CUBA... بلد التغيّرات السريعة!

نشر في 28-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 28-03-2016 | 00:00
No Image Caption
حضر البابا فرنسيس ثم رئيس الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما إلى كوبا، وتصل فرقة {رولينغ ستونز} قريباً. يريد الجميع الحصول على فرصة الاحتكاك بالاشتراكية للمرة الأخيرة قبل زوالها. لكن كيف ستكون زيارة كوبا اليوم؟ {شبيغل} بحثت عن إجابة.
كنت في الثانية عشرة من عمري تقريباً حين شاهدتُ كوبا للمرة الأولى. حصل ذلك خلال الثمانينيات وكنت أجلس حينها داخل صف في شرق برلين وأنظر إلى خريطة العالم السياسية، حيث انقسم العالم بوضوح بين لونَين: الأحمر ويشير إلى المعسكر الاشتراكي، والأزرق إلى الرأسمالي. حتى إن الأحمر مرّ بمنطقة الأطلسي وبلغ الأميركيّتين، وصولاً إلى قلب الإمبريالية القاتم. أشار أساتذتنا بفخر إلى بقعة حمراء صغيرة بالقرب من ميامي: إنها كوبا حيث عاش إخوتنا الاشتراكيون في الكاريبي.

في المرحلة اللاحقة، بقيت تلك البقعة الحمراء الصغيرة معرّضة للزوال. حين أردتُ السفر إلى كوبا للمرة الأولى في عام 1992، نصحني الناس بالاستعجال. لن تدوم كوبا القديمة لفترة طويلة! لقد لفظ الاتحاد السوفياتي أنفاسه الأخيرة للتو وكان منطقياً أن تحذو كوبا حذوه. في تلك الفترة، بدأت الاشتراكية حول العالم تندثر.

لكن مرّت عشر سنوات أخرى قبل أن أذهب أخيراً إلى كوبا  عام 2002. كانت لا تزال على حالها. لكن قال لي الجميع مجدداً إنها فرصتي الأخيرة. سبق وأصبح انهيار كوبا مزحة متداولة في تاريخ العالم.

ماذا عن الوضع الراهن؟ ربما حلّت تلك المرحلة المنتظرة أخيراً. إنها المعركة النهائية. بدأت كوبا تتغير وحضر باراك أوباما هذا الأسبوع إلى هافانا في زيارة تاريخية، وهو أول رئيس أميركي يزور كوبا منذ 88 سنة. هل هو مؤشر آخر على أن الثورة ستصبح قريباً جزءاً غابراً من التاريخ؟

تبدو النهاية منطقية أيضاً عند النظر إلى الوضع من ألمانيا التي مرّت سابقاً بمرحلة انتقالية خاصة بها. لكن حين نذهب إلى كوبا، يسود جو من الارتباك وسرعان ما نلاحظ أن الوضع معقد جداً هناك. ربما صمدت تلك البقعة الحمراء الصغيرة طوال تلك الفترة لسبب وجيه؟ فقد استمرت لفترة أطول من ألمانيا الشرقية! وربما حصل ذلك نتيجة الحكم الدكتاتوري أو من باب المصادفة؟ سافرتُ إلى هافانا وأنا أحمل هذا النوع من الأسئلة في عقلي. لنعد إلى عالم الاشتراكية!

ميل إلى الرأسمالية

ربما تأخرتُ في الوصول. كتب معظم المراسلين مقالاتهم عن مرور كوبا بمرحلة انتقالية منذ فترة طويلة. حتى إن البابا سبق وزار هذا البلد. لكني مقتنع بضرورة أن ننتظر وقوع الحوادث أحياناً قبل التحرك. التغيير مسار بطيء وكوبا بلد بطيء جداً. لذا لا يمكن أن يتأخّر أحد في الوصول إلى كوبا، بل يصل إليها الجميع في مرحلة مبكرة أكثر من اللزوم.

كان أول شخص قابلتُه في هافانا رأسمالياً. إنه المعلّم داريان غارسيا، رجل كوبي كاثوليكي عمره 38 عاماً. حين قابلتُه، كان يقف في صف كئيب في مركز اجتماعي تابع لكنيسة {دي رينا}. امتلأت القاعة بشباب ومسنين، رجالاً ونساءً. وكان الحشد كبيراً لدرجة أن الكراسي لم تكفِ الجميع. يعطي غارسيا دروساً في إدارة الأعمال بأسلوب يشبه النهج المستعمل في أي مركز تعليمي للراشدين. كان الصف بعنوان: {كيف تدير شركة صغيرة؟}.

يسهل اليوم أن يصبح الفرد صاحب شركة في هافانا الاشتراكية. يحتاج بكل بساطة إلى صورتين شمسيتين ومبلغ 30 بيزوساً لتقديم طلب وتلقي ترخيص من وزارة العمل لتشغيل {شركة خاصة}. لكن في الوقت نفسه، يصعب أن يصبح الفرد رجل أعمال في هافانا. يقول غارسيا: {لا يعرف الناس الكثير عن هذا الموضوع وأشعر أحياناً بأنني أعلّم مجموعة أولاد}. تسمح الحكومة راهناً بوجود 211 نشاطاً مهنياً خاصاً بحسب قول غارسيا، وتشمل تلك النشاطات: قيادة سيارات الأجرة، امتلاك المطاعم، تربية الحيوانات، تقليم أشجار النخيل، إصلاح الولاعات وإعادة ملئها. يُسمّى نظام المؤسسات الحر الجديد رسمياً {تحديث النموذج الاقتصادي في كوبا}. لكن للأسف، لا أحد يفسر لسكان كوبا مسار ذلك {التحديث}. هذا هو دور غارسيا.

قبل يوم من موعد الحصة، كنت أجلس في مكتب غارسيا الفوضوي في المركز الاجتماعي. كان يعلّم الاقتصاد في جامعة هافانا. في السنتين الأخيرتين، أعطى حصصاً مموّلة من الكنيسة الكاثوليكية للمهتمين بتأسيس شركات. تكون الدروس مجانية وتُعتبر أحد أكثر العروض غرابة في هافانا.

يتزاحم الناس لحضور حصص غارسيا، لكنهم يختفون بالسرعة نفسها: {في البداية، تسجّل 120 شخصاً لأخذ الدروس. حضر منهم 80 في اليوم الأول. وبعد ثلاثة أسابيع، لم يبق منهم إلا 60 وفي النهاية اقتصر العدد على 20}.

مسألة أخلاقية؟

قدّم غارسيا تفسيرين لهذا الوضع: أولاً، {تبدو الصورة التي يحملها معظم الكوبيين عن الرأسمالية أشبه بحكاية خيالية مستوحاة مما يشاهدونه في المسلسلات الأميركية وأفلام هوليوود أو ما يسمعونه من أقاربهم في ميامي. هم يرسلون لهم صور سيارات وأجهزة تلفاز جديدة وصور المطاعم التي يأكلون فيها. لكن لا أحد يسأل عن طبيعة الحياة وراء تلك الصور. لا يتساءل الناس مثلاً إذا كان أقاربهم يعملون في وظيفة بائسة، سبعة أيام أسبوعياً، لتحمّل كلفة تلك الحياة. يظنّ الناس هنا أن ميامي تشبه هافانا، لكن تكون الأموال وافرة في ميامي. ثم يأتون إلى حصتي ويشعرون بالخيبة حين أقول لهم: العملية ليست سهلة كما تظنون}.

يبدو هذا الوضع مألوفاً جداً بالنسبة إلي. لا تكون الرأسمالية جاذبة بقدر ما تبدو عليه في البلدان الاشتراكية. وبعد ترسيخ الرأسمالية، يدرك الناس أنها كانت تبدو أفضل عن بُعد.

يتعلق التفسير الثاني بالمشاعر السلبية. يوضح غارسيا: {وُلد 70% من الناس بعد الثورة. نحن جميعاً أبناء الاشتراكية وقد تربيّنا في المدرسة الفكرية الاشتراكية. ويُفترض بنا الآن أن نصبح رأسماليين فجأةً أو نعقد الصفقات فوراً؟}.

حتى غارسيا لا يريد أن يعقد الصفقات: {لا أعلّم الرأسمالية الصعبة في الحصص. أريد شكلاً أخلاقياً وعادلاً واجتماعياً من الرأسمالية، وأريده أن يلتزم بقيم البابا فرنسيس}. هل يمكن ترسيخ رأسمالية البابا فرنسيس غداة اشتراكية فيدل كاسترو؟

في طريق العودة إلى فندقي، فكرتُ بأن هذا الطرح ليس سيئاً، بل إنه أشبه بِحَلّ وسطي. أعيش في نظام رأسمالي منذ 26 عاماً، لكني ما زلت لا أفهم سبب وجود عشرات آلاف ماركات اللبن أو ما يجعلني أستثمر مالي في أسهم لا أريدها أصلاً كي {تعطي أموالي ثمارها}؟ ما الذي يدفعني إلى محاولة كسب الأرباح أصلاً؟ لماذا يتمحور كل شيء في الرأسمالية حول النمو؟ هذا ما يجعل الرأسمالية بغيضة وغير أخلاقية. ألا تشبه كل ما يمثّله دونالد ترامب؟

مشاكل الاشتراكية

تكثر المشاكل في النظام الاشتراكي أيضاً. نزلتُ في فندق {هابانا ليبر} القديم الذي فتح أبوابه في عام 1958 تحت اسم {هيلتون هابانا}. بعد بضعة أشهر، دخل فيدل كاسترو ورجاله إلى هافانا ظافرين وقد اعتُبر الفندق مقراً غير رسمي للثورة. أقام كاسترو في الجناح رقم 2324 طوال ثلاثة أشهر وكان يجري المقابلات مع الصحافة العالمية.

تقع غرفتي فوق ذلك الجناح، في الطابق الرابع والعشرين. لو كان كاسترو موجوداً هناك اليوم، كنت لأنزل إلى جناحه وأطرح عليه بعض الأسئلة بكل تهذيب. لماذا لا تعمل المصاعد مثلاً في الأنظمة الاشتراكية؟

يشمل الفندق ستة مصاعد وكانت ثلاثة منها معطّلة. أحياناً، تتعطل أربعة في الوقت نفسه. في الطابق الرابع والعشرين، أنتظر المصعد لفترة طويلة. كل يوم، أمضي بين 20 دقيقة ونصف ساعة وأنا أنتظر المصعد في مناسبات متكررة.

يقدم الفندق خدمة إنترنت ويكلف استعمالها خمسة دولارات في الساعة، لكنّ الاتصال بها بطيء لدرجة أنك قد تفضّل تحطيم حاسوبك! مع ذلك، أحتاج إلى الإنترنت. حين كنت أنزل إلى مكتب الاستقبال لشراء بطاقة الإنترنت، كنت أحصل على ورقة ويُطلَب مني الذهاب إلى مركز العمل. فأسلّم البطاقة هناك إلى امرأة تبدو عليها ملامح الضجر، وتعطيني الأخيرة أوراقاً إضافية يُفترض أن أوقّع عليها لسببٍ لا أعرفه، ثم توضع تلك الأوراق في ملف سميك. أخيراً، تعطيني المرأة رابع ورقة وعليها رمز استعمال شبكة الإنترنت.

هذا هو معنى الاشتراكية الكوبية على ما أظن: الانتظار المطوّل ووفرة الأوراق والجمود والبيروقراطية. تستنزف هذه المظاهر كامل طاقتك! شعرتُ بأنني استرجعتُ إحساس العجز الذي نسيتُه من أيام ألمانيا الشرقية، أي الشعور الذي ينتابنا حين نضطر إلى انتظار كل شيء: السيارات، مقعد في مطعم، اللحوم عند اللحام، موقع في منزل العطلة المُمَوّل من الحكومة.

إنه الشعور بضرورة انتظار مستقبل عظيم حيث يتحسّن الوضع على جميع المستويات.

المقاومة لم تذهب سدىً!

وسط هذا الإحباط، قابلتُ بيلايو تيري كويرفو، رئيس تحرير {غرانما}، أهم صحيفة في كوبا. كان {غرانما} اسم اليخت الذي وصل فيه كاسترو وجماعته إلى كوبا، ويشير الاسم إلى {الجهاز الرسمي للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الكوبي}، ما يعكس مستوى الانفتاح على التغيير داخل الحزب!

يبلغ كويرفو 49 عاماً وحين تدخل إلى مكتبه، ستشعر بأنك تقف في متحف الثورة. ثمة صورة ضخمة لتشي غيفارا أمام خلفية حمراء بلون النار. تنتشر أيضاً صور فيدل كاسترو وعُلّق على الجدار اقتباس طويل من عام 1958 حيث يتعهد كاسترو بمحاربة الأميركيين. وثمة كرسي دوار جلدي وأبيض اللون أيضاً. قال كويرفو: {إنه كرسي فيدل. لطالما جلس هناك وكان يأتي إلى الصحيفة كل يوم حتى منتصف التسعينيات}.

وقفنا أمام ذلك الكرسي الأبيض الفارغ وكأنه شبح. يكتب كاسترو حتى الآن المقالات في صحيفة {غرانما} من وقت إلى آخر. كتب حديثاً أنه لا يثق بالأميركيين. حتى كويرفو لا يثق بالأميركيين لكنه يؤيد التقارب بين البلدين: {تثبت العلاقات الجديدة مع الولايات المتحدة أن مقاومة الشعب الكوبي لم تذهب سدىً}.

نشأت صحيفة {غرانما} منذ 50 سنة، وهي تنشر 500 ألف نسخة، وتقتصر على ثماني صفحات رقيقة. على مرّ تاريخها، كان هدفها واضحاً: {الدفاع عن الثورة وإنجازاتها}. لكن في الفترة الأخيرة، أُضيف هدف جديد وغير مسبوق. يقول كويرفو: {يجب أن تعكس {غرانما} أيضاً وضع المجتمع بعيوبه وأخطائه}.

مثل الزعيم الكوبي راؤول كاسترو، وضع كويرفو خطة إصلاح للصحيفة ترتكز بشكل أساسي على توسيع هامش الانفتاح والنقاش. سحب كويرفو رسالة من الملف وأعطاها إلى المحرر. يتلقى مكتب التحرير نحو 10 آلاف رسالة سنوياً. غالباً ما تعجّ الرسائل بشكاوى عن الحياة الاشتراكية اليومية. تُطبَع رسائل قليلة منها كل يوم جمعة على صفحتين تحت عنوان {رسائل إلى المحرر}.

قال كويرفو وهو يلوّح برسالة: {سأرسل هذه الشكوى إلى وزارة الزراعة لأنها تتعلّق بمشكلة في الإمدادات. لديها 60 يوماً للإجابة. وإذا لم يكن الرد مناسباً، سنعلّق على المسألة في الصحيفة. لقد ابتكرتُ هذه الميزة الجديدة}.

يريد كويرفو أيضاً زيادة النقاشات في صحيفته: {إذا وقع جدل داخل المجتمع، يجب أن يتمكّن الناس من قراءة الموضوع في صحيفتنا}. شكّل مكتب التحرير في صحيفة {غرانما} مفاجأة حقيقية. يسهل أن نتوقع وجود موظفين مسنّين في صحيفة يديرها حزب محلي. لكن تبين أن عدداً كبيراً من الصحافيين العاملين في مكاتب صغيرة يتراوح عمرهم بين 25 و40 عاماً. حتى أن أميليا دوارتي ديلا روزا، رئيسة قسم الفنون، تشبه عارضات الأزياء.

ربما صمدت الثورة في كوبا لفترة طويلة لأن الشيوعيين الكوبيين جذابون بقدر هذه المرأة ولا يحملون أسماءً كتلك الشائعة في ألمانيا الشرقية (إريك، مارغو، غونتر)، بل إنها تشبه أسماء الشخصيات في الروايات.

التهيتُ كثيراً لدرجة أنني كدت أنسى أن أطرح سؤالاً أخيراً: {سيد كويرفو، ما الذي يريده الكوبيون فعلاً؟ إصلاح النظام أم إسقاطه؟}.

أجاب رئيس التحرير كويرفو: {يدعمنا 95% من الكوبيين}. أتساءل إذا كان مقتنعاً بما يقوله أو يريد إقناع نفسه بهذه الفكرة.

الحياة بعد فيدل وراؤول وتشي

استعملنا المصعد واتجهنا إلى القسم المخصص لأرشيف صحيفة {غرانما}، فوصلنا إلى عالم قديم ومغبر حيث يبدو العصر الحديث أبعد ما يكون عن الواقع. يحتوي الأرشيف على خمسة ملايين شريط داخل أدراج خشبية قديمة. لا نشاهد على الأشرطة إلا ثلاثة أسماء قصيرة: فيدل، راؤول، تشي.

لا مفر من أن نشعر فجأةً بعمق هذه الجذور: فيدل، راؤول، تشي. منذ انتصار الثورة قبل 57 عاماً، صادف كل شخص كوبيّ في حياته هذه الأسماء الثلاثة، عن قصد أو عن غير قصد، سواء كان يؤيد الاشتراكية أو يعارضها. كان دوايت أيزنهاور الرئيس الأميركي وكونراد أديناور المستشار الألماني في تلك الفترة. حتى أن فريق {البيتلز} لم يكن قد ظهر بعد. كانت الحياة تقتصر على فيدل وراؤول وتشي طوال 57 عاماً. لطالما كانوا حاضرين في كوبا. لكن ماذا سيحصل الآن وما هي الأسماء التي ستظهر في المرحلة المقبلة؟

كان أوباما أول من حضر إلى كوبا الجديدة. رئيس أميركي في هافانا: يصعب تصديق هذا الحدث الذي يبدو خيالياً بقدر ما كان الهبوط على القمر سريالياً. يبلغ راؤول كاسترو 84 عاماً وفيدل كاسترو 88 عاماً. بقيا في موقعهما تزامناً مع تلاحق عشرة رؤساء أميركيين وها قد أتى الرئيس الحادي عشر إلى بلدهما الآن لعقد السلام.

back to top