وداعاً يا زكرين

نشر في 30-04-2016 | 00:00
آخر تحديث 30-04-2016 | 00:00
No Image Caption
أسندن ظهورهن إلى جدران البيوت التي تواجه البيادر، مظلّلات عيونهنّ براحاتهن، مادات أبصارهن إلى البعيد، على أطياف رجال عائدين تلوح، حاملة البشرى بعودة أحباء غابوا بعد أن تركوا الحسرات في القلوب.

وقفن بأثواب بالية بهت تطريزها، لا لأنهن لا يمتلكن غيرها، ولكن لأنه ليس من الرفاه للغيّاب أن يرتدين أثوابهن المطرّزة، أثواب الأعراس والأعياد، بينما رجالهن في بلاد بعيدة، لا يعرفن عن مصائرهم شيئاً.

علّمني الأولاد الصغار كيف يلبدون في الكروم القريبة المحيطة بالقرية، ليراقبوا الطرق المحيطة، حتى ينبّهوا النسوة الناطرات إن هم لاحظوا اقتراب جنود غرباء، راكضين وهم يشيرون مجذّرين بأيديهم وأصواتهم التي تسبقهم: عسكر... عسكر... فيتراكضن إلى بيوتهن، يتريّثن في إغلاق بواباتها حتى وصول الأولاد، والاطمئنان على عودة آخر واحد منهم.

اعتدن أن يوصدن بوابات الدور، ويتسلحن بالعصي والفؤوس عادة، عندما يسمعن قرعاً، أو صياحاً عالياً غير مطمئن. كان المختار أبو اسماعيل يطلّ عليهن بين وقت وآخر ليطمئنهن ويهدهد مخاوفهن، باثاً الأمل في نفوسهن القلقة.

سيعودون إن شاء الله، لا تخفن أنا في الداخل، وبوابة داري مفتوحة.

ثم يلوّح بطبنجته:

وهذه موجودة إن شاء الله لا نحتاجها.

يحاول أن يمطّ قامته القصيرة، وينصّب هامته موحياً بالهيبة، هو الذي آلت إليه المخترة بعد وفاة العجوز عبد الهادي قبل سنة واحدة من اشتعال الحرب، ولذا يردد لنفسه نادباً حظّه: يا فرحة ما تمّت... جاءت المخترة فنكّدت الحرب علينا!

باتت النسوة أكثر شجاعة من ذي قبل، بعد أن علمن أنّ الدولة انكسرت: وأن الجنود يفرّون ويعودون إلى قراهم البعيدة، والقريبة المجاورة: عجوز، دير الذبان، بيت جبرين، تل الصافي، زكريا، الدوايمة، رعناء، كدنا، صميل.

أخذت أعدادهن تتناقص بعد عودة بعض الغيّاب، لكن من تبقى منهنّ، ممن لم يعد غيابهن، واظبن على التجمع لصق جدار بيت المختار، قبالة البيادر، والتريّث هناك، وهن يتحسّرن على أيام راحة البال، أيام الحصاد، ودراسة المحصول، وأكياس القمح المتراصة المتساندة في ختام الموسم، وليالي الأعراس في الصيف، وزفات الفرسان والعرائس.

بعثت عودة بعض الرجال العائدين من الحرب بالسلامة في نفوسهن الشجاعة، بخاصة وقد أخذوا يتجوّلون حول القرية مرسلين نظراتهم بين التلال، وعلى سفوحها وقممها، ليكونوا أول من يرحّب بالقريب أو الجار، أو الصاحب، الذي تكتب له النجاة من الموت في الحرب.

كانت أيدٍ كثيرة عربية تطرق أبواب بيوتهن، وتلحّ بالكلمات القليلة نفسها: يكمك يا مستورة، لتردّ النسوة والأولاد بشيء من الفزع والتوتّر على الطارقين: يكمك يوك.

من سلمان تعلّمت نسوة القرية أن يؤدِّدن على الطارقين السائلين: بكلمتين تركيتين: يكمك يوك. فسلمان رغم خدمته في حرب الرومللي، وتقدّمه في العمر، إلا أنه اختبأ عند اصحابه البدو في بئر السبع، فهو لا يثق بأن الدولة لن تجرّه مرّة أخرى إلى الحرب، وتقتاده للسفر برلك، وهو شجّع بعض من لم يتمّ الاهتداء إليهم لأخذهم للحرب، على اللجوء للتلال المحيطة، والمغاور، والإقامة في الكهوف، والاعتناء بزوجاتهم، وبناتهم وأولادهم، وبكرومهم، وبأرضهم التي لشدّة خوفهم من مباغتة الجنود لهم، والقبض عليهم لاقتيادهم للحرب، ما عادوا يحرثونها.

أخوه مرشد، وابنه الأكبر محمد اقتيدا لحرب السفر برلك. لم يطاوعه محمد فيهرب، كما فعل شقيقه أحمد الأصغر منه، والقصير القامة، الذي التصق به لقب (القصير): “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين يابا”.

هذا ما ظل محمّد يردده إلى أن غاب وغابت أخباره.

أحمد شاطر مثل عصفور القرقز الحذر الذي يخدع الصيادين  بنطنطته، وترقيص ذيله، مقترباً ومبتعداً، ومرفرفاً بجناحيه فوق الفخ، ثم ينقضّ فيلتقط بمنقاره حبة من القمح المرشوش على الفخ لاستدراجه واصطياده، ويفرّ عالياً.

وأبو خليل، القرقز، لا يطرب للأغنية، بل يعلو وينقضّ ويلتقط الحبّ حبة بعد أخرى.

يا بو خليل

عمرك طويل

قرّب كمان

كمان شوي

يفرّ أبو خليل مرقّصاً ذيله، غير آبه بالأغنية التي تستدرجه للفخّ.. هكذا فرّ أحمد، ونجا من اقتياده للسفر برلك.

تنبّه أحمد إلى أن مجموعة جنود يظهرون فجأة، وهم يغذّون الخطى لمباغتة من يجدونه في طريقهم من رجال القرية.

أمسك بلوح صبّار، واستلّ شبريّته من حزامه، وضرب لوح الصبّار، وربما سال من عصارته دهن جفنيه وعينيه، قبل أن يسدد الجنود بنادقهم صوبه.

عرف أحمد أنه لو حاول الهرب فسيطلقون عليه الرصاص، ولذا لجأ إلى هذه الحيلة التي أضمرها في ذهنه، منذ بدأت مداهمات الجنود للقرية واقتيادهم الرجال للحرب.

وبعد أن هرب واختبأ في إحدى المغاور، التقى بوالده فأخبره بحيلته، بينما الأب يضحك ويضرب كفاً بكفّ معجباً بنباهة ابنه:

لفّوا حولنا حبلا، ثم ازداد عددنا عندما قبضوا على بعض الرجال من قرية الدير، فتخلّوا عن الحبل، وساروا وهم يحيطون بنا، بينما أنا أنظر في مشيتي، وأبتهل لهم أن يعيدوني إلى القرية... فماذا يستفيدون من شبه ضرير، بالكاد يرى أمامه، فما الذي سيفعله في هذه الحرب؟

الأب يضحك مستمتعاً بينما أحمد يروي له:

حرّضت من كانوا قربي، قلت لهم: سنموت في هذه الحرب بعيداً عن أهلنا.. فلماذا نموت؟ سألوني: ماذا نفعل؟ قلت لهم: نهرب. سألوني مندهشين: أنت أعمى تقول هذا؟ همست لهم: اتبعوني عندما أصيح: هاع.. وسترون ما سيفعله العمى.

صرنا قرب الدير المسوّر بالصبّار، فصحت وعيناي على منفذ ومخبأ بين ركب الصبّار: هاع.. وطرت عن وجه الأرض فتبعثر الرجال وصار كل واحد في جهة.. فمن أين لخمسة جنود أن يلحقوا بالجميع، ولمّهم؟ لبدت يابا تحت أشجار الصبّار مثل الواوي. أنا تحت الألواح المليئة بالشوك وهم ينظرون في كل الجهات ولا يرونني. سمعتهم يقولون لبعضهم: كلُّه من الأعمى.. الأعمى ابن الحرام.. ربما ليس أعمى، وإلا كيف ابتعد، واختفى؟! سمعت أحدهم يتوعّدني: آه يا أعمى يا كلب لو أمسكنا بك، سترى ما سنفعله بك... 

back to top