ترانيم الغواية

نشر في 07-05-2016 | 00:01
آخر تحديث 07-05-2016 | 00:01
No Image Caption
مصلوب بحيرته ذاك المولود في مدينة منذورة لله... ظاهرها قدسي، وباطنها إنسي.. معلّق على الحدّ بين طهارة الحجر ونوازع البشر.

بأنوار أنبيائها تشعّ مدن السماء، وسواد ليلها غواية ورغبات دفينة.

هالات ضياء تطوّق مدناً تقدّست، وفي عيون قاصديها ترانيم وصلاة وسجود، وتبتّل في أساطيرها والحكايا، بينما تغمز المدينة من خلف قناع لمن يعرف، أن لا بأس.. ستّار ليلنا وأبواب مغلقة.

وقادر ذاك الرباط، لا فكاك منه، بين إنسان ومكان سقط فيه رأسه.. قيد يشدّه إلى أرض سمعت صرخة حياته الأولى، وسلاسل حنين يزرعه من تراب شهد غزوات الوقوف الأولى، وصمود خطواته البكر.

وطن.. درّة العقد في قاموس عشق البشر.. يجوز ويقسو فيسمو أكثر.. يمسح الاغتراب ذنوبه بالتوق إليه.. غانية تطهرت ببعدها، ولعوب تبتلت بالشوق إليها.. ومهوى فؤاد المبعد عنه قسراً أو اختيارا.

قالوا: وجود العمّة وسيلتك الوحيدة لدخول المدينة، تتشدّد إسرائيل وتمنع العرب من زيارتها.. صحيح أن الأعمار بيد الله، لكن ميلادة كبرت، ويطول صمتها، وكثيراً تمتعض وتنهي المكالمة. ربما كانت بدايات الزهايمر!. لكن جرّبي!

ليست شقيقة لأبي وإن كانت عمّة أجيال العائلة، الكبار منهم والصغار. مات أخواها وهاجر ابن أخيها الوحيد ولم يعد.

كم بقي في ذاكرة امرأة رسمتها من حكايا الآخرين وخيالات الطفولة؟ العمة ميلادة أبو نجمة؟

أندفع إلى مهمة تبدو مستحيلة، تحقيق حلم لا يبارح الخاطر، أعجزني عنه واقع البلاد ووضع المدينة، تصوير فيلم عن القدس.. وأحياه الأمل بتوفر شركات إنتاج إعلامي، تؤجر تصاريح التصوير الخاصة بها مع خدماتها.. وربما حققت العائلة حلمها فأعود بأوراق لويركو بأن المرج في عين كارم، كان إرثاً مشتركاً للعائلة يوم صادره متصرّف سنجق. وبما يثبت أن سالم أبو نجمة كان مواطناً وملاّكاً في التشيلي.

قال العارفون: حاول سالم استرداد المرج فصارت خسارته اثنتين، فترك البلاد ومن فيها.. لكن لا يضيع حق وراءه مطالب، وأوراق الويركو تثبت أن المرج ملكيّة رقبة مشتركة، متوارثة أباً عن جد، وكان من العدل أن يصادر العثمانيون حصة سالم وحده.

المرج أرض شاسعة رهنها والد العمة سالم أبو نجمة للمتصرفيّة، يوم عمل في مدّ سكّة حديد يافا- القدس، نهاية القرن التاسع عشر، فصادره الأتراك، ثم باعوه للرهبان الفرنسيسكان، فأقاموا عليه ديرهم وملاحق أخرى، وأوراق الحادثة كلها مع العمّة.. ثم استشيري محامياً من عرب فلسطين المحتلة عام 1948، حول الاسترداد أو التعويض في القانون الإسرائيلي، وحاولي إقناع العمّة بإعطائك أوراقاً تثبت جنسيّة والدها التشيلي، وملكيته لعقار هناك.

الأوطان ضاقت على وجودنا، والخطر يتزايد على شبابنا.

والهجرة هوس أصاب العائلة ومنذ إعلان دول أميركا الوسطى والجنوبية منح مواطنتها، لمن تجنّس أجداده بواحدة منها.

لا يشبه ما في الكتب مدينة تسكنني... أهمل التاريخ تفاصيل أيامها، واختصر المؤرخون، ترفعاً أو بسوء نيّة، روايات من سكنوها... سقطت قصص الناس من سطور أحداثها الكبرى، أضاعها البشر، فغابت من التاريخ تلك الحكايا الصغيرة، تبعثرت فسيفساء تسطّر ملاحم الناس وسيرهم، بهتت وغابت في سطوة السياسة وصانعيها.. وجافة كتبهم.. فمن يغفل نمنمات الأيام يعطل الخيال ويحبس الأفكار... تسربت الأحاسيس من جفاف التاريخ المُدوّن، وتلاشت منه العواطف.

والعمّة من زمان المخاضات الكبرى، والتحولات العاصفة، ولدت والقدس تخلع عهداً وتعيش آخر، فتشابكت في أيامها خطوط السياسة والدين، وتغيّر المجتمع وتبدّل الأحوال والأفكار ونمط الحياة.. فرشاة سوريالية لوّنت المدينة ببشر وأقوام فاض عنهم سورها العتيق.. وفي توالي الحقب وتغيّر الحكام وتتابع الأحداث طغت فقاعات العام على الخاص كله، فطمرت قصص الناس وبعثرتها مثلهم.

راوية بنت عيسى ستزور القدس لفيلم جديد، وستعيش مع ميلادة في الحوش.

من رحم الماضي تولد رؤى وظلال أشخاص، وأسئلة تقيّد الخيال، تجهض كل تصوّر للآتي.. وزوابع القلق زئير.

العمة ميلادة ووالدها سالم، وأخواها حبيب وابراهيم والمرج، ومدّ سكة حديد يافا القدس، طرائف لم تغب عن أي اجتماع للعائلة.

أنهار من ذكريات فاضت في انتظار زيارتي... أيقظت طفولات غارت في الزمان، أسرار حوش أبو نجمة، ودفق حكايات حملت بؤسها والمرح.

يشعل الوقوف على عتبات الكهولة حنيناً جارفاً إلى عمر مضى.. وعلى حافة النهاية تسطع قصص البداية، نوادر جهالة ومرح براءة... ويقاوم الكبر زحف النسيان باجترار ماضيه، فيغرق بها شطآن الحاضر بلا ملل... وبتحايل خبيث، تختم الكهولة على ذاكرة الآخرين “ولدنة” الطفولة، لعلّ بصمة منها تصمد للزمن، فتروي الأجيال ما سطره الأسلاف، بتفاخر لما تركوا، أو تحسّر على ما أضاعوا، قبل أن تتناثر قصص الآباء والأجداد فوق أرصفة الحياة، وعلى جنبات الانشغال.

أنا والنسيان في سباق على ذاكرة امرأة وحيدة، بيننا البعد والاغتراب وأوضاع المدينة.

مشروع زيارتي المقدس شغل عائلة أبو نجمة، القاصي منها والداني، ربط المقيم بالمهاجر. أعاد صلات أضاعها الشتات في ثنائي القارات.. أيقظ  ذكريات وأحيا آمالا بالتعويض والهجرة.

 فيض من نصائح شغل هاتفي: فرصة لن تُعوّض.. لا وراك ولا قدّامك.. لو تكلمت العمّة فستعوّض بحكايا لا يعرفها غيرها.

وعاشقة الحكايا أنا.. أمارس لعبة الخلق من سطور الآخرين.. أتخيّل شخصيات كما لا يراها أحد، أتقمّصها ثم اترك لغيري أن يجسّدها برؤيتي.. مخرجة عازبة.. لا أعترف بأي عام يغافلني ليقفز فوق الأربعين. أثارت أفلامي انتباه النقاد وإن ظلت دون طموحي.. وحلمي الأكبر إنتاج فيلم عن القدس، عن بشر ومدينة، أحصل به على جائزة عالمية واعتراف بمسيرتي.. وكثيراً يخامرني الأسى، ففي لهاثي خلف حلم منع تحقيقه واقع البلاد، أضعت فرص حب بدت لي واعدة.

فوق غمامة من حلم سكن دقائقي والساعات، أنتظر زيارة من قالوا إن حاضرها ينساب إلى ظلمة نسيانها.

أتقصدين ميلادة الحنش؟ تساءل القريب العجوز بدهشة.

لقب العمّة تاه في الهروب الكبير، تسرّب على مفارق الهجرة والشتات.. وما لا يتداوله أهل القدس من قصصهم يضيع في زحام أحداث مدينة عادتها تبدّل الوجوه، وتتزاحم الحكايا في توالي الحروب عليها:

ميلادة الحنش؟!

لقب للعمّة انتشلها العجوز من عمق الذاكرة، فاختلفت في تفسيره روايات العارفين.

كان هذا في عين كارم وميلادة صبية.. حلوة ميلادة؟ لا.. جذابة؟ نعم.. كانت إذا مرّت في طريق، أو دخلت مكاناً، تابعتها عيون النساء قبل الرجال، مختلفة عن بنات جيلها؟ أكيد.. قوية وكاسرة؟ صحيح.. والقصة وما فيها أن ميلادة خرجت تتنزه في أحراش دير المسكوب...

back to top