلالاتها؟

إنها اللوحة المقاومة في الواقع والخروج من الحنين الشاعري والموسيقى اللونية في مراحل سابقة. اليوم غابت الموسيقى عن لوحتي. ثمة لوحة داخل اللوحة.هناك أثر للسنوات التي مرت مع انعكاس للمفاهيم التي صرت أحسها تجاه أرضي وبيتي وبحري وجبلي وسهلي. يصعب عليَّ اليوم العودة الى الحنين الماضي. ما عادت الموسيقى التصويرية تعني لي شيئاً. صرت أرى الأشياء كما لا أرغب في رؤيتها. لم أكن أتمنى لحظة أن يحصل هذا التشظي الذي تراه. كنت أريد للبيوت القرميدية أن تستكين لأنها للمبيت لا للرحيل. هذه البيوت المتشظية تشبهني. أنا في حالة من التشظّي الحقيقي، مثل بيتي والشارع والمدينة والوطن. لا شيء مستكيناً حولي. أعيش فوضى عامة تغمرني. لكنني مضطر كرسام الى اعادة بناء هذه الفوضى لتكون شهادة وشاهداً على هذا الزمن.

هل تعتبر أنك شهدت عبر هذه اللوحات لزمن آخر ولعيون تأتي على حال مرّ فيها شعب وطنك؟

لست حالماً ورومانسياً لكي أرى الأمور باللاوعي. وحده الوعي يحدد مسؤولياتي حيال فني والآخر. تعمّدت رسم هذه الأعمال لكي أقدّم لنفسي مبرراً بأنني رأيت وكنت شاهداً ثم رسمتها من أجل «الشهيد» في بلدي الذي ذهب ضحية هذه الفوضى.

أنت تعترف بتحول «مقصود» في لوحتك، فيما لم يقدم الكثير من الفنانين على مغامرة تغيير أسلوبهم أو تطويره طوال مسار حياتهم الفنية. ألا تعتبر أن تحوّلك فرضته ظروف الوطن أمنياً وسياسياً؟

أنا فنان واع. لست مخدّراً وعلى هامش الحركة التعبيرية الناتجة عن تحولات الوطن. إن احتشاد الأزمات المحيطة بنا والتي تشتغل في دواخلنا جعلتني أرسم لأقول أنا حي. أنا حيّ لأنني أرسم، بالتالي انفعلت ورسمت ما أرسم.

نحن في صيف واللبنانيون بين حرارتين، الطقس الملتهب و{حرارة» نهر البارد و{حمى» الرئاسيات. أيضاً بين الترقب الداخلي أو العطلة في الخارج. لمن ترسم؟

أرسم لقناعتي. لا يمكنني أن أبقى ساكتاً. وسيلتي للتعبير وأبجدية لغتي الخط واللون. ارسم للتعبير عن الحياة حولي وعني أنا داخل الحياة.

هذا يعني أنك لا تفصل بين حسن الفنان وحسن السياسي؟

أنا معني بإيجاد ما ضيعته السياسية. دور الفن إنقاذ ما أفسدته السياسة. يشتغل على شحذ الذوق العام.

أي علاقة فنية تربطك بالجمهور العربي؟

خلال أربعين سنة من العمل الفني ومعارض متواصلة في لبنان والخارج أصبح جمهور الفن التشكيلي على معرفة بإنتاجي الفني، عبر مشاركتي في عدد كبير من البيانالات العربية التي نظمت في القاهرة والاسكندرية والكويت ودمشق والبحرين وبغداد وقطر والجزائر وتونس والمغرب الى معارض في العديد من عواصم الغرب (روما، باريس، مدريد، مونريال، واشنطن...). أذكر في تموز 2006، إبان العدوان الإسرائيلي على الجنوب وبيروت وقصف منارة بيروت، ولأن محترفي ملاصق تماماً لمنارة بيروت القديمة، تلقيت عدداً كبيراً من الاتصالات من أصدقاء يستفسرون عني من غير عاصمة غربية وعربية.

آخر أعمالك الفنية عرضتها في الجزائر. ماذا عن الجمهور الجزائري؟

شاركت في معرض جماعي في الجزائر العاصمة بصفتها عاصمة للثقافة العربية. الجمهور الجزائري متعطش لرؤية جديد الفن التشكيلي العربي، خاصة اللبناني الذي يعتبرونه فناً أصيلاً يأتي من بلد يعصي الموت. كان عنوان المعرض «الفن التشكيلي اللبناني المعاصر» بمشاركة نحو 40 فناناً تشكيلياً لبنانياً اختارتهم وزارة الثقافة في بيروت.

واضح تماماً أن كماًّ هائلاً من الفرح انسحب تماماً من لوحتك؟

لما عدت من اسبانيا في السبعينات مشبعاً بحضارة الغرب وصلت الى بيروت «مبشراً» بجمالية لوحة. بيروت السبعينات، كما نعرف، كانت تضج بثورة فنية هائلة من المسرح الى الشعر والفن، وكانت مهرجانات بعلبك الدولية، وكان لبنان مطهراً لكل الفنانين العرب. عبثاً كان الأديب أو الفنان العربي يحاول الظهور ما لم «يتكرس» عبر ساحة بيروت الثقافية. كل هذه «الأعراس» دمّرتها آلة الحرب. من العام 1975 حتى اليوم تستمّر الجريمة ضد لبنان. أضف الى ذلك أنني أتقدم في العمر. أصبحت أرى اليوم بوضوح أكبر. والوعي قرين القلق. فمن أين يأتي الفرح؟

نعيش اليوم عولمة تطال مناحي الحياة كافة. في الشق الفني، الا ترى أن هذه الكوكبية بما لها من حسنات كثيرة تؤثر سلباً على خصوصية الفنان؟ المعارض الفنية في مدن العالم تتجه، مثلاً، الى حال من التماثل والتشابه، كأنما الفرادة تتراجع لمصلحة عمل فني عولمي المعالم والمنحى. ألا تخشى على الفرادات المحلية؟

المحلية تشبه الحسّ بالقومية. لا يمكن إلغاء هذه المحلية بمطارحها وأحاسيسها والذكريات. البديل هو المجهول المخيف، هو اللاّمكان، هو خواء رهيب على مستوى كوكب الأرض وهذا الزمان. إن اضمحلال الزمان والمكان من ذاكرة اللوحة هو الإلغاء الكبير والخطير. مع تشبثي بالأخوّة البشرية، إلا أن الخصوصية شرط فرادتنا ومنها طلعت المنارات الانسانية على امتداد تاريخ البشرية. أنا متشبث بخصوصيتي النابعة من محليتي وشعبي وتاريخي وأرض جدودي. من دونها لست حسن جوني!

back to top