لغز {تشيرنوبيل}... هل الأشعة سيئة بقدر ما نظنّ؟

نشر في 01-05-2016 | 00:01
آخر تحديث 01-05-2016 | 00:01
No Image Caption
من يستطيع أن يتنشّق الغاز المُشعّ طوعاً؟ في هذه الأيام، يقوم البعض بذلك إيماناً منه بفاعلية غاز الرادون رغم أنه يحمل سمعة سيئة وينشأ عند اضمحلال اليورانيوم: يتنشّقه المتطوعون بعمق!

يعاني معظم الأشخاص الذين يصدّقون منافع الأشعة العلاجية مرضاً التهابياً مزمناً مثل التهاب المفاصل أو الربو أو داء الصدفية. بحسب رأيهم، يخفف الغاز مشاكلهم طوال أشهر، لذا يجلسون في فقاعات من مياه الرادون في بعض المنتجعات العلاجية. في {باد كروزناخ}، في ولاية {راينلاند بالاتينات» الألمانية، يدخل زوار المنتجع الشجعان في أنفاق منجم زئبق مهجور بعدما جذبهم هواء الجبل المليء بالرادون. هل هم مجانين؟

اتّضح الآن أن هؤلاء محقون لأن النشاط الإشعاعي يفيدهم. إنها نتائج أولية توصّلت إليها تجربة مستمرة وواسعة النطاق أجراها باحثون من أربعة معاهد ألمانية بقيادة كلوديا فورنييه، اختصاصية في علم الأحياء الإشعاعي من «مركز هيلمهولتز لبحوث الأيونات الثقيلة» في دارمشتات.

هكذا، بعد 30 سنة على كارثة «تشيرنوبيل»، اتّضح أن النشاط الإشعاعي أقل ضرراً مما كنا نظنّ. حتى أن بعض الباحثين يعتقد أنه قد يكون مفيداً عند التعرّض له بجرعات صغيرة. التفاصيل التالية عرضتها «شبيغل».

حمّامات الرادون محصورة بفئات

بعد 30 سنة على كارثة تشيرنوبيل، تُعتبر هذه النتيجة مفاجئة. منذ ثلاثة عقود، هطلت أمطار إشعاعية خفيفة في نصف أوروبا الغربية. وتعلّم الرأي العام أن يعتبر النشاط الإشعاعي الشامل خبيثاً إلى أقصى الدرجات. لكن تبيّن الآن أن مصادر الأشعة لا تكون كلها سيئة. يبدو أن الجسم يستطيع التكيّف مع جرعات متدنية من غاز الرادون. توضح فورنييه: {نتابع البحوث لاكتشاف الأضرار المحتملة على الجينوم، لكننا لم نرصد شيئاً حتى الآن}.

كانت حمّامات الرادون تُعتبر في السابق جزءاً من المسائل المثيرة للفضول في مجال الطب التجريبي، واشتبه كثيرون بأنها محصورة بفئات معينة. لكنها قائمة منذ فترة طويلة. قبل قرن من الزمن، روّجت أولى المنتجعات المماثلة لأشعتها التي تتمتع بقدرة على الشفاء من الأمراض. لكن بعد سقوط قنبلتين ذريّتين على اليابان ووقوع عدد من الكوارث المرتبطة بالمفاعلات، حصد العلاج بالأشعة سمعة سيئة. في أفضل الأحوال، اشتبه الباحثون بأن حرارة الأنفاق هي التي منحت المرضى بعض الراحة المؤقتة.

لا تزال الرسالة الرسمية جازمة: وفق القاعدة الثابتة في هذا المجال، يبقى النشاط الإشعاعي خطيراً، حتى لو استُعمل بجرعات صغيرة. ما من عتبة واضحة لتحديد مستوى الضرر. حتى الخلية المتضررة الفردية قد تتحول في النهاية إلى ورم.

يشتقّ ذلك القياس النموذجي لمستوى المخاطر بشكل أساسي من دراسة انطلقت في عام 1950، بعد سقوط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي. في تلك السنة، بدأت دراسة شارك فيها 86 ألف ناجٍ ولا تزال مستمرة حتى اليوم، وقد أثبتت أن خطر السرطان يرتفع مع زيادة جرعة الأشعة.

لكن من الناحية الإحصائية، لم يتّضح أثر الأشعة إلا عند استعمال جرعات مرتفعة نسبياً، بمعدل مئة ميلي سيفرت (وحدة يستعملها علماء الأحياء لقياس آثار الأشعة على الجسم)، أي أكثر بخمسين مرة من الجرعة التي يتلقاها الشخص العادي كل سنة في ألمانيا من أشعة الخلفية الطبيعية.

بدءاً من عتبة مئة ميلي سيفرت، يسهل توقّع نسبة الخطر: إذا تعرّض مئة شخص لتلك الجرعة من الأشعة، من المتوقع أن يرتفع خطر إصابتهم بالسرطان أو اللوكيميا. لكن تحت تلك العتبة، يزداد الوضع تعقيداً. يقول فيرنر روم، مدير {معهد الحماية من الأشعة} بالقرب من ميونيخ: {لا نعرف بكل بساطة كيف يتجاوب الجسم مع جرعة أخفّ من الأشعة}.

حدود الإحصاءات

يمكن أن تؤدي جرعة بسيطة تقتصر على 10 ميلي سيفرت إلى زيادة معدلات السرطان. لكن لن تظهر هذه النتيجة في الإحصاءات. يوضح روم: {يكون السرطان المرتبط بأسباب أخرى شائعاً جداً بكل بساطة. يصاب به أكثر من 40% من الناس في مرحلة معينة}. تتفاوت نسبة الخطر كثيراً بحسب أسلوب الحياة: في أوساط المدخنين مثلاً، يكون الخطر عالياً جداً. وبين كل ألف حالة سرطان، يصعب أن نؤكد وجود حالة خفية يمكن نَسبها إلى طفرة خلوية تسبّبها الأشعة}.

يضيف روم: {لكن يطالبنا المجتمع طبعاً باستنتاجات واضحة. لذا ندّعي أننا نستطيع احتساب نسبة الخطر المرتبطة بأبسط جرعة حفاظاً على السلامة العامة}.

تحمل النتيجة قيمة رياضية محض لكنها جيدة بما يكفي لاستخلاص القواعد ورسم حدود تُعتبر ضرورية. يقول روم: {في مطلق الأحوال، لا نملك طريقة أفضل من ذلك}.

لكن ليس منطقياً أن نطرح هذا النوع من الأرقام المجرّدة أمام عامة الناس غداة الكوارث النووية، كما يفعل الأشخاص الذين اعتادوا على توقّع حوادث مشؤومة. بعد حادثة تشيرنوبيل، سرت توقعات مريعة عن الضحايا. أدى ضرب نسبة خطر ضئيلة جداً بـ600 مليون أوروبي إلى توقّع مئات آلاف حالات السرطان الإضافية، لكنه عدد وهمي طبعاً. ربما لم تُسجَّل ولو حالة. لا نعرف الحقيقة بكل بساطة.

يظن بعض الباحثين أن الفرضيات الأساسية وراء تلك الحسابات خاطئة، من بينهم راينهارد ويتزكر رئيس {معهد علم الأحياء الخلوي الجزيئي} في جامعة {يينا}. يقول: {لا يمكن التمسك بنموذج قياس الخطر التقليدي لأنه لا يأخذ بالاعتبار براعة الخلايا في التعامل مع جرعات متدنية من الأشعة}.

تتعلّق أبرز نتيجة مرعبة بتضرر الجينوم. لكن بالنسبة إلى الجسم، حتى ذلك النوع من الضرر لن يكون حدثاً مأساوياً بالضرورة على المدى القريب. تختبر كل خلية هذه الظاهرة آلاف المرات كل يوم. ويأتي الهجوم من الداخل في مناسبات متكررة بما يكفي: يؤدي استقلاب الخلايا إلى نشوء جزيئات عدائية لا تكفّ عن إضعاف الحمض النووي وتُسمّى جذور الأوكسجين الحرّة.

لهذا السبب، تنشط آليات صغيرة لصيانة هذه العملية على مدار الساعة: تصحح بروتينات خاصة الأجزاء الشائبة من الجينوم، بينما تصحح بروتينات أخرى السلاسل المقطوعة. حين تفشل الطرائق كافة، تطلق العناصر التي تحرس الجزيئات ظاهرة موت الخلايا المبرمج.

مخاوف في غير محلها؟

عموماً، ثَبُتَت فاعلية تلك الآليات التصحيحية ما دامت تبقى جرعة الأشعة متدنية. تبيّن أيضاً أن الخلايا التي تم إصلاحها سابقاً تصبح مستعدة لمواجهة الاعتداءات اللاحقة. هل تُعتبر المخاوف في غير محلها إذاً؟

تظنّ فورنييه أن الوضع مضلِّل: {العنصر الذي يقوي الخلايا لا يساعد الإنسان بالضرورة. إذا خاضت تلك الخلايا تحولاً معيناً، قد تصبح مصدراً للسرطان لاحقاً}.

لكن من المعروف أن السيناريوهات القاتمة بشأن ضحايا العصر النووي لم تتحقق. بل إن أكبر كوارث ذلك العصر أنتجت عدداً صغيراً ومفاجئاً من الضحايا.

كل من يسافر إلى تشيرنوبيل اليوم سيشعر بأنه يدخل إلى جنة طبيعية. في المنطقة المحيطة بالمفاعل الذي شكّل بؤرة الكارثة، انتشرت مجدداً الذئاب وخيول من فصيلة برزوالسكي، وحتى حيوانات البيسون والوشق الأوروبية تسللت الآن إلى غابات غير مأهولة. اليوم، تفوق الحيوانات التي تعيش في هذه المنطقة ما كانت عليه قبل الكارثة. يبدو أن الأشعة التي تحافظ على مستوى مرتفع لا تضرّ الطبيعة بقدر البشر.

بدأت الكارثة بانفجار {الوحدة الرابعة} في 26 أبريل 1986. حاول رجال الإطفاء إخماد النيران وإغلاق نواة المفاعل المفتوحة. تعرّض عدد كبير من المنقذين لجرعات هائلة من الأشعة ومات 39 منهم نتيجة لذلك بحلول عام 1998.

لكن تبقى زيادة حالات السرطان في المنطقة بعد تلك الحادثة مسألة غير مؤكدة. لم تثبت الإحصاءات هذه الفرضية، إذ لم ترصد البحوث حتى الآن زيادة في حالات السرطان بين الناس. إنه الاستنتاج الذي توصلت إليه {لجنة الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذري} في عام 2011. لكن ثمة استثناء: أصيب أكثر من 6 آلاف طفل بسرطان الغدة الدرقية بعد تلك الحادثة ومات 15 منهم. يمكن ربط عدد كبير من الحالات باليود المشعّ الذي حملته الرياح إلى المنطقة في الأيام الأولى. لكن يسهل أن يُعالَج هذا الورم عند اكتشافه في مرحلة مبكرة بما يكفي.

لوحظ ارتفاع في حالات سرطان الغدة الدرقية أيضاً في المنطقة المحيطة بالمفاعل النووي المدمَّر في فوكوشيما. في السنة الماضية، خضع نحو 300 ألف شخص كانوا في عمر الثامنة عشرة كحد أقصى في وقت الكارثة للفحص. اكتشف الباحثون 137 حالة. لكن لا أحد يعرف عدد الأورام التي تم رصدها لأنها المرة الأولى التي يحصل فيها فحص دقيق بهذا الشكل.

هل كان قرار إخلاء فوكوشيما خاطئاً؟

على صعيد آخر، كانت عواقب كارثة المفاعل في فوكوشيما ضئيلة نسبياً. مات نحو 19 ألف شخص في المنطقة، لكنهم وقعوا ضحية زلزال حصل في 11 مارس وتَبِعته موجات تسونامي. حتى الآن، يبدو أن أحداً لم يمت بسبب الأشعة التي أنتجتها محطة الطاقة النووية. احتكّ عاملان بالمياه المشعّة لأنهما كانا ينتعلان أحذية بكاحل قصير، فدخلا إلى المستشفى بعد إصابتهما بحروق طفيفة لكنهما خرجا سريعاً. في المقابل، مات كثيرون بسبب عملية الإخلاء الشاملة. اضطر نحو مئة ألف شخص من المقيمين في المنطقة المحيطة بمحطة الطاقة إلى إخلاء منازلهم: أُخرِج المرضى من وحدات العناية المركّزة وكبار السن من مراكز الرعاية وتفرّقت العائلات. واضطر البعض إلى تغيير مكان إقامتهم بشكل متكرر. كذلك، أصيب عدد كبير من المقيمين في الملاجئ المؤقتة بالاكتئاب وحصلت حالات انتحار.

تقييمات ودراسات

تفترض أكثر التقييمات تحفظاً حصول 150 حالة وفاة على الأقل. استنتجت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد سقوط 600 ضحية بسبب عملية الإخلاء مقارنةً بثلاثين ضحية على الأرجح كانوا ليموتوا بسبب التسمم الإشعاعي لو لم يتم إنقاذهم.

بقي النشاط الإشعاعي في منطقة فوكوشيما منخفضاً نسبياً. وفق {منظمة الصحة العالمية}، أشارت التوقعات إلى أن معدل النشاط لم يتجاوز عتبة 50 ميلي سيفرت في السنة الأولى، حتى في أسوأ المواقع التي طاولتها الكارثة، وقد وصل إلى 10 ميلي سيفرت في المناطق المحيطة الأخرى.

هل كان قرار الإخلاء الشامل خاطئاً إذاً؟ هل كان يجب أن يلازم الناس منازلهم بكل بساطة؟ أم كان يجب الاكتفاء بإجلاء الأطفال الرضع لأنهم يكونون ضعفاء بطبيعتهم؟

يسهل أن نطرح هذه الأسئلة بعد فترة على مرور الكارثة. لكن بالنسبة إلى فريق عنيد من الباحثين، تبدو المسألة واضحة. يظنون أن الأشعة الضعيفة لا تؤذي الجسم بل تفيده. بحسب رأيهم، قد يكون القصف الإشعاعي الضئيل مفيداً: تُنشّط الخلايا أنظمتها التصحيحية وتزيد مستوى يقظتها وحيويتها.

تُسمى هذه النظرية {الإنهاض} (تشتق الكلمة الأصلية من اللغة اليونانية القديمة وتعني {التحفيز}). يلتقي العلماء الذين يتبنّون هذه المقاربة في مؤتمرات خاصة، حتى أنهم يصدرون مجلّتهم. يقودهم اختصاصي السموم الأميركي إدوارد كالابريز من جامعة ماساتشوستس في {أمهرست}.

غالبية من المشككين

يعتبر مؤيدو نظرية {الإنهاض} أن نموذج تقييم المخاطر الراهن تشاؤمي أكثر من اللزوم. بحسب قولهم، تكون أشعة الخلفية الطبيعية التي تنبثق من الكوكب أعلى بكثير من الجرعات العادية في بعض الأماكن، بما في ذلك منتجع {غواراباري} في البرازيل والينابيع الحرارية الإشعاعية في {رامسار}، إيران. إلا أن في هذه الأماكن، ما من مؤشرات على زيادة خطر الإصابة بالسرطان.

لكن لا يقتنع معظم الباحثين المشككين بهذه الفرضية. بل يعتبرون إحصاءات السرطان غير موثوقة عند التعرّض لجرعات متدنية من الأشعة. قد يرتبط بعض الحالات في تلك الأماكن بالأشعة فعلاً، لكن لا يمكن التأكّد منها بسبب تعدد الحالات الناجمة عن أسباب أخرى.

يخشى الباحث روم ألا ينتهي الجدل مطلقاً استناداً إلى الإحصاءات وحدها: {نحتاج إلى تجارب بيولوجية إضافية لفهم آثار الجرعات المتدنية من الأشعة}.

يشير المشروع البحثي بشأن علاج الرادون في {دارمشتات} إلى مسار التجارب المرتقبة. لا يفحص الباحثون ضيوف المنتجعات فحسب، بل إنهم صمموا غرفة مليئة بغاز الرادون خصيصاً للاختبار ووضعوا فيها الفئران وبدأوا يراقبون عمليات زرع الخلايا في مجرى دم اصطناعي.

عند التعرّض للأشعة، تنشأ خلايا معينة وتخفف فرط نشاط جهاز المناعة، ما يمنع الجسم من التحوّل إلى عدو نفسه.

هل يمكن اعتبار هذه النتيجة دليلاً على صحة فرضية {الإنهاض}؟ تقول رئيسة المشروع فورنييه: {تبدو لي هذه النظرية عن الأشعة الإيجابية عامة جداً. لا تزال الآثار الضارة قائمة}. لذا لا توصي بعلاج الرادون للأشخاص الأصحاء: {لكن من الواضح أن المنافع تتفوّق على الأضرار بالنسبة إلى المرضى}.

منافع السموم

    

لا يزال مؤيدو فرضية {الإنهاض} أقلية. لكن تسعى {اللجنة التنظيمية النووية} في الولايات المتحدة راهناً إلى البحث في احتمال إدراج مبادئ مفهوم {الإنهاض} ضمن نموذج تقييم المخاطر مستقبلاً. في السنة الماضية، دعت اللجنة بعض الخبراء إلى تقاسم آرائهم ولا تزال المساعي مستمرة. لكن سبق وعبّرت لجنة فرعية عن رأيها: يجب أن تتمسك اللجنة بنموذجها القائم راهناً. لا يزال مفهوم {الإنهاض} غير مدعوم بالأدلة، حتى لو بدأ يتخذ منحىً منطقياً.

إنه المنطق المستعمل في الأفكار الشعبية القديمة التي طرحها المعالِج باراسيلسوس في القرن السادس عشر، لا سيما الفكرة القائلة إن ارتفاع مستوى الجرعات ينتج السموم. تتعدد العناصر التي تفيد الجسم عند أخذها باعتدال. تصبح المنتجات الغنية بالكافيين المنشِّطة أو الملح مثلاً مواد قاتلة عند أخذها بجرعات مرتفعة.

في عام 1888، لاحظ الصيدلي هيوغو شولز من {غرايفسفالد» أن الخميرة تنمو بعد معالجتها بمبيد مُخفَّف. تأكد من نتائجه بعد إجراء تجارب على سموم أخرى. تحت عتبة معينة، تنعكس الآثار الاعتيادية وتصبح السموم مفيدة.

كان شولز رائداً في طرح نظرية {الإنهاض}، ثم حاول استعمال اكتشافاته لشرح طب التجانس الذي يدعو بدوره إلى أخذ السموم، لكن بكميات ضئيلة جداً. اليوم، يعتبر مؤيدو نظرية {الإنهاض} ارتباك الأب المؤسس لهذا المجال محرجاً.

في جامعة {يينا}، لم يستسلم خبير الكيمياء الحيوية ويتزكر الذي يتابع مع فريقه المؤلف من 24 باحثاً التحقيق بطريقة تفاعل خلايا الجسم مع الضغط النفسي. يحلل ويتزكر عوامل الحر والبرد والجوع والسموم والمواد الإشعاعية: {عند استعمال جرعات صغيرة، تكون هذه التحديات طبيعية جداً بالنسبة إلى الجسم}.

تتفاعل الخلايا بالطريقة نفسها مع جميع أشكال الضغط النفسي، فتغذي في المرحلة الأولى مصدر قوتها، أي المتقدرات، وتنشّط مخزون الطاقة فيها. تنتج هذه العملية جذور الأوكسجين الحرة. يقول ويتزكر: {في الماضي، كانت هذه العناصر تُعتبر سيئة. لكن تحسّنت معلوماتنا اليوم. يكون هجومها كفيلاً بتحفيز عمليات إصلاح الخلايا}.

الحذر مطلوب

يبدو أن هذا الاشتباك الجزيئي ينشّط الجسم. تشير نتائج متنوعة إلى أن الضغط النفسي المعتدل من أي نوع يكون مفيداً. تعيش الديدان الحلقية التي تقتات من كميات صغيرة من الزرنيخ لفترة أطول.

يبدو أن هذه الإيجابيات تترافق مع أضرار بارزة على مستوى الجينوم. لكن ينطبق هذا المبدأ على الرياضة ومصادر الضغط النفسي الأخرى. يقول ويتزكر: {حتى أثناء ممارسة الهرولة، تتعرّض الجينومات في الخلايا للهجوم}. في هذه الحالة، يؤدي أثر النشاط إلى تقوية العضلات.

يفترض ويتزكر وجود مبدأ عام يرتبط بالتجاوب مع الضغط النفسي، كأن يستطيع الجسم التأقلم مع أي نوع من التحديات المعتدلة: {بعد أسابيع من وضع قالب جبس، تضعف العضلات}! يحتاج الجسم إلى تجاوز قدراته من وقت إلى آخر، حتى لو اضطر إلى التعامل مع النشاط الإشعاعي.

لكن يعترف ويتزكر طبعاً بضرورة توخي الحذر عند التعامل مع الأشعة النووية، إذ يصعب أن نحتسب جرعاتها وآثارها. ولا يمكن إجراء تجارب على الناس لاستكشاف الموضوع. لكن يظنّ الباحث أن بعض المرضى سيكونون مستعدين لتحمّل نسبة صغيرة من المخاطر.

كل سنة، يموت نحو 56 ألف شخص في ألمانيا بسبب تسمّم الدم. يلتقط الناس هذه العدوى الكارثية في المستشفيات غالباً لأن المرضى يكونون أضعف من غيرهم. لكن لوحظ أن الوفاة تحصل بعد فترة طويلة من إزالة مسببات المرض من مجرى الدم بالمضادات الحيوية. ورغم غياب الميكروبات الضارة، يزداد وضع المرضى سوءاً. يقترب مرضهم من مرحلته الأخيرة تزامناً مع تعطّل عدد من الأعضاء. منذ فترة طويلة، اشتبه العلماء بأن جهاز المناعة يكون مسؤولاً عن هذه المشكلة: ربما يبدي رد فعل مبالغاً فيه على العدوى الأصلية.

جدل جديد

يأمل ويتزكر أن يتمكن من استعمال أشعة خفيفة لتهدئة الآليات الدفاعية الخارجة عن السيطرة. خطرت هذه الفكرة للمرة الأولى على بال زميله لويس مويتا في جامعة لشبونة. سبق وأثبت الأخير في اختبارات عدة على الفئران أنه يسير في الاتجاه الصحيح. نجا معظم الحيوانات التي تعرّضت للأشعة من تسمم الدم.

أضاف ويتزكر: {بالنسبة إلينا، إنه اكتشاف مدهش. قد نتمكن من إنقاذ حياة البشر بهذه الطريقة أيضاً}. سبق وحقن مويتا الفئران بمواد تُسَمّم الخلايا وتضرّ الجينوم وتحفّز على التعرّض للأشعة بدرجة معينة. أثبتت هذه الطريقة فاعليتها وبدأ استعمالها لمحاربة سرطان الدم عبر مهاجمة خلايا اللوكيميا.

تقدّم الباحثون بطلبٍ لإجراء دراسة عن هذا الموضوع. يُعتبر الأشخاص الذين أصيبوا بتسمم الدم ولن يعيشوا طويلاً وفق التقديرات الطبية مجموعة مناسبة للدراسة. تقضي الخطة بتعريض المصابين بأمراض ميؤوس منها للأشعة المحفّزة. سيكون هذا الخيار أملهم الأخير.

إذا نجوا، سيواجه الباحثون جدلاً جديداً عن القوة العلاجية للجينومات المدمَّرة.

back to top