الفيشاوي

نشر في 30-04-2016 | 00:00
آخر تحديث 30-04-2016 | 00:00
No Image Caption
في “هاتور”، (أبو الذهب المنثور)، كنت أنكفئ على الطين الليّن، أدفن بذور القمح  باصابعي ثم بالشقّرُف  عندما تجاوزت السادسة عشرة. تنعجن قدماي الصغيرتان في المادة السوداء. يلفح وجهي الخمريّ وهج شمس “بؤونة”  واصبر، حتى تقذف أمي سرورة في فمي قطعة الشمع الصغيرة الغارقة في العسل خلسة أوان قطف النحل. يُرجِف صقيع “طوبة” جسدي النحيل ومن فوقه جلبابي البالي. أمرض بشدّة. تسعى أمّي سعي الصفا والمروة بين مقام سيدي هارون ومقام سيدي البهلول في قريتنا “فيشا النصارى” وتنذُر دجاجة إذا اشتدت عليّ الحمّى أو من البيضات خمساً إذا اشتدّ الحال بؤساً. تعود لتضعني في حجرها وتحمد الله ثم تجمع إخوتي وتقصّ الكرامة التي لا أنساها.

طلب البهلول من أخيه هارون أن يدعو له بدعوة تُستجاب، فدعا: “اذهب فكلّ ثم تغوّط”، فاستنكر أخوه الدعوة قائلا: ألا  تدعو لي بأخرى أفضل منها؟”.  فحُبس عنه الغائط ثلاثاً، فرجاه أن يكرر الدعوة الأولى فبرأ مما كان يعاني.

كانت أسعد لحظات حياتي عندما يجلسني أبي الشيخ عبدالله فوق كرسي “النورج” مع إخوتي بعد انحسار الفيضان في “بابه”، ثم يدور بالجاموسة السوداء التي تجرّنا حارثة أرضنا الصغيرة. هناك بالقرب من جامع “زينيا”، حيث حقول الكروم التي يمتلكها إلياس جاد الرب، كانت مغامرتي لأسرق عنقود عنب أحمر من الجنّة. وفي ليلة قمراء استطعنا أنا وأخي رجب نبش الأثر الذي وجده إيليا، راعي كنيسة العذراء، بالقرب من سورها الضخم، والتقطنا منه لوحة من النحاس الأصفر منقوشاً عليها الوصايا العشر بالقبطية القديمة كما سمعناه يردّد، خبأناها بعيداً عن الكنيسة تحت الطمي وكنا بجهل نعتقد أنها مسحورة فنلهو معها بشعاع الشمس الذي ينعكس على وجهينا من خلالها.

سوط ذلك الرجل التركي فوق ظهري أيقظني من الحلم الذي كنت أبصره أمام ناظريّ: أشجار المانجو  برائحتها التي ملأت أنفي في الأوسية المعفاة من عادة الفلاحة: برتقال وسفرجل وبرقوق يتعاقب كل منها على جِنان الأورفللي باشا.

ضَمُّ القمح في “برمودة”، ويوم الدِّراس، وصدري يعلو ويهبط من كثرة القفز فوق التبن مع إخوتي. أبي يكسو لحمنا: ستة أبناء. في هذا الموسم تطبخ لنا أمي سرورة الضأن، ثم تجمعنا حول حساء النابِت نحتسيه بنهم، تحكي عن ابيها “أبو حديد”- أقوى رجال قريتنا- عندما انطلق وراء شيخ البلد “بهنس” يريد النيل منه إذ وشى  بابنه “التوبة” ووضعه في كشوف السخرة. اختفى الرجل يوماً وليلة من القرية بأكملها. وقف أبو حديد على حافة الزراعية غاضباً وضرب النابوت بقوة في الأرض فغاص فيها حتى الثلثين، عاد إلى بيته في كمد ثم لم يصحُ من نومته الأخيرة.

لم أكن أعرف لماذا ينادون أبي بالشيخ إلا عندما بدأ في تحفيظي القرآن، وكان يصطحبني معه لأداء صلاة الجمعة في مسجد المعاركية، أما باقي الصلوات فكان يؤديها في الزاوية القريبة من دارنا. ظل أبي يرتدي الجلباب والقفطان فيبدو مثل الأزهريين وهو ليس منهم. عندما كنت أجسر وأنظر في وجهه، ولم تكن قامتي قد تجاوزت ركبتيه بعد، كنت أرى وجهه المستدير وشعره بلون الكستناء يزحف إلى فوديه من تحت العمّة البيضاء، تمتدّ شعيرات كثيفة من فتحتي أنفه الكبير الممتلئ، كذلك ذات الشعيرات تخرج من أذنيه. أتخيّل شجرة كبيرة من الشعر تسكنه ويشرب الماء ليرويها فتكبر، وكنت أحسب شعر أنفه يمتدّ من الداخل حتى صنع شاربه المفتول، وظللت أبحث طويلا عن لحظة يتّصل فيها شارب أبي بشعيرات أنفه قبل أن يقصّ ما يهمّنا فلم أظفر بها أبداً.

كان نحيلا وبشرته ليست على لون واحد، تزداد سمرة عند قدميه وكنت أحدّق من خلفه في طست الماء الكبير عندما يضعهما فيه وأرى تقرّح جلدهما وامتزاجهما بقيح أصفر يقشعرّ له بدني. انشغلت كثيراً بقدميّ والدي المريضتين، وكنت أراقب تدليك أمي يومياً لهما في الماء المملح. آهات أبي المكتومة وهو يتألم باتت تربكني، بين شعور عميق بالحزن وبين آخر مدهش: أن أرى له وجهاً آخر سوى تلك القوة والصلابة اللتين ترعباني. لم أكن أتصوّر أن يبكي مثلنا! في الحقل، لم يكن يستطيع الارتكاز على كعبيه، فيجلس القرفصاء، معتمداً على أصابع قدميه.

حجب الطين كل شيء، كل دماء سالت أو قيح أفرزه حجب حتى تلك الدمعة التي لم تكن لتهبط إلا فوق صدر أمي في جوف الليل.

سرورة عرفت بأنها أجمل بنات فيشا الصغرى والكبرى مجتمعين، أجمل من بنات الجوار في “تلوانة” و”جوران” و”كفر سنجلف”، لم يكن ينافسها في تلك المكانة سوى فتاة “هيت” التي لم نكن نعرف اسمها واشتهرت بحكايتها مع عاشق أحبّها فشقّ نفقاً طويلا عبر سنوات من قريته “سرو” وحتى قرية معشوقته، فصار اسم النفق مع مضي الوقت “سرب هيت”.

سرورة، الفتاة ابنة الثلاثة عشرة عاماً، لم يفلح رداء في إخفاء مفاتنها، لم تكن هناك طرحة أطول من ضفائرها، كانت مثل قلب الزهرة بين بتلاتها، أو ماء عين في الصحراء القاحلة. ريحُ سرورة تعطفه على من تمرّ بهم نسمة الصيف في قيظ لا يفلح معه ظلّ ولا ماء، رحمة لبشر هالكين في دار الفناء، سلوى في فقر لا يغنيه من شيء، كلمة ينتظرها الجميع لتسكن فوضى قلوبهم. طرف ثوبها وقد انبرى وتآكلت استدارته تنّورة درويش الحضرة الملوّنة، تلفّ الدنيا بالذاكرين... اسمتها والدتها “سرورة” حتى تخزي عيون الحسّاد في إلماح منها لبشرة سوداء، تكسو لحم الطفلة الرضيع، وذلك على اسم جارية والدة الأورفللي باشا الحبشية.

أن يولد طفل، لم يكن حدثاً مهماً في أي يوم من أيام فيشا، كان الأطفال يتساقطون من أرحام أمهاتهم الخصبة المخصّبة مثل ثمار من شجر اكتظّ وضاق بحمله. وحدهم الذكور يبهجون الآباء ويرفعون رؤوس الأمهات، أما الإناث فكنّ يجلبن الأحزان وهواجس العار المبكرة. بين هذا وذاك، كانت سيرورة فأل خير وولدت في ضمّة قمح لم تشهد فيشا مثلها من قبل، في فسحة من وطأة الأوبئة التي كانت تخطف الأنفس في المجاعة، وقد فاض النيل بعد نقصانه عاماً كاملا جفت فيه الأراضي وصار كل شقّ فيها يتّسع لاثنين... ترك الزمن سرورة ذكرى لوجه فرنسيّ المعالم أبيض مشرئب بحمرة، بعينين زرقاوين واسعتين وشعر أصفر طويل ناعم مثل صفحة نهر هادئ، كأنه يخلّف وراءه خضار الأرضين ويمنح السماء زرقتها.

بنى أبي بيت سرورة بفرح غامر، ودّ لو غرف بيده من النجمات في الأعالي ودسّ بين اللبنات، لم يعد يناديه أحد بعد زواجه منها بالشيخ “عبدالله حظ”. قصّت علي أمي كيف كان زواجهما في ليلة ليلاء، وكيف صكّت وجهها خجلا وهي تسمع دبيب رجليه قادماً باتجاهها بصحبة القابلة والبلانة، وكيف انسحبا في هدوء بينما تقدّم أبي ورفع عنها نقابها، وكيف شهق وهو يخلع عنه العمامة في جزع وظلّ يسبّح بحمدالله ثم يقول “لا حول ولا قوّة إلا بالله” ضارباً كفاً بكفّ. اندهشت أمي ثم قالت في نفسها: “زوجوني من شيخٍ مجنون!”.

سرورة قريبة فتاة هيت

كان ما يأكل قلبي حفاء أولادي، الثوب البالي قد تحييه رقعة من الجوخ، قد ألصقهم ببعضهم البعض وأجمعهم أمام فوهة الفرن كي أدفئ أجسادهم الصغيرة، وقد آخذ ما استطعت من لحمهم وأضمه في لحمي، أما المراكب فكيف أصنعها لهم؟ كنت أعلم من قبل زواجي أنها حكر فقط على الشراكسة  والإفرنج، وحتى “البابوش” التي ينتعلها الشيخ قدّمها إليه أحد أعيان قريتنا عندما حفظ ابنه القرآن على يديه، كنت أقلّبها ذات اليمين وذات الشمال أحاول أن ألتقط كيف صُنعت، فلا أجني سوى الدهشة وأعود لحيرتي وعجزي.

في تلك  الأيام الجافة كنت منشغلة دوماً بسدّ شقوق فاقتنا، رغم أن العُري لم يكن شيئاً مثبتاً في فيشا، ولا في أي مكان آخر حول وادي النيل في القرى المجاورة، ولكن المرء يخجل من أسماله البالية التي تكشف عن أجزاء من جسده. كنا جميعاً نعاني من لفحة الحرّ وعضّة البرد ولم نشكُ قط؛ من استطاع إلى مكساء سبيلا حقّ له أن يختبئ من لواحظ المجرمين: بطوننا شبه خاوية أحاول حشوها بالعجّور والخسّ والسريس، أملأ خواءها بالفول وأحياناً كثيرة بالترمس المدمّس، أحكم إغلاقه جيداً بالليمون النيلي وطين الطفل كما علمتني الأم ماريانا في كنيسة السيدة العذراء. ما يؤلمني أنني لا أستطيع أن أُطعم أبنائي من “العجوة”، أجمل شيء ذقته في هذه الدنيا.

back to top