«سايكس – بيكو» الثانية

نشر في 13-02-2016
آخر تحديث 13-02-2016 | 00:01
 عبداللطيف مال الله اليوسف ما بقي فينا من رمق قومي عربي ربما لن يكون كافياً مقارنة بما سيواجهنا من محن لاحت بوادرها باقتراب الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية سايكس – بيكو؛ ففي 16/5/1916، اجتمع مندوب المملكة المتحدة البريطانية في الشرق الأوسط مارك سايكس بممثل فرنسا مسيو/ جورج بيكو، وأبرما بينهما اتفاقية سرية لاقتسام المشرق العربي الذي كان خاضعاً لسيادة دولة الخلافة العثمانية بعد أن تجمعت نذر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا وفرنسا، وبعد فراغهما من رسم خيوط مؤامرتهما عرضاها على روسيا القيصرية حليفتهما ضد ألمانيا وتركيا، وقد باركت روسيا هذه الاتفاقية في مقابل عقد اتفاق تعترف فيه الدولتان بحق روسيا في ضم إسطنبول والمضايق التركية (البوسفور والدردنيل) بعد انتهاء الحرب، وقد كان لهذه الدول الثلاث ما أرادت.

بموجب هذه الاتفاقية تم تقسيم المشرق العربي (باستثناء شبه جزيرة العرب) إلى خمس مناطق، ومؤدى هذا التقسيم هو سيطرة فرنسا على سورية وسيطرة بريطانيا على فلسطين والعراق، وقد نجم عن هذه السيطرة سلخ بريطانيا لإقليم الأحواز من الأراضي العراقية وتقديمه إلى إيران في عام 1925، وتنازل فرنسا عن لواء الإسكندرونة السوري لتركيا في عام 1939، واقتطاع لبنان من سورية، وفصل شرق الأردن عن فلسطين، وما بقي منها قدمته بريطانيا هدية ليهود العالم تنفيذاً لوعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور لرئيس المنظمة الصهيونية اللورد روتشيلد المؤرخ في 2/11/1917.

بقيت هذه الاتفاقية سراً لكون رحى الحرب لم تزل دائرة، فلم يعرف بها العرب المنهمكون في ثورتهم الكبرى ضد دولة الخلافة العثمانية وفاءً منهم بوعودهم لبريطانيا بمنح العرب استقلالهم عن تركيا في حالة هزيمتها، ولكن باندلاع الثورة الروسية في أكتوبر 1917 اكتشفت هذه الاتفاقية التي لم يصدقها الشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية حتى انتهت الحرب بهزيمة تركيا ووضعت بريطانيا وفرنسا هذه الاتفاقية موضع التنفيذ، فاندلعت حركات التحرر العربي لمواجهة الهيمنة الأجنبية الجديدة، ولم يكتمل العقد السادس من القرن العشرين إلا وقد حققت معظم حركات التحرر العربي أهدافها في مشرق الوطن وفي مغربه، وتحولت إلى تيار جارف رغبة منها في الوحدة بلغت أوجها بإعلان الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، إلا أن القوى العالمية المناهضة لأي حركة انبعاث عربي عملت على وأدها بمحاربتها حرباً آلت نتائجها إلى انهيارها عام 1961 مؤذنة بأفول شمس هذه اليقظة العربية التي أشرقت في 24/7/1920، عندما خاض يوسف العظمة وزير الدفاع السوري معركة ميسلون ضد القوات الفرنسية المتقدمة لاحتلال أرض الوطن السوري.

انهيار الوحدة بين مصر وسورية مثل الانتكاسة الأولى لحلم العرب القومي، ولكنه لم يوهن عزيمتهم وعادت بينهما مرة أخرى عام 1967، عندما حشدت القوى العربية تضامناً مع سورية ضد التهديد الإسرائيلي المسنود من قبل الولايات المتحدة، إلا أن هزيمة العرب عام 1967 مثلت الانتكاسة الكبرى، حيث إنها طالت الجسد العربي عندما اقتطعت مرتفعات الجولان السورية رهينة ولم تزل لدى الدولة الصهيونية، وبهذه الحرب تحولت قيادة المعركة ضد الوطن العربي من بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة التي سبق لها أن أقصتهما عن التأثير في المسرح السياسي لمنطقة الشرق الأوسط بعد الاعتداء الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي) ضد مصر عام 1956 إثر تأميم مصر لمرفق قناة السويس، ومن ثم بدأت الولايات المتحدة تعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية، فحرضت العراق على غزو الكويت واحتلاله، وما إن تم له ذلك عام 1990 حتى تخلقت الولايات المتحدة بأخلاق الكاوبوي الأميركي الشهم من إدانة لهذا الاحتلال إلى المطالبة بالانسحاب فالقيام بضربه وتحطيم جيشه في عام 1991، ثم بدأت تتحدث عن وطن قومي لأكراد العراق فكانت محافظات السليمانية وأربيل ودهوك وانتهت بصدور قرار من مجلس الأمن لرعاية وحماية هذا الوطن، ولكن عندما بقي العراق متماسكاً لم ينفرط عقده تم ضربه عام 2003 تحت حجة امتلاكه أسلحة نووية وعلاقته بتنظيم القاعدة، ما نجم عنه تغيير نظام الحكم فيه وتمكين أحد المكونات من مقاليد الحكم ليغرق العراق في الفوضى والاضطراب، وفي حال أسوأ من حاله إبان السيطرة البريطانية، وبدأ الحديث عن تقسيم العراق إلى أقسام ثلاثة كردي وعربي سني وعربي شيعي.

حدث كل هذا للعراق على مرأى ومسمع من الشعب السوري بكل مكوناته وأطيافه، بما فيها المعارضة السورية، وعلى مدى سبعة أعوام قبل اندلاع الثورة ضد النظام الحاكم، وكانوا يرون كيف يتمزق العراق ويدمر وشاهدوا العراقيين وهم يهيمون في أصقاع الأرض طلبا للنجاة، كل ذلك بسبب الاستدراج الأميركي للقيادة العراقية الساذجة.

 غير أن كل هذه الأدلة على الخداع الأميركي لم تمنع المعارضة السورية من الوقوع في شرك الإدارة الأميركية عندما وعدت المعارضة السورية بتزويدها بالأسلحة غير الفتاكة، فقبلت بالمواجهة المسلحة مع النظام اعتقادا منها أنه إذا ما ساءت الأوضاع الميدانية فإن الولايات المتحدة ستتدخل ضد خصمها الذي طالما اتهمته المعارضة السورية بأنه عميل للغرب راعي إسرائيل وحاميها، وأنه لم يطلق طلقة واحدة ضد العدو الإسرائيلي على مدى فترة احتلاله لمرتفعات الجولان منذ عام 1967، فهل يعقل أن تستبدل الولايات المتحدة بالنظام السوري الحالي المستبد نظاماً ديمقراطياً وطنياً في سورية؟ ألم نتذكر مقولة الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون بأن هؤلاء العرب لا تصلح لهم الديمقراطية؟ ألم تحارب الولايات المتحدة (بعد اطمئنانها إلى انحسار موجة المد القومي العربي)؟ ألم تحارب الإسلام السياسي الذي فرضته الديمقراطية وكيف اعترضت على فوز "حماس" بالنتائج الديمقراطية النيابية الفلسطينية، وعارضت فوز الإسلاميين بالانتخابات النيابية المصرية؟

هل فات المعارضة السورية أن أميركا أكثر مكراً من التفريط في الاختراق النظيف عبر الفوضى الخلاقة؟ ألم تقتنع المعارضة السورية أن الولايات المتحدة تهدف إلى الإفراغ الديمغرافي للوطن السوري عندما رفضت الاقتراح التركي بإقامة منطقة آمنة لمشردي الشعب السوري قرب حدودها مع سورية؟ لقد باعت الولايات المتحدة الشعب السوري عندما أعلن النظام أنه لن يستخدم أسلحته الجرثومية والكيماوية إلا دفاعاً عن أرض الوطن السوري؟ وكيف فهم الغربيون هذا التصريح على أنه دعوة مبطنة مفادها أن تعالوا نعطكم ما تريدون لحماية أمن إسرائيل على أن تعطونا ما نريد، وهو الديمومة والاستمرار.

بعد هذه المقايضة كم من الخطوط الحمراء تجاوزها النظام دون أن تنفذ الولايات المتحدة وعيدها ضده؟

لقد بدأ تنفيذ المرحلة الثانية لاتفاقية "سايكس – بيكو"، فبعد تقسيم العراق جاء الدور على سورية، وما انفصال عين العرب وتل أبيض والحسكة إلا مقدمة لتقسيم أكبر للوطن السوري على أسس جديدة، ولذلك فإنه إذا ما سلمنا بأن النظام السوري كان جائراً في حكمه لوطن ظل متماسكاً، ولشعب كان مستقراً في هذا الوطن المتماسك، فإنه يحق لنا تخطئة المعارضة السورية على معالجتها لأخطاء النظام بأخطاء ارتكبت من جانبها، إنها لمقابلة محزنة تفضي إلى مفارقة محزنة، فإذا ما كانت بريطانيا وفرنسا قد صنعتا "سايكس – بيكو" الأولى، فإننا نحن العرب نصنع "سايكس – بيكو" الثانية.

back to top