شقراء كالذهب

نشر في 26-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 26-03-2016 | 00:01
No Image Caption
هيثرو

عندما أعلن قبطان الطائرة بدء الهبوط التدريجي، كان أنفه ملتصقاً بزجاج النافذة الخلفية لطائرة طيران الإمارات يتأمل من السماء العاصمة البريطانية لندن. رويداً رويداً تلاشت المسطحات شديدة الخضرة لتحلّ مكانها مبانٍ حديثة براقة وأخرى أثرية تحمل الهوية الإنكليزية. أغمض عينيه، وأخذ نفساً عميقاً كأنه يتنفس هواء لندن البارد، وعلى الرغم من أنه لا يزال داخل الطائرة فإنه أصيب بقشعريرة ولسعة برد لطيفة منتشياً بما وقعت عليه عيناه.

استقرت الطائرة على مدرج مطار هيثرو الدولي. نزل “خالد” من الطائرة مسجلاً دخوله الأول لمدينة الضباب، وجد جموع المسافرين تتجه نحو إنهاء إجراءات الدخول، في الاتجاه الأيمن الخدمة السريعة fast track المخصّص لمسافري الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال، لا يُستثنى أحد إلا أصحاب الأعذار، أما في الجانب الآخر والأكثر اتساعاً - ليشمل جميع من لم يكن له نصيب من الخدمة السريعة - اصطف خالد في طابور حلزوني من المسافرين مختلفي الألوان والأعراق واللغات، وما شئت أن تشاهد من اختلاف البشر. موظفو الجوازات ليسوا أفضل حالاً من المسافرين، فهم من مختلف الأطياف أيضاً. على الرغم من طول الطابور فإنه يسير بسرعة جيدة نسبياً، لا أحد يتذمّر ولا أحد يحاول الالتفاف لاختصار المسافة. بعد نصف ساعة من الانتظار، وقبل أن يأتي دور خالد، جهّز جواز سفره والأوراق المتوقع السؤال عنها. بقي اثنان من المسافرين ولم يلبث أن جاء دوره ليجد نفسه أمام موظف هندي الهيئة، نظراته لا تظهر أي ترحيب، بادره خالد بابتسامة “كيساه صديق!” (كيف حالك؟)، أخذ الموظف الجواز وقال بحدة “أنا مواطن إنكليزي!”، أراد خالد تدارك الأمر “ني معلوم هيندو؟!” (ألا تعرف الهندية؟)، ازداد غضب الموظف وما هي إلا ثوانٍ حتى جاء شرطي إنكليزي يطلب منه مرافقته، لم يفهم خالد ما يجري، سمع كثيراً عن إجراءات المطار المتشدّدة لكن لم يدر في خلده أن يكون تصرفه مخالفاً للقانون.

أُجلس خالد في غرفة خشبية الجدران توجد فيها مرآة، بعد ربع ساعة جاء رجل الأمن ثانية وطلب منه جواز سفره، أخذ يتصفّح الجواز «هل هذه المرة الأولى التي تزور فيها بريطانيا؟»، خالد «نعم»، الشرطي «لماذا أتيت إلى هنا؟»، خالد «جئت للدراسة»، الشرطي «هل لديك رسالة من الجامعة؟»، خالد «نعم.. تفضل». أخذ الشرطي يتفحص الورقة ثم قال «لماذا تصرفت مثل هذا التصرف مع الموظف؟ المملكة المتحدة ترفض أي نوع من أنواع العنصرية»، أجاب خالد بلغة إنكليزية متوسطة «كل ما قمت به هو إلقاء التحية عليه بلغته!»، موظف الأمن «نعم، لكن الموظف أخبرك أنه إنكليزي ومع ذلك كرّرت اللغة نفسها»، خالد «وما المشكلة؟! أعتقد أنها لغة مفهومة بالنسبة إليه!»، موظف الأمن «حسناً سأعتبر تصرفك ناجماً عن حسن نية، أرجو أن تراعي فارق الثقافات، ويجب عليك أن تحترم الجميع، وأن تتجنّب أي تصرفات عنصرية»، خالد «حسناً». بعدها أرشده رجل الأمن إلى أحد الموظفين ليختم جوازه، ثم ذهب لأخذ حقائبه التي تنتظره.

خارج مبنى المطار، وجد طابوراً آخر من المسافرين ينتظرون دورهم للركوب في سيارة الأجرة. جاء دوره ليستقل «تكسي لندن» الكلاسيكي، بعد السؤال عن تكلفة الرحلة إلى مدينة ريدنج، أخبره السائق ذو الهيئة الباكستانية أن تكلفة الرحلة 120 جنيهاً وتستغرق 45 دقيقة تقريباً. لم يتوقع خالد هذا السعر الباهظ لكن لا خيار، فليس لديه أي فكرة عن وسيلة مواصلات أخرى كما أنه متعب من عناء السفر، لذلك وافق على السعر المقدم. ركب خالد بعد أن ساعده سائق سيارة الأجرة بحمل حقائبه. ربط خالد حزام الأمان، والتزم الصمت، كي لا يقحم نفسه في مشكلة أخرى غير متوقعة، وأخذ يتأمل الطريق الذي تحدّه خضرة شديدة. من الواضح أن الإنكليز يستقلون مركبات تناسب حاجتهم، فأغلب السيارات صغيرة الحجم، كما لفت انتباهه أن مقود السيارة على جهة اليمين وليس الشمال كما في أغلب بلدان العالم. «بعد نصف ساعة من السير لقد وصلنا مدينة ريدنج، هلاّ تفضلت بإعطائي العنوان؟!». قطع السائق اندماج خالد. أدخل بيانات العنوان في جهاز الملاحة، أما خالد فقد أخذ يتأمل المدينة التي سيسكنها للمرة الأولى، وما هي إلا دقائق حتى توقفت السيارة أمام منزل كبير مكسو بالحجر الأملس يعلوه قرميد أحمر داكن اللون.

وقف خالد أمام المنزل مترامي الأطراف، ظلّ يحدّق إلى حديقته الخضراء، أخذ الورقة للتأكد من العنوان. في ذلك الوقت كانت السماء ملبدة بالغيوم وبدأ المطر بالتساقط، أخذ يحدث نفسه «هل سأسكن في هذا المنزل الكبير والجميل... هل يعقل أن تحتاج هذه الأسرة إلى 500 جنيه إيجار غرفتي، فعلاً كما سمعت عن الشعب الإنكليزي إنه شعب متقشف إلى أقصى حدّ، إذا كان الأبناء يدفعون لأبيهم مبلغاً لاستئجار غرفتهم عندما يبلغون الثامنة عشرة من عمرهم، قد يكون أمراً عادياً من وجهة نظرهم...». «هل أستطيع المساعدة؟!»، قطعت هذه الجملة القادمة من حديقة المنزل تساؤلات خالد؛ كانت المتحدثة امرأة تبدو في أواسط العقد الرابع من العمر، بيضاء البشرة، شعرها أسود كلون الأبنوس الحالك، لم يجد الشيب له سبيلاً، يصل إلى كتفيها أو أقصر قليلاً، ولديها من الجمال حظ وفير، الطبقة الرقيقة حول عينيها ملساء عاكسة شباباً وصحة، بسيطة الهندام إلا أن في بساطتها أناقة لا تخطئها العين، ملامحها أقرب إلى العربية لكن لغتها فنّدت هذا الاعتقاد. تجمّد خالد الذي كان يحمل حقيبة ظهر ويداه ممسكتان بورقة العنوان. كررت المرأة السؤال بعد أن تقدمت نحو الباب ومنه إلى الخارج محتمية بمظلتها من المطر الذي بدأت غزارته تشتد. ما زال خالد صامتاً لكنه أعطاها الورقة، بابتسامة أخذت المرأة الورقة، وهو ما منحه شيئاً من الارتياح، قالت بعد أن عاينت الورقة «حسناً... إذن أنت طالب لغة في جامعة ريدنج»، خالد «نعم». عادت المرأة لقراءة الورقة، نظرت إلى خالد نظرة تختلف عن النظرة الأولى ليعود القلق إلى خالد «حسناً، اتبعني لو سمحت، هل تريد أن أساعدك بحمل حقائبك؟!»، رد بسرعة «لا لا لا.. سأحمل جميع الحقائب». تبع خالد المرأة التي كانت تحمل المظلة وهي تسير بقامة مستقيمة كاستقامة شمس الظهيرة، «بالمناسبة ما اسمك؟»، «اسمي خالد الثالث». ما إن سمعت الاسم حتى أطلقت شهقة قوية مسقطةً مظلتها، توقفت في منتصف الفناء غير مبالية بالمطر الذي بلّل ملابسها وشعرها، جاء وميض البرق ليكمل المشهد. أخذت تحدّق إلى خالد وفي عينيها ألف سؤال، ويقال إن العين تعكس ما في القلب. قالت بطريقة فيها كثير من الاستغراب «خالد!» ثم دوى صوت الرعد. «نعم! اسمي خالد هل هناك مشكلة؟!». مسحت وجهها المبلل، ويصعب القول إن كانت تمسح قطرات المطر أو دموعها!... بدت مترددة وهي تقول «لا... لا مشكلة، اتبعني لو سمحت». واصلت المرأة سيرها لتزداد حيرة خالد. في مرأب المنزل شاهد خالد سيارتين الأولى أودي Audi من فئة A7 والأخرى مرسيدس E300 كلتاهما حديثة.

داخل المنزل صالون واسع بحجم شقتين أو ثلاث من التي كان يسكنها؛ الصالون يوحي بنظافة لافتة؛ الأرضية الرخامية تبرق كأنها مطلية بالشمع؛ ويمتد الرخام ليكسو الجدران بالإضافة إلى ورق جدران مخملي داكن الزرقة. يحتوي الصالون على أثاث راقٍ ومرتب كأنه جيء به من قصر باكنغهام، حتى قطع الأثاث كانت ملمعة، الستائر لا تغطي النوافذ فحسب بل الحائط من أعلاه إلى أسفله، أما الثريات المتدلية من وسط السلم الحلزوني فهي تحفة فنية بحد ذاتها، كما توجد طاولة طعام خشبية فخمة داخل المطبخ المتداخل مع الصالون بالطريقة الأوروبية؛ كل شيء في ذلك الصالون تم اختياره بعناية فائقة. انتبه خالد إلى أن المرأة لاحظت سرحانه في هذا القصر المنيف، لكن لا لوم عليه، فهو لم يعتد على هذا المستوى الأسطوري إن صح التعبير. عاد التساؤل مجدداً “هل تحتاج هذه الأسرة إلى 500 جنيه؟!”. فتحت المرأة باب غرفة يقع في أحد أركان الصالون؛ الغرفة متوسطة الحجم تحتوي على سرير وكرسي يسع شخصين كما تتضمن دورة مياه. كان الغبار يكسو الغرفة، لا يخفى أنها لم تستخدم منذ فترة طويلة. “آسف، كما ترى لم أكن أعلم بقدومك اليوم، سأحضر من يرتّب الغرفة وينظفها في الصباح، نسيت أن أسألك من أين أنت؟”، “أنا من البحرين”. ارتاح خالد لأن المرأة لم تبدِ استغراباً آخر “هل تريد شيئاً آخر؟”، خالد “لا أستطيع أن أجد الثلاجة؟!”، “تستطيع استخدام ثلاجة المطبخ”. في الغرفة نفض خالد الغبار عن السرير، ثم فرشه بملاحف أخرجها من حقيبته، استلقى على السرير ثم استطرد بطرح التساؤلات: “ثمة سرّ ما! لماذا استغربت اسمي؟ ثم إن اسمي عربـي وليس إنكليزياً! حتى هذه الغرفة التي أنا فيها لا تتناسب مع وضع المنزل، فمن الواضح أنها مهجورة منذ زمن بعيد”. خلال تساؤلاته استسلم خالد للنعاس وغطّ في نوم عميق بعدما بلغ منه التعب مبلغاً.

back to top