سماء قريبة من بيتنا

نشر في 07-05-2016 | 00:01
آخر تحديث 07-05-2016 | 00:01
No Image Caption
كان يوم الاثنين 1947/4/28 يوماً ربيعياً مشرقاً من أيام حلب. الشمس تحتجب وراء غيوم بيضاء هادئة، وتسمح بتمرير الدفء الذي دعا كثيراً من الناس إلى ترك متعلّقاتهم في ذلك العصر، والخروج للتريّض حول النهر، في الموقع الذي سيصير بعد سنوات حديقة عامة من أشهر حدائق الشرق، تحاكي حدائق قصر “فرساي” الخلابة.

تقع الحديقة في حي العزيزية، الذي يحتلّ قلب المدينة، وتطلّ على طرفها الشمالي، باتجاه محطة القطار، شرفة الفيلا الأنيقة ذات الحجر الورديّ الحلبيّ، التي تعود ملكيتها إلى المحامي بهجت الحفّار.

ساعتان لا أكثر، تواطأت سماء نيسان مع المتنزهين، بعدها أبرقت وأرعدت، وجاء المُزن بمائه، حين رنّ هاتف بهجت بيك رنيناً متواصلا. دخلت مديحة خانم زوجته، بصينيّة عليها فنجانا القهوة المسائيان، وكأس ماء ومزهريّة صغيرة فيها زهرتا فلّ ناصعتا البياض. كان زوجها قد أغلق للتوّ سمّاعة الهاتف، وغادرت الطمأنينة ملامحه. أنتظرها حتى ترتاح في جلستها، وتضع القهوة أمامه. أخذ رشفة من فنجان، وفعلت مثله ثم قال بصوته الرزين:

جهزي نفسك والأولاد سنرحل إلى دمشق.

اضطربت مديحة خانم قليلا، لكنها حافظت على ثباتها، فقد أعدّت نفسها منذ أيام لاستقبال مثل هذا الخبر، بل كانت جاهزة لحالات الطوارئ، منذ أن أوغل زوجها في درب السياسة.

العام الفائت كان عاماً صاخباً في حياة السوريين، واستمرّ صخبُه سنوات تلت، حين انقسمت “الكتلة الوطنيّة” على نفسها، وانشقّ عدد من أفرادها، وكوّنوا “حزب الشعب”، وبقي الآخرون ضمن حزب يحمل اسم “الكتلة الوطنيّة” ذاته. ونهض حزب الشعب على أكتاف مجموعة من البورجوازيين يملكون مصالح خاصة في إعلان الوحدة الاقتصادية مع العراق، وعلى رأسهم ناظم القدسي، ورشدي كيخيا، الأمر الذي عارضه بهجت الحفّار بشدة، وهو يعلم أنّه في موقفه هذا سيتعرّض للنبذ من قواعد الحزب قبل قياداته، والتي يتركّز ثقلها في حلب، مسقط رأسه، وربما يتجاوز الأمر النبذ والمقاطعة إلى مواقف أشدّ عنفاً، فقرر أن يغادر حلب ليعيش وأسرته في دمشق، حتى تستقر الحياة الحزبية في سورية من جديد.

منذ وصوله إلى دمشق، بدا الأصدقاء الحلبيون يترددون إلى منزل بهجت بيك، من موظفين كبار في الحكومة، وسياسيين، وأساتذة في الجامعة السورية، يبحثون عن طيف مدينتهم الذي ما زال طازجاً في هذا المكان، ويلملمون تفاصيله من ثنايا الجلسات والأحاديث، التي كانت السياسة تطغى على معظمها، ويليها مباشرة الحديث عن الطبخ وفنونه، إذ يُجمع الحلبيون، كما يُجمع غيرهم، على أن المطبخ الحلبيّ لا يتفوّق عليه في اللذة والإتقان والتنوّع، مطبخ في العالم على الإطلاق.

كان بهجت بيك، تحسّباً للقادمات من الأيام، قد اشترى منزلا واسعاً منفرداً عن بقيّة المنازل في شارع شُقّ حديثاً، يربط بين “المهاجرين” و”الصالحية”، الحيين الدمشقيين العتيقين، ويقع هذا الشارع تحديداً في حي “أبو رمانة”، على مقربة من ضريح الوليّ الصالح المجهول، والذي ظللته منذ أمد بعيد  شجرة رمّان، فأكسبته الاسم الذي تمّ تبديله إلى شارع الجلاء بمناسبة جلاء القوات الفرنسية عن سوريةـ ولكن هي عادة الناس، إذ يحبّون استخدام السماء القديمة التي استقرّت في الذاكرة.

كان من حسن حظ بهجت بيك أن تستحدث الحكومة دار الإذاعة اللاسلكية في ذلك العام، وأن تفتتح معهد الموسيقى التابع لها، وأن تستقدم من حلب الشيخ عمر البطش، صديقه العزيز، ليدرّس في المعهد فن الموشحات!

كان الشيخ عمر البطش يحفظ ما يزيد على ألف موشّح، وكان قد أتمّ ما عجز سيّد درويش عن صياغة خاناته من موشّحات ذاع صيتها فيما بعد، مثلما تلقى عن أستاذه صالح الجدبة الحلبيّ فنّ رقص السماح، فنقله من التكايا إلى المسارح الموسيقيّة، وصار يتردّد على منزل صاحبه بهجت بيك، يستعيدان مع مجموعة من الأصدقاء، صدى جلساتهم الحلبيّة التي تتجدّد بكل ما يحمله لهم عبقريّ الفن الصيل. يتصدّر عمر البطش المجلس محتضنا ًعوده الثمين، الذي أهداه إياه في شبابه، جمال باشا الصغير، حاكم سورية، يدوزن أوتاره ويبدأ بالغناء.

كلما ضمّت سهرات الخميس التي صارت تعقد في منزل بهجت بيك، ضيوفاً جدداً، كان صاحب الدار يطلب إلى الشيخ عمر أن يحدثهم بحديث الواقعة الشهيرة التي وقعت بينه وبين محمد عبد الوهاب، فيبدأ صاحب البذلة الإفرنجية والطربوش التركي الأحمر، الحديث بصوته الرخيم، مشدداً فيه على حرف الجيم تحديداً ليقول:

في العام 1934 زارنا المطرب محمد عبد الوهاب، وأقام حفلات غنائية في كل من حلب ودمشق. وفي حفلته الأولى بيننا، دخل القاعة، ففوجئ بها فارغة من الجمهور، بضعة عشر شخصاً لا غير، فغنى على مضض، وهو المعتاد على الغناء أمام حشود. لكنه في الحقيقة ابدع فيما غنّى، فتحلّقنا حوله، وقلنا له، وهو في حيرة من أمره، إنه اجتاز الامتحان، وإنه سيجد في حفلته الثانية، القاعة وقد غصّت بعشّاق الفنّ.

حفظها لنا عبد الوهاب، وحين دعوناه لقضاء سهرة طرب حلبيّة لنسمعه روائعنا، سألنا، وكان معي الشيخ علي الدرويش، بأن نسمعه موشحاً من نغمة “السيكاه” الأصلية الصافية!

بُهت الحضور لهذا الطلب، فليس ثمة موشح على نغمة “السيكاه” الأصليّة إلا وخالطته نغمة “الخُزام” كما يسمّيها العرب، أو “الهزام” كما يسميّها الترك، فالسيكاه الصافية صعبة جداً ليتمّ توشيحها! لكني انبريت وقلت له: أبشر! غداً نسهر، وأُسمعك منها.

حينما انتهت السهرة، وبّخني الشيخ علي درويش بشدة على تبجحي:

إنك تعلم جيداً أنه لا يوجد موشّح سيكاه أصلي، فما الذي ورطتنا فيه؟

أليس من المعيب أن يكون عبد الوهاب في حلب ولا يسمع العجب!

سهرت طيلة الليل حتى أنجزت موشحين، ألفتهما ولحنتهما بنفسي من مقام السيكاه الأصلي بلا نغمة الهُزام، واستدعيت جماعتي من المنشدين، فحفظوا الموشحين، ولما حانت السهرة، أدّوهما بشكل عظيم، فانبهر عبد الوهاب، لقد سُرّ سروراً كبيراً، كأنما ملك علم اللحن في تلك الليلة.

بعد ذلك، يبدأ الشيخ عمر البطش بدوزنة أوتاره ويصدح بأحد الموشّحين:

رمى قلبي رشا أحور

يا لا لا لا لا لا يل ليل

بأهداب العيون

يا لا لا لا لا يا لا لا يا لا لا  لي

العيون، العيون السود

يا ليل يا ليل آه يا لا لا لي

ومعسول الّلمى كوثر

لكن ليس بالمورود...

في غمرة تلك السهرات البهيجة، والتي لا ينغصها سوى همّ السياسة، كانت الطفلة ذات السنوات الخمس، تجلس مع أمها وإخوتها في الغرفة الصغيرة، المجاورة للصالة الرئيسة، تستمع لذلك الغناء، وكثيراً ما تتسرّب من مكانها، وتقترب من الباب، أو تدخل لترقب المشهد، أو ترقص في مكان قصيّ من غير أن يأبه لوجودها أحد.

تلك الفتاة الصغيرة، ستتعلم فيما بعد العزف على العود، وستؤدي مع رفيقاتها رقصة السماح على مسرح مدرسة (دوحة الآداب)، في حفلتها السنوية، وسيعجب الحاضرون أيّما إعجاب، حينما تُنشد ووراءها فرقة صغيرة من البنات الدمشقيات، موشح ابن زيدون “لم يكن هجري حبيبي قِلى” الذي وضع لحنه صديق والدها، الشيخ عمر البطش. سيصفقون لها كثيراً حينما يرتفع صوتها، الموقّع بإيقاع الطفولة:

يا فتيت المسك يا شمس الضحى

يا قضيب البان يا ريم الفلا

إن يكن لي أمل غير الرضى

منك، لا بُلغت ذاك الأملا

تلك الفتاة الشقراء ذات الشريط الورديّ في شعرها، والجوربين الأبيضين القصيرين ستصبح فيما بعد السيّدة “شهيرة الحفّار” التي كانت جنازتها هذا اليوم.

back to top