ريمون شبلي: أنا ابن اللحظة الحاضرة لكنني أرفض إلغاء الشعر التقليدي

نشر في 04-05-2016 | 00:01
آخر تحديث 04-05-2016 | 00:01
منذ ديوانه الأول «وطن الجراح» (1980) وحتى ديوانه الصادر حديثاً «أشدو... وأشتاق»، عشرات الدواوين، ينتهج فيها الشاعر ريمون شبلي نهجاً خاصاً قوامه التمسك بأصالة الشعر التقليدي وإضفاء طابع الحداثة من خلال الكلمة المعاصرة، غايته إخراج الشعر من جموده ودفعه قدماً في مواكبة العصر من دون أن يفرغه من جذوره التي تمتد عميقاً في التاريخ والتراث. بعد علاقة طويلة مع الكلمة بدأت منذ الطفولة ولمّا تنتهِ بعد، وضع ريمون شبلي الكثير من ذاته في شعره، أراده لغة تعبير عن فرحه، عن ألمه، وأكثر من ذلك أراده مالئاً فراغ الغياب، غياب الأحبة عن هذه الحياة، فكتب قصائد ووجدانيات وتأملات في الحب والوطن وتعامل مع الزمن من منطلق الند للندّ، تمرّد عليه فصار الغياب عنده حضوراً بالفكر والروح والعقل، أي حضور دائم وأبدي، فامتاز شعره بتناغم بين جمالية الكلمة وفلسفة الوجود.  لريمون شبلي مؤلفات أخرى في النقد الأدبي: «هوامش على عالم الشعر والقصيدة» (1992)، «جورج غانم في حجر الحب والقصيدة» (1994)، «شرابيات» (2014)، وهو دراسة في تراث الشعر العامي وما يعرف بـ{الزجل» و{القرادة». كذلك له مؤلفات نثرية: «هل؟» (مقالات- 2004)، «عسى..!» (مقالات وجدانية تأملية- 2005)، «هؤلاء... ويثقبون الذاكرة»! (2010)، «هؤلاء... ويثقبون الذاكرة» (الجزء الثاني- 2014).

«أشدو... وأشتاق» لماذا هذا العنوان؟

لأن الديوان عبارة عن تأملات نابعة من الوجدان، لكنها لا تنحصر فيه إلى حد ما بل تتخطاه إلى الأبعد، إلى الله، إلى المطلق. ترمز كلمة أشدو إلى أن الشاعر عندما يكتب يكون كمن يغني، واشتاق طبعاً إلى الأحباء الذين رحلوا، والشوق نوع من الانتظار، والانتظار رجاء، لذلك الشعر هو شعر قيامي رجائي.

ما الذي يدفعك إلى الكتابة؟

أكتب تحت تأثير حادثة أو فعل لكن لا أنفعل، بل أعبر بالرموز عما يجيش في قلبي من حب وذكريات، فالليل عندي مكمل للنهار، والطائرات الورقية تنقلني على أجنحة ألوانها إلى الطفولة، الريح تعني القوة والحرب، اللون الأخضر رمز الحياة والرجاء، والعينان الخضراوان للمرأة في شعري ترمزان إلى الحياة والنضج والربيع والانبعاث.

وما الذي حرك قلمك لكتابة ديوانك الأخير؟

غياب أحباء لي عن الحياة، يتضمن قصائد عن الوالدين وعن أصدقاء رحلوا عنا، بعد ذلك أتخطى الإطار الأشمل وأتناول الموت عموماً، الحياة ما بعد الموت، الحضور الإنساني من خلال البصمة التي يتركها كل شخص أثناء مروره في الحياة، سواء فكرية أو فنية أو إنمائية.

 ولأن البيئة باتت الشغل الشاغل لنا بعد التشويه الذي لحق بها كتبت قصيدة «مراسي الأماني» وهي استشراف للغد، وتحذير من التمادي في تخريب البيئة الذي قد يصل إلى تخريب الكرة الأرضية. هنا ألوم الإنسان الذي يفكر بمصلحته فحسب، ولا بد لنا من الصلاة ليرتد عن ضلاله ويعود إلى عقله ويعمل للخير. وأختم الديوان بقصيدة «القلم» رفيقي الدائم في حلي وترحالي، في أوقات فرحي وحزني، ولن أتخلى عنه حتى الموت.

 

ماذا يعني الغياب بالنسبة إليك؟

الديوان خلاصة نحو 15 سنة من الكتابة حول الغياب، سبقه ديوان «أغنية فراغ» (1992) الذي يضم قصائد في الحياة والموت والرجاء والقيامة. انبثقت الفكرة عندي في بداية الثمانينيات، عندما حرّك موت والدي وجداني وأثّر بي. بعد شهرين تقريباً، أي حين هدأت عاصفة الحزن بعض الشيء، بدأت أكتب حول فكرة الموت والحياة. وفي أثناء الحرب التي عشناها في لبنان على مدى سنوات طويلة، لاحظت أننا تآلفنا مع الموت وأصبح يرافق يومياتنا، نظراً إلى أعداد القتلى الذين يسقطون، فضلا عن موت الوطن... فغصت أكثر في فكرة الموت لكن لم أتناوله من خلال الانكسار والألم، بل من خلال الرجاء والانتصار على العدم.

إلى أي مدى أدت البيئة دوراً في توجيه أفكارك نحو أمكنة معينة؟

إلى حدّ كبير، الإنسان ابن بيئته ومجتمعه وزمانه، يتأثر بها ويتفاعل معها وينفعل إزاء الظروف التي تواكبه وتترك أثراً فيه، ولدت في بيئة مؤمنة وعائلة مؤمنة، وترك ذلك كله أثره الكبير في نفسي، وأنا اليوم أعيش امتداد هذه البيئة التي طبعتني بطابع خاص قوامه انتظار الآتي من الأيام ببريق الرجاء.

اللحظة الشعرية

كيف تحدّد اللحظة الشعرية؟

ثمة أشخاص يستحضرون اللحظة الشعرية ويكتبون، فيكون إنتاجهم غزيراً، وكثر يكتبون تحت الطلب، فيما أنا تستحضرني اللحظة الشعرية لا أعرف متى أو كيف أو لماذا. أحياناً أكتب ديواناً في غضون شهرين وأحياناً أخرى أبقى فترة طويلة قبل أن أمسك بالقلم وأخط على الورق شعراً أو نثراً.

اللحظة الشعرية عندي هي عندما تلتمع فكرة ما في رأسي، تحت تأثير حادثة معينة، فاتركها تتخمر من ثم أكتبها بعفويتها، بعد فترة قصيرة أعود إليها وأجري عليها بعض «الرتوش». أشبّه الفكرة بامرأة جميلة بطبيعتها إنما تضع على وجهها مسحات من الماكياج الخفيفة لتبدو أجمل.

ماذا يعني الشعر بالنسبة إليك؟

الشعر ليس خطاباً أو مقالة أو نثراً موضوعياً عادياً، للشعر شخصيته القائمة على عناصر عدة من بينها الكلمة العصرية. أنا معاصر ولا أريد أن أسكن الماضي وأحبس نفسي فيه. في المقابل، لا أعتبر نفسي من شعراء الحداثة الذين يريدون إلغاء القديم كلياً والتنقل بين العدم والعبثية. أنا أجمع الأزمنة كلها، لست مقطوعاً عن الماضي إنما آخذ منه المفيد والجميل الذي يغنيني ويغني شعري، وأعيش الحاضر ومنه أطل قليلا على المستقبل. أنا ابن الحاضر، أحاول تجميله وإضافة بعض الضوء إليه المنبثق من عراقة الماضي.

إلى متى ترقى علاقتك بالكتابة؟

إلى 45 سنة تقريباً. في البداية، كنت أكتب وأمزق الورق وأرميه في سلة المهملات، واستمريت على هذه الحال إلى أن أصبحت كتاباتي تتمتع بحد أدنى من المستوى الشعري، فطبعت ديواني الشعري الأول «وطن الجراح» (1980) وتضمن قصائد مستوحاة من فترة الحرب التي عشناها بين 1975 و1978، وتركت أثراً مؤلماً فينا.

تعبر في كتابتك من خلال الرموز، لماذا استخدام هذه اللغة؟

في الرموز إيحاء وجمالية، استخدمها لأترك مجالا للقارئ ليسبح بفكره إلى أماكن لامحدودة وأوقظ فيه الخيال، فلا أحصره في مجال معيّن. الشعر كلمة والأهم التركيب اللغوي والصور والرؤية التي تغوص في المعنى الإنساني، كل ذلك يشكل أسلوب الشاعر الذي يختلف عن شعراء غيره بطريقة تعبيره عن النفس والفكر وعن الجماعة التي يعيش بينها.

من خلال شعري أحاول نشر ثقافة الحب، حب الوطن والأرض والإيمان والقيم الإنسانية.

الزمن والطبيعة

للزمن في شعرك موقع بارز، لماذا وهل تخشاه؟

نمرّ في الحياة ونشيخ مع الأيام ويمضي العمر، والزمن عملاق يحمل إزميلاً ويحفر فينا ويترك أثره علينا. الخوف من الموت يجعل الإنسان قلقاً إنما إذا بقي حبيس قلقه وخوفه سقط في الموت والعدم. بما أنني ترعرعت في بيئة مؤمنة، محا الرجاء عندي الخوف وصار الزمن بمثابة عبور إلى مكان آخر أفضل، إلى الكمال والسمو... من الضروري أن نتذكر دائماً الموت، لنرتدع عن ارتكاب الشرور، ونتطلع إلى بعضنا البعض بحبّ وخير...

الزمن محتم علينا وهو يأكلنا، يمرّ العمر بسرعة، وكلما تتالت السنوات أشعر بأنني اقترب من الموت أكثر، لكنني لا أخشاه، بل أخشى كيفية الموت.

ما مفهومك للشعر اليوم؟

الشعر أسلوب، المضمون نفسه في تمحوره حول القضايا الإنسانية المختلفة، إنما اختلفت اللغة، وسيطرت الكلمة المعاصرة التركيب المتميز ببساطة وأناقة وجمال ورقي وبعض الحذف، أي تُستعمل إشارات وتلميحات، ويبقى دور ولو صغير للعقل.

للأسف ثمة استخفاف بالشعر، اليوم، ونلاحظ أن قلة من دور النشر تطبع دواوين شعرية، فيما في الستينيات كان الشعر في أوج ازدهاره، وكانت تنظم مهرجانات شعرية في قصر اليونسكو في بيروت، فيما اليوم يكاد الشعر يكون مجمداً ومرذولا. صحيح أن الشعر يجب أن يكون مرآة عصره، أي أن يتحرر اليوم من الكلاسيكية نظراً إلى تطور العصر لكن في المقابل يجب ألا يُفرّغ من مضمونه ويصبح سطحياً وعبثياً، بل أن يأخذ الأصالة التي تتميّز بها الكلاسيكية في جوهره، ويأخذ طابع التحرر في شكله.

تستخدم في شعرك صوراً من الطبيعة، فما علاقتك بها؟

أنا ابن الطبيعة وكانت ملعب طفولتي ومسرح شبابي وهي اليوم ملجأي. الطبيعة جزء مني، تعلمت منها نقاوة الفكر والعطاء اللامحدود، وفي أحضانها استوحيت قصائد كثيرة. منذ طفولتي تفتحت عيناي على لوحات طبيعية رائعة، لذلك أعشق اللون الأخضر وتفوح من قصائدي رائحة شجر الصنوبر، وتتخذ كلماتي نصاعتها من الثلج الأبيض. سكنتني الطبيعة تماماً كما سكنتها، وعندما أسمع عن حريق يلتهم إحدى الغابات يعتصر قلبي ألماً وأشعر بأنني خسرت صديقاً عزيزاً على قلبي.

back to top