«السادات»... مسيرة قائد مازالت تثير عواصف الجدل

نشر في 14-02-2016
آخر تحديث 14-02-2016 | 00:12
عبدالناصر كان يتسلى بمناداته بشيء من الاحتقار «البكباشي صح»
عالم‭ ‬رجالات‭ ‬السياسة‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬زاخراً‭ ‬بالأحداث‭ ‬وحافلاً‭ ‬بالمغامرات،‭ ‬لكن‭ ‬سيرة‭ ‬محمد‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬ليست‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬سير‭ ‬القادة،‭ ‬لما‭ ‬يتفرد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬القيادية،‭ ‬ولما‭ ‬تحويه‭ ‬سيرته‭ ‬من‭ ‬جدل‭ ‬كبير‭ ‬حول‭ ‬شخصية‭ ‬قائد‭ ‬قلما‭ ‬يتكرر‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭.‬

ويسرد‭ ‬كتاب "السادات"،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬32‭ ‬فصلاً،‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬السادات‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬ديسمبر‭ ‬1918‭ ‬بقرية‭ ‬ميت‭ ‬أبوالكوم‭ ‬بمحافظة‭ ‬المنوفية‭.‬

ويتضمن ‬الكتاب‭ ‬معلومات‭ ‬قيمة‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الوضع‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والمنطقة‭ ‬عموماً،‭ ‬لاسيما‭ ‬علاقة‭ ‬السادات‭ ‬بحركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين،‭ ‬ودخولها‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية،‭ ‬ومدى‭ ‬اختلاف‭ ‬توجهاته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬وغيره،‭ ‬عن‭ ‬سلفه‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭.‬

يذكر أن هذا الكتاب المثير للاهتمام متوافر في جميع المكتبات، وهو للصحافي في جريدة "لوموند" الفرنسية روبير سوليه، المولود في مصر عام 1964، والذي يتميز ‬بأنه‭ ‬يورد‭ ‬جميع‭ ‬الروايات،‭ ‬ولو‭ ‬متضاربة،‭ ‬لتعلقها‭ ‬بالأحداث‭ ‬التي‭ ‬غيرت‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر، وتاريخ الأمة العربية، بشيء من التفرد، ونقله من الفرنسية إلى العربية أدونيس سالم، وصدر عن دار "هاشيت نوفل"، بيروت 2015.

وتشجيعاً‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الحافل‭ ‬بالتشويق‭ ‬والإثارة‭ ‬تسلط‭ ‬‮ "الجريدة‮،‭ ‬عبر‭ ‬ثلاث‭ ‬حلقات،‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ .‬

ولد أنور السادات في 25 ديسمبر 1918، وظل يردد بحماسة وشغف طوال حياته: «كانت حياتي في القرية اكتشافات رائعة تعقبها اكتشافات، كناعورة تحمل إليّ، ملء القِلال، ماء سحريا من بئر سرية»، وتلك الجنة الواقعة في قلب دلتا النيل المصرية، كان اسمها في قرية «ميت أبوالكوم».

تخيلوا قرية لم تصل إليها مياه الشرب ولا الكهرباء، يتشاطر معظم سكانها وحيواناتهم مساكن مبنية بالطين، هناك كان الطفل أنور يجلس أرضا مع رفاقه في المدرسة القرآنية المتواضعة البناء، حافي القدمين مرتديا جلابية، وعلى ركبتيه كل ما يحتاج إليه من أدوات مدرسية.

زهران وأتاتورك وغاندي

دأب أنور على النوم فوق تنور الخبز، وسوق الماشية إلى الترعة لتشرب، والمشاركة في أعمال الري وقطاف القطن.

كان للطالب الصغير في المدرسة القرآنية بطل وهو زهران الذي روت له جدته حكايته بأنه الفلاح الذي أعدم عام 1906 بعدما دِين بقتل ضابط إنكليزي في قرية دنشواي القريبة من ميت أبوالكوم، وكان والده محمد الساداتي شديد الإعجاب بأتاتورك، وقد علق له صورة عند مدخل شقته.

في هذا الوقت أضيف إلى زهران وأتاتورك بطل آخر هو غاندي، ففي 1932 مر المهاتما بمصر في طريقه إلى أوروبا.

ضابط متآمر

في ذلك الحين كانت الكلية الحربية حكرا على أبناء الأرستقراطيين أو كبار البرجوازيين، لكن الاتفاق الذي وقع عام 1936 مع المحتل البريطاني سمح للجيش المصري بتوسيع نطاق التجنيد، فأتي ذلك في وقت مناسب تماما، لأن أنور الساداتي نال الشهادة الثانوية العامة في هذا العام، وكان يحلم بارتداء البزة العسكرية، لكنه كان بحاجة إلى «واسطة» شخصية مرموقة، فقصد والده طبيبا هو المايجور فيتز باترك، حيث سبق له أن خدم بإمارته في السودان، فكتب الأخير الشهادة المطلوبة عن طيب خاطر، وقال السادات لاحقا: «يشاء القدر أن الذي أدخلني الكلية الحربية واحد إنكليزي».

ازداد اقتناع التلميذ الضابط بأنه لا يمكن طرد البريطانيين من مصر إلا بالقوة، وكذلك بأن النضال من أجل الاستقلال لن يتحقق إلا بعد الإطاحة بـ»الحكومة الفاسدة» التي تحظى برعاية البريطانيين، تقرب السادات من تنظيم اجتذب إليه المناصرين هو «مصر الفتاة»، الذي يتزعمه محام يلهب النفوس يدعى أحمد حسين.

وذات مساء كان الرفاق المتحلقون حول نار المخيم يعيدون تشكيل العالم، روى السادات حكاية تلك النقاشات لاحقا، متحدثا عن «قسم منقباد» الذي ولدت معه، بحسب قوله، جمعية سرية، كانت جنيناً لمجلس الثورة المستقبلي، ونسب السادات خلال رئاسته إلى نفسه دور تأسيس «الضباط الأحرار» وقيادتهم.

كان أنور يسكن في منزل أبيه بالقاهرة، لكنه لم يعد عازبا، فقد عثر له على زوجة تكبره بعام واحد، اسمها إقبال ماضي، ابنة العمدة القديم في مسقط رأسه، تم القران في نوفمبر عام 1940 في ميت أبوالكوم، وسط احتفالات دامت ثلاثة أيام، حسبما تقضي التقاليد.

أنجبت له إقبال ثلاث فتيات هن «رقية وراوية وكاميليا»، تعايش الزوجان الشابان وسائر أفراد الأسرة بصعوبة، وشهد المنزل نزاعات محتدمة، وعلا فيه الصراخ، لكن الملازم السادات لديه اهتمامات من نوع آخر، فقد التقى في المعادي شخصية خارجة عن المألوف: الشيخ حسن البنا، مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين، ومرشدهم الأعلى، الذي سمح له بالقيام بجولة تفقدية على الجنود، فانبهر السادات بهذا الداعية الملتحي، المتدثر بعباءة حمراء، وأقر قائلا: «أعجبت به كل الإعجاب».

رسالة إلى رومل

عام 1941 أرسل السادات إلى مرسى مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ليخدم هناك بصفته ضابط إشارة في لواء مدفعية.

وحين قرر البرلمان المصري عدم المشاركة في الحرب، وصدر الأمر بترك البريطانيين يدافعون وحدهم عن المنطقة ضد قوات المحور، عزم السادات على الزحف إلى العاصمة لـ«الاستيلاء على السلطة» مع وحدات أخرى أجليت عن مرسى مطروح، وضرب موعدا لزملائه للقاء في فندق «مينا هاوس» على مدخل القاهرة، وروى: «ولكن شيئا من هذا لم يحدث، فعند مينا هاوس لم تكن هناك أي تجمعات، فغسلنا العربات وجلست أنا وجنودي في انتظار الوحدات، لكن عبثا انتظرنا، لابد أنهم سبقونا إلى القاهرة... قلت في نفسي». كانت تلك نهاية محاولة الانقلاب العسكري المزعومة.

ألا يجب الانحياز إلى جانب قوات المحور وتقديم المساعدة العسكرية لهم، مقابل الاستقلال؟ يؤكد السادات أنه جمع رفاقه الضباط للتناقش في الأمر، ثم كتب بنفسه «مشروع اتفاقية» بهذا الخصوص، وأرسله إلى رومل بالطائرة، مرفقا ببعض الصور لمواقع عسكرية بريطانية، لكن الألمان أسقطوا الطائرة خطأ وقتل قائدها.

خارج عن القانون

سجن السادات حين اكتشف الإنكليز اتصاله بضابطين ألمانيين، وأمضى ما يقارب عاما في «سجن الأجانب» بالقاهرة، حيث يعتقل من لهم صلة بالحرب، لكنه استطاع الهروب وظل متخفيا عن الأنظار.

وفي سبتمبر 1944 وضعت الحرب أوزارها، ورفعت الأحكام العرفية، فبات باستطاعة السادات التخلي عن تنكره، والعودة الى منزله وإلى حياته الطبيعية، ورغم أنه أصبح عاطلا عن العمل، فإنه ما إن ترك حياة الخفاء حتى عاد للاتصال برفاقه القدامى، ووجد نفسه وسط مجموعة صغيرة من المتآمرين، تعد للقيام بعملية اغتيال النحاس باشا، رئيس حزب الوفد، الذي فرضه السفير البريطاني على الملك ليعينه رئيسا للوزراء في فبراير 1942.

وتولى شاب اسمه حسين توفيق تصفيته، ولم يطل الأمر بالقاتل، فاعتقل واعترف، وعند الثانية فجر 12 يناير 1946 دهمت الشرطة منزل السادات الذي سيق إلى سجن الأجانب من جديد، ومع ذلك وبعد أربع وعشرين جلسة محاكمة قليلة الجدية، صدر على مطلق الرصاص، حسين توفيق الذي نجح في الفرار، حكم غيابي بالحبس 10 سنوات، وبُرئ السادات ومعه 10 متهمين آخرون.

جيهان

في عامه الثلاثين، عاد أنور السادات رجلا حرا مزمعا على أن تكون حريته تامة، كان غير وارد بالنسبة إليه أن يعود إلى زوجته إقبال، وقد طلب منها قبل أشهر عدة التوقف عن زيارته في السجن، وبدلا من العودة إلى منزل أبيه، حيث تعيش زوجته وبناته الثلاث، أقام في منزل رخيص الكلفة في حلوان وهي مدينة هادئة للعلاج الطبيعي تقع على مدخل القاهرة، ولم يلبث صديقه حسن عزت أن اقترح عليه اصطحابه إلى منزله في السويس.

يقول السادات: «في بيت حسن في السويس التقيت لأول مرة بجيهان، زوجتي، حيث كانت في زيارة لابنة عمتها زوجة حسن عزت، فقضيت معهم بعض الأيام». كانت تدعى جيهان رؤوف، ولم تكد تتجاوز عامها الخامس عشر، لم تصدق أذنيها حين قيل لها إن أنور السادات وصل إلى منزل ابنة عمتها، فقد قرأت الكثير من المقالات التي تتحدث عنه، فتروي «إن هذا الرجل قد جسد كل ما أعجب به وأرغب في أن أكونه، لقد كان بطلا، بينما كان أقراني من الفتيات يبهرن بنجوم السينما والمغنين العاطفيين كان أنور السادات بطل كل أحلامي».

عميل مزدوج

في شهر يناير عام 1950 وبوساطة من طبيب الملك يوسف رشاد، استطاع السادات مقابلة محمد حيدر باشا القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي خصص له استقبالا يخلو من كل ترحيب «أنت مجرم... وتاريخك أسود»، ومن دون أن يتيح للمعتقل السابق التفوه بكلمة واحدة نادى مدير مكتبه وأمره: «هذا الرجل يعود الى الجيش اليوم».

فاستعاد رتبته نقيبا في الجيش، ووضع في تصرفه سيارة وسائقا وخادما، ومن بين أوائل من جاؤوا لتهنئته كان جمال عبدالناصر، الذي عين بعد عودته من السودان عام 1941 مدرسا في الكلية الحربية قبل أن يتميز في حرب 1948 ضد إسرائيل ويصاب بجروح على الجبهة.

ألح عبدالناصر وصديقه المخلص عبدالحكيم عامر على السادات لتقديم امتحانات بهدف تعويض الوقت الضائع والترقي في الجيش مثلهما، فرد المعتقل السابق بأن فرصه في النجاح معدومة، لأن تقنيات الاتصالات العسكرية تطورت كثيرا منذ 1942، لكن الضباط الأحرار لديهم ما يكفي من النفوذ، وما على النقيب إلا أن يكتب ما يستطيع كتابته في أوراق الامتحانات التي ستستبدل بأخرى تحوي الإجابات الصحيحة، وقد كان، ورقي النقيب إلى رتبة رائد في انتظار أن يصبح مقدما.

تفجير السفارة البريطانية

يقول السادات: «طلب مني عبدالناصر ألا اقوم بأي نشاط سياسي واضح، لأنني بسبب تاريخي النضالي لابد أن أكون بطبيعة الحال مراقبا»، ومع ذلك فقد قبل السادات في عداد أعضاء اللجنة التنفيذية للتنظيم، ويؤكد أنه ثنى عبدالناصر عام 1951 عن الشروع في سلسلة من الاغتيالات السياسية، والواقع أنه هو من ترك عن نفسه صورة الرجل الميال إلى العنف والمؤيد لعمليات الاغتيال، لاسيما قبل عودته الى الجيش.

كما أن اللجوء الى الإرهاب كان أحد أسباب القطيعة التي وقعت عام 1949 بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين، بعدما شهدت العلاقات بينهما تراجعا في أثناء حرب فلسطين، فقد اغتال الإخوان النقراشي باشا في ديسمبر 1948، وبعد أسابيع قليلة ردت الشرطة السياسية بقتل مرشدهم الأعلى حسن البنا، وخلال عام 1951 قام السادات بعدة أعمال تخريبية.

وفي  يناير عام 1952 أقنع الضباط الأحرار اللواء محمد نجيب بالترشح لرئاسة نادي الضباط في مواجهة مرشح القصر، فحقق الفوز بأكثرية ساحقة، وهو ما أثار سخط الملك فاروق الذي رفض نتيجة الانتخابات، واستبدل نجيب بضابط آخر مقرب منه هو اللواء حسين سري عامر.

الثورة

عاد أنور السادات إلى مركزه في سيناء، لكن موفدا من عبدالناصر اتصل به يدعوه للذهاب إلى القاهرة، لأن الأحداث تسارعت، حيث يروي السادات «في 21 يوليو أرسل عبدالناصر رسالة إلي مع حسن إبراهيم تسلمتها في مطار العريش، يطلب مني فيها أن انزل الى القاهرة يوم 22 يوليو لأن الثورة قد تحدد لقيامها ما بين ذلك 22 يوليو و5 اغسطس»، وفي التاريخ نفسه، أي يوم 22 يوليو 1952، ذهب السادات الى السينما مع زوجته وأولاده وحمويه، وكان ذلك محل استفهام، هل هو للتمويه أم مقصودا؟

وحين وصل السادات طلب إليه عبدالناصر اختبار الخطوط الهاتفية التي تربط القاهرة ببرزخ السويس، والاتصال بمختلف الوحدات للتأكد من أن كل شيء يسير وفقا لما أعد له المخططون للثورة، واقتصرت مشاركته في الانقلاب ليلة 22-23 يوليو 1952 على هذا الأمر، وإذاعة خبر الانقلاب عبر الإذاعة بصوته لأن لديه «صوتا قويا ويجيد الإلقاء».

أباراتشيك... وداعة

بعد ان أصبح السادات من سادة النظام طرح جمال عبدالناصر السؤال التالي على رفاقه وطلب تصويتا: «هل يجب أن تبقى مصر ديمقراطية أو أن تصبح دكتاتورية؟». وللمفارقة فإن عبدالناصر كان هو الذي سيصبح لاحقا السيد المطلق للبلاد، وهو الوحيد الذي صوت مع الديمقراطية، في حين كان أنور السادات من بين أشد المدافعين عن الدكتاتورية باسم «سرعة الإنجاز»، إذ أكد قائلا: «الشيء الذي ننجزه بالطريق الديمقراطي في سنة يمكن إنجازه عن طريق الدكتاتورية في يوم». كان السادات مقتنعا بأن القائد غير مضطر للخضوع لأي تصويت.

وخلافا لأعضاء آخرين في مجلس قيادة الثورة عُهد اليهم بحقائب وزارية في عام 1953، لم يدخل السادات الحكومة ولم ينل سوى وزارة دولة في نهاية العام التالي، حين تولى عبدالناصر رئاسة حكومة جديدة، بعدما تخلص من اللواء نجيب.

وعاشت مصر حقبة من الشائعات والمؤامرات وحظر تنظيم الإخوان المسلمين الذي اشتبه في نيته الاستيلاء على السلطة، فتحول الى العمل السري، وفي أكتوبر 1954 اتهم التنظيم بالإعداد لمحاولة اغتيال عبدالناصر باءت بالفشل، وفي الشهر التالي أعدم ستة من أعضائه شنقا بعدما حوكموا أمام «محكمة الشعب».

رئيساً للمؤتمر الإسلامي

لم يكتف السادات بأنه لم يعارض عبدالناصر قط، بل كان دائما على اتفاق معه، واعتاد التعبير عن ذلك بأن يهتف بكلمة «صح»، كلما عبر سيد البلاد عن رأي، وكان عبدالناصر يتسلى بذلك، حتى إن البعض سمعه يلقب السادات بشيء من الاحتقار «البكباشي صحّ».

في 26 يوليو 1956 منعه التهاب حاد في المعدة والأمعاء من مرافقة عبدالناصر إلى الإسكندرية، حيث كان على الأخير أن يلقي خطابا بمناسبة الذكرى الرابعة لتنازل فاروق عن السلطة، فقال له بشكل مبهم الرئيس الجديد للجمهورية «أصغ إلى ما سأقوله عبر الإذاعة»، وبالفعل تلقى السادات عبر الأثير، مذهولا شأنه شأن الجميع، خبر تأميم الشركة العالمية لقناة السويس.

بعد المؤتمر الإسلامي بدأ السادات يتبوأ المناصب المختلفة التي لا نفوذ لها، وفي عام 1957 انتُخب مجلس للأمة يخضع تماما للسلطة، واقترح عليه عبدالناصر رئاسة ذلك المجلس، الأمر الذي قبله السادات بسرور، لكن الرئيس عاد عن قراره بعد يومين، وعين في ذلك المنصب أحد الضباط الأحرار وهو عبداللطيف البغدادي.

وفي ديسمبر 1958 ولدت الجمهورية العربية المتحدة، ورافقت الاحتفال بها نشوة عارمة، إذ باتت مصر وسورية بلدا واحدا في انتظار ان تنضم اليهما بلدان أخرى، وبناء على طلب الرئيس قبل السادات بانتخابه رئيسا لمجلس الأمة الاتحادي بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة في صيف 1960، كان ذلك اللقب طنانا لكنه يمنحه سلطة أقل بكثير من سلطة عبدالحكيم عامر الذي عين قائدا للجيشين المصري والسوري برتبة مشير، إضافة الى منصب نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة.

في ظل عبدالناصر

يعترف السادات في مذكراته قائلا: «بانتهاء الخمسينيات ودخول الستينيات، بدأت الثورة فترة المعاناة والآلام والهزائم والنكسات والأخطاء البشعة من جانبنا». لكن ضمير «نا» هنا يعني الآخرين، أي أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم، الذين كانوا ذوي مطامع، ويتصارعون ويكنون لعبدالناصر «كمية هائلة من الحقد»، أما هو فلا يملي عليه أفعاله إلا المصلحة العامة، ويعتبر أنه لا مكان له في «عالم خال من الحب».

في مارس 1964 أصبح السادات أخيرا رئيساً لمجلس الأمة، لكن تلك الألقاب الطنانة لا تعني أنه كان يمسك السلطة، فهي في الجوهر وظائف تمثيلية، تحجب السلطة الحقيقية المجمعة كلياً بين يدي عبدالناصر.

وفي 1965 نشر مديحا حقيقيا للرئيس بعنوان «يا ولدي، هذا عمك جمال»، حيث يذكّر ابنه الذكر الوحيد، وعمره تسعة أعوام بأنه سماه على اسم الرجل العظيم «صديقي، ورئيسي، الذي أحبه وأحترمه منذ أن كنا ضابطين صغيرين في عام 1938». والإنجاز الأهم في تلك السنوات كان بناء السد العالي في أسوان، وهو أحد أضخم السدود في العالم.

حرب الأيام الستة

في 6 أبريل 1967 أسقطت ست مقاتلات ميغ سورية فوق دمشق، في حين كانت مصر وروسيا مرتبطتين بميثاق دفاع مشترك، وفي صباح 5 يونيو علم أنور السادات عبر الإذاعة أن الإسرائيليين شنوا هجوما على مصر، فقال في نفسه إنهم «سيتعلمون درسا لن ينسوه مدى الحياة، كانت ثقتي بالنصر أكيدة، فعدتنا أكثر من كافية والخطة محكمة للغاية»، ولم تتأخر الإذاعة في نقل اخبار انتصارات الدفاع الوطني، فوصفت الطائرات العدوة بأنها تتساقط كالذباب، ونحو الساعة الحادية عشرة ذهب السادات الى مقر القيادة، وهناك ذُهل حين علم أن سلاح الطيران المصري قد ضرب بأكمله تقريباً وهو على الأرض. انتهى كل شيء منذ البداية، فحرب الأيام الستة لم تكن سوى حرب ساعات ست... فتوجه عبدالناصر بكلمة الى المصريين مكسورا، واعترف من خلالها بالمسؤولية الكاملة عن الكارثة التي حلت، واعلن استقالته.

مهما يكن من أمر فقد أصبح السادات رفيقا حقيقيا للرئيس، يقول هيكل شخصيا: «في هذه الأوقات الصعبة، زاد السادات قربا من عبدالناصر، وكان بيت السادات في الهرم هو المكان الوحيد الذي يستطيع جمال عبدالناصر ان يذهب إليه لكي يقضي فيه، بين حين وآخر، ساعات مع صديق لم يكن يضغط على أعصابه».

نائباً لرئيس الجمهورية

كان على عبدالناصر المشاركة في «مؤتمر لتحرير فلسطين»، نظمه الملك الحسن الثاني في العاصمة المغربية، وفي ديسمبر 1969، وقبل سفره إلى الرباط، عين السادات نائبا لرئيس الجمهورية.

وبذل عبدالناصر كل ما بقي لديه من طاقة في نهاية صيف 1970، في مسعى للمصالحة بين الملك الأردني حسين وياسر عرفات، بعد مواجهات الاخوة الدامية التي اندلعت بين الجيش الأردني والمقاومة.

تكللت القمة العربية، التي نظمها عبدالناصر في القاهرة، من 22 الى 28 سبتمبر 1970، بالنجاح، ووافق الملك حسين وعرفات على أن يتعانقا أمام عدسات المصورين، ولو أن أنهار الدم التي سالت في الأردن لم تجف إلا بعد وقت طويل، ورافق الرئيس المصري منهكا آخر ضيوفه، أمير الكويت، إلى المطار، وأحس بالعرق يتصبب منه عند سلم الطائرة، وعجز عن أن يخطو خطوة إضافية واحدة، فأعيد إلى منزله، مصابا بأزمة قلبية حادة، سببها تخثر الدم في الشريان التاجي، ورافقتها آلام شديدة في الصدر، وعند السادسة مساء ورد اتصال هاتفي إلى السادات استُدعي فيه على عجل إلى منزل الرئيس، الذي كان قد فارق الحياة وأحاط به الأطباء باكين.

السادات يذيع بصوته خبر الانقلاب

عندما وصل السادات إلى مقر الإذاعة انتظر انتهاء المقرئ من تلاوة آيات من القرآن الكريم، كما درجت العادة كل صباح، ثم قرأ البيان بكل ما يقتضيه الموقف من هيبة: «اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين... تآمر الخونة على الجيش وتولى أمره إما جاهل أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا... ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب... الجيش كله أصبح يعمل لصالح الوطن».

back to top